كتاب مقاصد الرعاية لحقوق الله عز وجل




لم أقرأ لـ المحاسبي قبلا ، سمعت عنه وكنت كلما هممت للبحث عنه انشغلت ، وهكذا الى ان كنت اقرأ فى كتاب فطل اسم المحاسبي فقمت من وقتى وبحثت عنه والحمد لله وجدته فى هذا المنتدى : http://www.mktaba.org/vb/archive/index.php/t-653.html


وها انا اقرأه وسوف تلاحظون التنسيق فكل تنسيق يعنى هو بلوغ هذا النصيب من القرآه ، والكتاب الى الذى قرأته مهم ومفيد لكل من يريد السير الى الله لكن عموما من شاء فليقرأ فاذا وجد فيه ما وافق الشريعة اخذ وان لم يجد فليضع اجره والوقت الذىصرفه الى الله والله من وراء القصد فنعم المولى ونعم النصير ونعم المعين ولا حول ولاقوة الا بالله العلى العظيم
بقت اشارة بسيطة وهوان كنية المحاسبي ترجع لمحاسبته نفسه وله فى ذلك قول تجدونه فى الكتاب منسوب الى عمر بن الخطاب رضى الله عنه والى الكتاب :

محمد مصطفى
09-01-2006, 09:30 AM
كتاب مقاصد الرعاية لحقوق الله عز وجل



تأليف : سلطان العلماء
عز الدين: عبد العزيز
بن عبد السلام السلمي

الناشر : دار الفكر ، دمشق

الطبعة الأولى : 1416 هـ -1995 م

بسم الله الرحمن الرحيم
رب يسر
قال الشيخ العلامة أوحد عصره وفريد دهره لسان الشريعة سيد علماء الطريقة أبو محمد عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم السلمي رحمه الله تعالى ممليا لحل مقاصد الرعاية للإمام الحارث بن أسد المحاسبي رضي الله عنه الحمد لله الذي لا تتم الصالحات إلا به وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وأصحابه .
*فصل في حسن الاستماع إلى كل ما أمر العباد بالاستماع إليه
حسن الاستماع أن تصغي إلى ما تستمع إليه من غير أن تشغل قلبك أو شيئاً من جوارحك بغير ما تستمع إليه وتقبل عليه إلى ما يعينك على فهم ذلك من الإقبال بعينك من يحدث بذلك أو تنظر في كتاب يشتمل على ذلك وقد ضمن الله سبحانه وتعالى لمن أحسن الاستماع أن يحصل له الاتعاظ والانتفاع بما استمع له وأصغي إليه فقال تعالى إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد أي إن في ذلك اتعاظا لمن كان له عقل أو ألقى سمعه إلى الموعظة وهو حاضر العقل غير غائب عما يستمع إليه
فصل فيما يجب رعايته من حقوق الله تعالى
رعاية الشيء حفظه من الفوات والنقصان وحقوق الله سبحانه وتعالى ضربان أحدهما فعل الواجبات والثاني ترك المحرمات ففعل كل واجب تقوى وترك كل محرم تقوى والحامل على التقوى الخوف من عذاب الله تعالى وعقابه فمن أتى بخصلة منها فقد وقى نفسه بها ما رتب على تركها من شر الدنيا والآخرة مع ما يحصل له من نعيم الجنان ورضا الرحمن .
فصل فيما يتقرب به إلى الله تعالى
لا يتقرب إلى الله سبحانه وتعالى إلا بطاعته وطاعته فعل واجب أو مندوب وترك محرم أو مكروه فمن تقواه تقديم ما قدم الله سبحانه وتعالى من الواجبات على المندوبات وتقديم ما قدمه من اجتناب المحرمات على ترك المكروهات وهذا بخلاف ما يفعله الجاهلون الذين يظنون أنهم إلى الله سبحانه وتعالى متقربون وهم منه متباعدون فيضيع أحدهم الواجبات حفظا للمندوبات ويرتكب المحرمات تصونا عن ترك المكروهات ولا يقع في مثل هذا إلا ذوو الضلالات وأهل الجهالات فكم منا مقيم لصور الطاعة مع انطواء قلبه على الرياء والحسد والغل والكبر والإعجاب بالعمل والإدلال على الله تعالى بالطاعات الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا الكهف وكم من ناظر إلى ما لا يحل النظر إليه ومغتاب لمن لا تجوز غيبته ومزدر لمن لا يحل ازدراؤه ظنا أن ذلك من الجائزات وغفلة عن كونه من المحرمات والتقوى قسمان أحدهما متعلق بالقلوب وهو ضربان : أحدهما واجب كإخلاص الأعمال والإيمان ، والثاني محرم كالرياء وتعظيم الأوثان
والثاني يتعلق بالأعضاء الظاهرة كنظر الأعين وبطش الأيدي ومشي الأرجل ونطق اللسان
فائدة إذا صحت التقوى أثمرت الورع والورع ترك ما لا بأس به خوفا من الوقوع فيما به بأس
فصل في تعريف الجاهل المغرور غرته
قد تقدم أن التقوى متعلقة بالجنان وبالأركان فنبدأ بتعرف اختلال التقوى في الأركان
وطريق ذلك أن يعرض أعمال جوارحه الظاهرة من حين بلغ إلى وقته ذلك على كتاب الله سبحانه وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن وجد نفسه على حفظ حدود الله تعالى بجميع جوارحه فليعدل بعد ذلك إلى تقوى قلبه فإن وجد قلبه مستقيما من حين بلوغه إلى حين عرضه فهذا ولي من أولياء الله سبحانه وتعالى وقل أن يوجد ذلك في هذا الزمان
وكيفية عرض ذلك أن ينظر إلى ما يتعلق بكل عضو من أعضائه من أمر الله تعالى ونهيه فيعرضهما عضوا عضوا فيعرض اللسان مثلا هل ترك ما أمر الله سبحانه وتعالى بقوله كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإن تحقق أنه قام بجميع ما أمره الله تعالى وما أعز ذلك فليرجع إلى ما نهى عنه فإن عرف أن لسانه محفوظ عن ذلك من حين بلغ إلى حين عرضه وما اعز ذلك فليعدل إلى تقوى العين بفعل مأموراتها واجتناب منهياتها فإن استقامت على الأمر والنهي في جميع ذلك ولن يسلم له ذلك فليعدل إلى منهيات سمعه ومأموراته فإن علم أنه قائم بوظائفها وما أندر ذلك فليعدل إلى بطش يده فليعتبر استقامتها على الأمر والنهي في بطشها فإن علم أنه قد أدى ما عليه في جميع ذلك وما أغرب ذلك فليعدل إلى مشي رجله فليعتبره بالأمر والنهي كذلك ثم إلى بطنه وفرجه كذلك فإن ظن الاستقامة في ذلك جميعه أو بعضه فلا يغترن بذلك ولينظر إلى قصده بجميع طاعته هل أراد بكل واحدة منهن وجه الله سبحانه وتعالى أم لا فإن صفى له ذلك وما أعز صفاءه فلينظر هل أعجب بنفسه فرأى أنه لأجل طاعته خير من غيره أم لا فإن لم ير نفسه خيرا من غيره في شيء من طاعته فلينظر هل تكبر على عباد الله بسبب ذلك أم لا فإن صفا له ذلك وما أعز أن يصفو فلينظر هل أسند استقامته إلى عزمه وحزمه أم نسب ذلك إلى ربه سبحانه وتعالى فإن صفا له ذلك مع عزته وندرته فلينظر هل أعجبته نفسه بذلك أم لا صفا له ذلك مع غرابته فلينظر هل أدل على الله سبحانه وتعالى بهذه الاستقامة أم لا فإن صفت له هذه الأحوال المتعلقة بالطاعات فلينظر في معاصي أخرى هل تطهر منها قلبه أم لا كالحسد والشماتة وإرادة العلو في الأرض فإذا اعتبر ذلك جميعه وأنصف من نفسه عرف أنه كان هاربا عن الله سبحانه وتعالى وهو يعتقد أنه هارب إليه ومعرض عن الله سبحانه وتعالى وهو يعتقد أنه مقبل عليه ومعتمد على خلقه وهو يعتقد أنه معتمد عليه ومفوض إليه .
فصل في ابتداء المسير إلى الله عز وجل
أول ما يجب على المكلف أن يعلم أن له ربا أمره ونهاه ليثيبه على طاعته ويعاقبه على معصيته وأنه يلزمه الفرار من عقوبته بطاعته واجتناب معصيته وإليه الإشارة بقوله تعالى ففروا إلى الله الذاريات والفرار إليه إنما يكون بطاعته واجتناب معصيته وإنما تعرف طاعته ومعصيته بتعلم شريعته فعليه أن يتعلم من علم الشرع ما حرم الله سبحانه وتعالى عليه في ظاهره وباطنه ليجتنبه وما أوجبه عليه في ظاهره وباطنه ليفعله على حسب الحال التي هو ملابسها ومدفوع إليها فيلزمه تعلم الصلاة والصوم بأركانهما وشرائطهما إذا دخل وقتهما أو دنا دخول وقتهما ولا يلزمه تعلم الزكاة إلا إذا وجبت أو دنا وجوبها وكذلك لا يلزمه تعلم الحج والجهاد إلا إذا كان من أهلهما فإن اتسع وقتهما كان التعلم واجبا مخيرا فإن ضاق وقتهما تضيق تعلمهما وكذلك سائر ما يتجدد له من سائر الأسباب الموجبة للتقوى في ظاهره وباطنه يلزمه تعلم ذلك بأسبابه وأوقاته وشرائطه وأركانه ومفسداته
فصل في بيان محاسبة النفس على الأعمال السالفة والمستأنفة
أجمع العلماء على وجوب محاسبة النفوس في ما سلف في الأعمال وفيما يستقبل منها فالكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله سبحانه وتعالى فأما المحاسبة في الماضي فبأن ينظر في التقوى المتعلقة بالقلب والجوارح والأعضاء فيعتبرها عضوا عضوا وطاعة طاعة فإن سلم جميع ذلك بأركانه وشرائطه وأوقاته وأسبابه فليحمد الله سبحانه وتعالى على ذلك فإنه من أكمل نعمة الله تعالى على عباده ، والأولى به أن يحاسب نفسه من ليل إلى ليل فما رآه من تقصير في يومه ذلك فليتداركه بالتوبة والاستغفار وكذلك كان يصنع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ، وإن وجد في أعمال يومه ظلامه فليردها من وقته على أهلها إن أمكن ذلك وإلا فليعزم على ردها على حسب إمكانه ، وأما المحاسبة في المستأنف فلينظر إذا خطر له إقدام على فعل أو إحجام عنه فإن كان ذلك الفعل سيئة أحجم عنه وعن العزم عليه وليغيبه عن خاطره ما استطاع فإن مالت إليه نفسه واشتدت شهوته فليجاهدها بصرفها عنه وخلاصها منه فإن غلبته وعزمت عليه فليجاهدها في الإقلاع عن عزيمتها والاستغفار منها فإن غلبته نفسه العاصية الأمارة بالسوء ففعل ذلك فليبادر إلى التوبة وهي الندم على ما فاته من طاعة الله تعالى والعزم على أن لا يعود إلى مثل ذلك في المستقبل والإقلاع عن المعصية إن كان ملابسها في الحال فإن أخر التوبة أثم بتأخيرها عن كل وقت يتسع لإيقاعها فيه فإن أبت نفسه عن الإقلاع فليحذرها بما يفوتها من ثواب الله سبحانه وتعالى وبما تعرضت له من عقاب الله تعالى ويستمر على تخويفها بذلك إلى أن يحصل الخوف الموجب للتوبة والاستغفار من الحوبة .
فائدة في مراقبة النفس للفعل الحسن والقبيح
إنما يفرق المريد بين الفعل الحسن والقبيح بالكتاب والسنة إن كان عارفا بذلك فإن التبس عليه الفعل الحسن بالقبيح فليكف عنه ولا يعزم على إقدام ولا إحجام حتى يسأل عن ذلك من يعرفه من علماء الشريعة لأن التباس المحرم بالمحلل مانع عن الإقدام على ما لا يعرف حلاله من حرامه ، وأما المحاسبة في مستقبل الأعمال الصالحات فإنها مبنية على معرفة رتب الطاعات وما يجب تقديمه منها أو توسطه أو تأخيره فإن الشيطان إذا يئس من التائب أن يوافقه على المعاصي الظاهرة دس عليه معاصي خفية لا يشعر بها فيأمره بتقديم طاعة أوجب الله تعالى تأخيرها أو توسيطها أو يأمره بتقديم طاعة أوجب الله تعالى تقديمها أو توسيطها كل ذلك ليخسر العبد من حيث لا يعلم ، وقد توافق النفس الشيطان على ذلك فرارا من أثقل العبادتين وأشقهما إلى أخفهما وأرفقهما وطريقة في النجاة من ذلك أنه إذا خطرت له حسنة فلا يقدم عليها حتى ينظر أهي مما قدمه الله أو مما أخره أو مما وسطه فإن كانت مما قدمه الله في ذلك الوقت على سائر الطاعات فلا يقدم عليها حتى يخلصها لله عز وجل ولا يرد بها سواه ، وإرادة الله تعالى بالأعمال الصالحات أقسام أحدها أن يعمل له طمعا في ثوابه ، والثاني أن يعمل له خوفا من عقابه ، والثالث أن يعمل له حياء منه أن يخالفه ، والرابع أن يعمل له حبا وودادة ، والخامس أن يعمل له إجلالا وتعظيما عن المخالفة ، والسادس أن يضيف بعض هذه الأعراض إلى بعض ، وكل ذلك حسن وإن كان بعضه أفضل من بعض .
فصل في رتب مشقة التقوى والمحاسبة
الناس في ذلك ثلاثة أقسام : أحدهم شاب نشأ في عبادة الله لا تقع منه إلا الصغائر في أندر الأوقات فرعاية التوبة والتقوى على مثل هذا سهلة قليلة المؤنة لأن التقوى قد صارت له عادة مألوفة يلتذ بها ويسكن إليها وإذا وقعت منه الزلة استوحش بسببها وبادر إلى الإقلاع عنها والتوبة منها ، الثاني من تاب من ذنوبه وأقلع عن عيوبه بعدما ألف المعاصي والمخالفة فنفسه تذكره بتلك الشهوات والتلذذ بها ليعود إليها والشيطان يحثه على ذلك ويدعوه إليه فرعاية التقوى والتوبة على هذا شاقة لأجل ما ألفه من الركون إلى الشهوات والاستراحة من مشقة الطاعات ، الثالث مسلم موحد مرتكب لجميع ما يهواه من المعاصي والمخالفات قد رين على قلبه بسوء كسبه فرعاية التقوى على هذا شديدة المشقة لأجل ما يفوته من تلك الساعات ولما يشق عليه من ملابسة الطاعات .
0 فصل في بيان تيسير التقوى الشاقة وتسهيلها على النفس
خلق الله تعالى الإنسان مجبولا على السعي فيما يلذه من الشهوات وعلى النفور مما يشق عليه من المؤلمات فكان من محنته لعباده أن كلفهم بفعل ما يشق عليهم من الطاعات وبترك ما يشق عليهم تركه من المخالفات فحف جنته بالمكاره وحف ناره بالشهوات ولما علم ذلك من عباده وعد من أطاعه وخالف شهوته بالمثوبات والكرامات ليقبلوا على الطاعات والقربات ، وتوعد من عصاه ووافق شهوته بالعقوبات والإهانات ليحجموا عن المعاصي والمخالفات فالطريق إلى سهولة التقوى تكون تارة بالخوف وتارة بالرجاء فإنه إذا نظر إلى ما أعده الله لعباده الطائعين من الكرامات مال إليه بطبعه فحثه طبعه على احتمال مشقة الطاعات بفعل المأمورات وترك المنهيات وإذا نظر إلى ما توعد الله به عباده العاصين من العقوبات حثه طبعه على أن يتقيها بملابسة المشقات في إقامة الطاعات ، فالخوف والرجاء وسيلتان إلى فعل الواجبات والمندوبات وترك المحرمات والمكروهات ولكن لا بد من الإكباب على استحضار ذلك على الدوام واستدامته في أكثر الأوقات حتى يصير الثواب والعقاب نصب عينيه فيحثاه على فعل الطاعات وترك المخالفات ، لكن الفكر الذي يحصل به الإكباب على استحضار الثواب والعقاب شاق على النفس من ثلاثة أوجه
أحدها أن الفكر في أهوال الآخرة وشدائدها شاق على النفوس ملذع لقلوب ولا سيما في حق من كثرت ذنوبه وعظمت عيوبه وتفكر في وقوفه بين يدي ربه وعرض أعماله القبيحة عليه ، الثاني أن الفكر في أحوال الآخرة وشدائدها مانع من الفكر في لذات الدنيا وشهواتها ، الثالث أن الشيطان ونفس الإنسان يستشعران من التائب أنه يمنع نفسه من نيل شهواتها وإدراك لذاتها في مستقبل الزمان فيحثانه على ترك ما عزم عليه ، أما النفس فتحثه على ذلك لتنال لذاتها وشهواتها العاجلة وأما الشيطان فلأنه عدو للإنسان فلذلك يأمره بكل إثم وعدوان ليحله في دار الهوان وغضب الديان فالذي يخفف الفكرة على قلبه أن ينظر إلى ما تحصل عليه من لذات الدنيا وإلى نظره في الآخرة ليعلم أنما يفوته من لذات الدنيا المقرونة بالنغص لا نسبة له إلى ما يفوته في الآخرة من النعيم والنظر إلى وجه الله الكريم ، والعاقل لا يؤثر الحقير القليل الفاني على الكثير الخطير الباقي غير مقرون بنغص بلا تعب ولا نصب فإذا واظب على النظر في ذلك آثر النفيس الباقي على الخسيس الفاني ثم ينظر إلى ما يتحمله في الدنيا من مشاق الطاعات وينسبه إلى ما يتحمله في الآخرة من مشاق العقوبات الممزوجة بغضب رب السماوات فيتحمل المشاق اليسيرة الفانية دفعا للمشاق العظيمة الباقية لأن العاقل يدفع أعلى الضررين بأدناهما ويحاسب نفسه بأن يقول لها ويحك يا نفس كيف تجزعين من تلذيع ذكر أهوال الآخرة لقلبك ولا تجزعين من تلذيع عقوبات الآخرة ومشاقها لجسدك وقلبك وكيف يشق عليك ترك الفكر في لذة الدنيا مع نغصها وخساستها ولا يشق عليك فوات لذات الآخرة مع شرفها ونفاستها أتستبدلين الذي هو أدنى بالذي هو خير ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون البقرة ولو أنك واظبت على الفكر في أمور الآخرة لأبدلك الله من وحشة العصيان وذلته بأنس الطاعات وعزتها وسرورها وروح رجاء الجزاء عليها في الآخرة ولن يحصل له الإكباب على الفكر الذي يستحضر به أهوال القيامة إلا بجمع همه على الفكر في ذلك ولن يحصل له ذلك إلا بتفريغ قلبه من كل شيء سوى ما يفكر فيه أو يعينه على الفكر فيه وكذلك لا يشغل جوارحه بما يلهيه عن الفكر فيما هو بصدده وقد ذكرنا نظير ذلك في حسن الاستماع ، ولا بد من إدامة الفكر في ذلك إلى أن يحصل في القلب وجل وخوف يحثانه على الاستعداد لذلك اليوم ومثال ذلك الوقود تحت القدر لا بد من إدمانه إلى إنضاج ما في القدر فلذلك لا ينضج القلب إلا خوف متوال متواصل يوجب للقلب قذف الشهوات خوفا من العقوبات كما يقذف القدر بالزبد عند إدمان الوقود وتكثيره فإذا فعل ذلك أراد الشيطان أن يفسد عليه عمله فأوهمه أنك ما نلت ذلك إلا بعزمك وحزمك وحسن نظرك لنفسك ، فإن قبل منه ذلك وكله الله إلى نفسه وإن رد ذلك على الشيطان حصل الخوف الناجع بالتفكر وحصل الإقلاع عن الزلات والإنابة إلى الطاعات بسبب الخوف الناجع وتوفيق رب الأرض والسماوات ، ولو لاحت لهؤلاء أو لأحدهم لائحة من لوائح العرفان لاجتمع همه من غير تكرير الفكر ولا إدمان وما أعز هذا في هذا الزمان ، وأنشد فيه
كانت لقلبي أهواء مفرقة ** * فاستجمعت مذ رأتك العين أهوائي
تركت للناس دنياهم ودينهم *** شغلاً بذكرك يا ديني ودنياي
فصار يحسدني من كنت أحسده *** وصرت مولى الورى مذ صرت مولاي
وقد مثل إدمان الفكر وجمع الهم لتحصيل الخوف الحامل على التقوى والإنابة إلى الله تعالى بمثالين : أحدهما الثوب الذي كثرت أوساخه وأدرانه فإنه لا يزول ذلك إلا بتكرير الغسل وحته وقرصه وكذلك القلب الذي رانت عليه الشهوات ودنسته اللذات المحرمات لا يزول ما فيه من الشهوات إلا بالإدمان على الفكر الموجب للإقلاع عن الزلات المثال الثاني المرض المزمن المستحكم لا يزول إلا بتكرير الأدوية والمعالجات فكذلك القلوب المريضة لا تزول أمراضها إلا بتكرير الفكر فيما أعد الله تعالى للعصاة من العقوبات .
فائدة في فرط الخوف بسبب إدمان الفكر
قد يفرط الخوف بسبب إدمان الفكر فيخشى منه أن يصير قنوطاً فلا بد أن يكسر بروح الرجاء وإنما يحصل ذلك بإدمان الفكر في سعة رحمة الله تعالى وغفرانه للحوبات وقبوله للتوبات .

فصل في اعتراض النفس والشيطان في أيام تخويف المغرور نفسه قد يتأخر الخوف الناجع كما يتأخر البرء عن استعمال الدواء النافع فتعرض النفس والشيطان لمن يداوي قلبه بإدمان الفكر والتخويف فيقولان مثلك لا ينجع فيه إدمان الفكر ولا ينفعه التخويف وربما حرمك ربك ذلك لكثرة ذنوبك وفرط عيوبك فإن أصغى إليهما وقبل منهما يئس من روح الله ورحمته ورجع إلى أشد مما كان عليه من الفسوق والعصيان إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون يوسف . و
طريقه في ذلك أن يقول التخويف إنما يليق بمثلي وأمثالي ولولا أن ربي أراد بي خيرا لما نبهني على الذكر واجتماع الفكر لأخاف من عقوبة ربي فأقبل على طاعته واجتناب معصيته وكم من ذنب أكبر من ذنبي وقد غفره ربي وكم عيب أقبح من عيبي قد ستره ربي فحينئذ يستمر على الفكر المثمر للخوف الناجع فإن أفرط خوفه كسر سورته بالرجاء فحينئذ تعرضه النفس والشيطان فيقولان له إنما وصلت إلى هذه المنزلة بحزمك وعزمك وحسن نظرك لنفسك فينسى إنعام الله تعالى عليه وإحسانه إليه ويضيف ذلك إلى نفسه الأمارة بالسوء فحينئذ لا يأمن أن يخذله ربه لحمده من لا يستحق الحمد وطريقه في ذلك أن يقول لنفسه كيف تدعين أنك وصلت إلى هذا بحزمك وعزمك وأنت ما دخلت فيه إلا كارهة أبية مع أنك أنت التي أوقعتني في المعاصي والمخالفات فإن دفع الله عنه كيدهما في ذلك اعترضا له بالإعجاب بنفسه وطريقه في دفع الإعجاب أن يذكر نفسه بأن خير أمة أخرجت للناس أعجبتها كثرتها يوم حنين فلم تغن عنهم شيئا وضاقت عليهم الأرض بما رحبت ثم ولوا مدبرين وكذلك داود عليه السلام لما أعجبته نفسه فتن بالمرأة على ما ذكر الله تعالى في كتابه وكذلك موسى الكليم عليه الصلاة والسلام لما ادعى أنه أعلم أهل الأرض لما سئل فعتب الله سبحانه وتعالى عليه بكون أنه لم يرد العلم إلى الله سبحانه وتعالى ثم دله على الخضر فإذا اعترض هذا التائب حقوق الله تعالى عليه وحقوق عباده لديه فيما مضى من دهره حقا حقا بعد أن اعترضها من حين بلوغه إلى حين توبته ثم اعترض حقوق الله تعالى في قلبه ثم خرج من كل حق كان ضيعه في أيام سهوه وبطالته فلا يغفل التيقظ والتحرز فيما بقي من أيام عمره فإن طبعه الذي دعاه إلى المخالفة والعصيان قائم والنفس الأمارة بالسوء لم تمت والشيطان الحريص على إضلال الإنسان وإغوائه متفقد لأحواله مرتقب لغفلاته لعله يعثر على غفلة يرده فيها إلى أسوء أعماله وأقبح أحواله ويقع التفقد في المأمورات والمنهيات فالمأمورات ثلاث : إحداهن حق الله كأن تركه ثم تاب إلى الله تعالى من تركه فتذكره به النفس والشيطان في أوقات غفلاته ليعود إلى تركه فلا يطعهما ويستمر على فعله حسب ما أمر به ، والثاني حق لله تعالى تركه وهو لا يشعر بوجوبه عليه فعليه الآن أن يتذكره ويتفقده ليستدرك قضاءه حسب ما أمر به مثل أن تجب الزكاة في ماله فلم يشعر بها لفرط غفلته في حين غرته وإن كان ذلك مما لا يدرك جدد التوبة والاستغفار منه ، والثالث حق لم يجب عليه فيما مضى وإنما وجب عليه لما تاب ككسب الحلال لنفقة العيال وإخلاص الأعمال ، والمنهيات ثلاث : إحداهن معصية أقلع عنها وتاب إلى الله منها فلا يعد إليها ، الثانية معصية لم يعلم في أيام غفلته أنها معصية فيتفقدها الآن ليتحرز منها ، الثالثة معصية لم توجد في أيام غفلته وإنما حدثت بعد توبته وإنابته كترك التكسب لعيال حدثوا بعد التوبة والإنابة فإذا واظب التائب على التيقظ لما ذكرناه فقد تحرز بذلك من كيد النفس وإغواء الشيطان فإن اعترض له ذلك في بعض الأحيان رجع إلى دفعه بما ذكرناه من الأسباب والله الموفق للصواب فصل في كيفية رعاية حقوق الله عز وجل مضيقها وموسعها ومعينها ومخيرها ومقدمها ومؤخرها وما أوجب الله تعالى على العباد عند الخطرات وكيفية ابتداء الأعمال من ابتدائها إلى انتهائها
اعلم أن القلوب أول محل التكاليف وأن أعمال الأبدان موقوفة على أعمال القلوب وأن الأعمال إنما يقع ابتداؤها من القلوب ثم يظهر على الجوارح فأول ما يخطر للمكلف فعل من أفعال القلوب فلا تكليف بسبب خطوره على القلب فإذا خطر على القلب وعرفت النفس ما فيه من المصالح أو المفاسد فإنها تميل إليه إن وافقها وتنفر منه إن خالفها ولا يتعلق التكليف أيضا بالميل إليه ولا بالنفور عنه فإنهما أمران طبعيان لا انفكاك عنهما ولا انفصال منهما ولن يكلف الله تعالى نفسا في ضرها ونفعها إلا قدر وسعها فإذا حصل ميل النفس أو نفورها حضر الشيطان فزين لها الإقدام على فعل ما مالت إليه إن كان من العصيان المسخط للديان أو زين لها النفور مما يرضي الرحمن إن كان مما تنفر منه فهذا ابتداء تكليف القلوب إذ لا يحق على الإنسان أن لا يعزم إلا على ما يرضي الرحمن ويرغم الشيطان
فالعزم أول ما تكلف به القلوب فإن كان المعزوم عليه خيرا كان العزم مأمورا به وإن كان المعزوم عليه شرا كان العزم منهيا عنه والعزم أول واجب أو محرم بعد حسن الاعتقاد وتصحيح الإيمان والخطرات ثلاث خطرة من النفس تخطرها لتنال بها هواها وتدرك بها مناها وخطرة من الشيطان يخطرها ليهلك الإنسان بما يزينه له من الفسوق والعصيان
وخطرة من الرحمن يخطرها رحمة للإنسان لما ينيله من الثواب والرضوان والسكنى غداً في جوار الديان فحق على كل إنسان إذا خطرت له خطرة أن لا يوافقها حتى يعرفها ويميزها تخطرة النفس والشيطان مما يخطره الرحمن وإنما يقع التمييز بالتثبت وعرض تلك الخطرات على الكتاب والسنة فما وافق الكتاب والسنة علم أنه من أخطار الرحمن إما بواسطة الملك أو بغير واسطة وما خالف الكتاب والسنة علم أنه من أخطار النفس أو أخطار الشيطان وتتميز خطرة النفس عن خطرة الشيطان بأن يمنعها من العزم على ما خطر لها فإن ألحت في طلبه فهو من أخطارها وإن نكلت عنه فهو من أخطار الشيطان فالعقل مع خطرات الرحمن والنفس مع خطرات الشيطان وإذا ثبت أن العزم ينقسم إلى محلل ومحرم فالتبس أحدهما بالآخر لم يجز الإقدام على إحداهما إلا بعد النظر والتبيان كما لو اشتبه إناء طاهر بإناء نجس أو ثوب طاهر بثوب نجس أو درهم حلال بدرهم حرام وجب التلبث والتثبت إلى أن تتبين الخطرة فإن عرضها على الكتاب والسنة فلم يظهر له شيء لم يجز له الإقدام على الحلال الملتبس بالحرام كما لو اجتهد بين طاهر ونجس فاجتهد فيهما فلم يظهر له شيء فإنه لا يحل له الإقدام على أحدهما . فصل في أمثلة تقديم ما يقدم وتأخير ما يؤخر
وفيه أمثلة الأول أن يقدم بر الوالدة على الوالد ثم يقدم الأقارب على الأقرب فالأقرب فإن استووا قدم أشدهم حاجة على أخفهم حاجة ، الثاني يقدم النفقات الواجبات على الحج والعمرة لأنهما واجبان على التراخي ، الثالث إذا وعد إنسانا على بر أو عمل خير وحضرت صلاة الجمعة أو ضاق وقت صلاة مكتوبة فإنه يقدم الجمعة والصلاة المكتوبة على تلك المواعدة لأن إطلاق المواعدة محمول على ما لا يفوت فريضة أوجبها الشرع ،
الرابع لا يقدم بر الوالدين المندوب على صلاة الجمعة ولا على فريضة ضاق وقتها ،
الخامس تقديم الديون الحالة التي يطالب بها أربابها على الحج وإن طولب بدين قدم نفقة العيال على الدين في يوم الطلب وقضى الباقي في الدين ثم يتوكل في أمره وأمر عياله على الله تعالى ، السادس لو نهاه والداه عن دين يطالب به أو عن أداء أمانة يطالب بها أو عن رد واجب يطالب به فليؤد الدين والأمانة والواجب ولا يطعهما إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ، السابع لو نذر صوما معلقا بشرط فوجد شرطه في رمضان أو في يوم يحرم فيه الصوم لم يجز وفاء النذر في ذلك الوقت ، الثامن إذا وجبت عليه عبادة موسعة الوقت كالحج والصلاة وأمره والداه بأمر لا يفوت عليه الصلاة والحج فليبدأ بطاعتهما لإمكان الجمع بين طاعتهما وبين ما أوجب الله تعالى عليه وكذلك يقدم كل مأمور مضيق على كل مأمور موسع لإمكان جمعهما .
فصل في النهي عن التوسل إلى المأمورات بالمحرمات والشبهات
لا يتوسل إلى أداء واجب من الديون والنفقات والزكوات والكفارات وسائر القربات بشيء من المحرمات ولا بشيء من الشبهات ولذلك أمثلة الأول اكتساب الحرام لنفقة العيال ، الثاني تقديم إرضاء الزوجات بإغضاب الوالدات ، الثالث إرضاء الوالدات بتضييق حقوق الزوجات ، الرابع ضرب الأولاد وإهانتهم لأجل الزوجات ، الخامس الأمر بالمعروف مع السب والشتم واللعن والضرب ، السادس إرضاء الوالدين بقطع الأرحام
السابع ضرب الزوجة والخادم إذا خاف تقصيرهما فيما يعدانه له من ماء الطهارة أو غيره ظناً منه أن ذلك غضب لله ولو غضب على نفسه لعصيانه لكان ذلك أولى به .
فصل في الخروج من فرض إلى فرض قبل إتمامه
إذا شرع المكلف في فرض فسنح له فرض آخر فإن كان الثاني أهم في الشرع أبطل الأول وأتى بالثاني وله مثالان : أحدهما أن يشرع في صلاة الفريضة فرأى إنساناً يكره امرأة على الزنا أو صبياً على اللواط وهو قادر على الإنقاذ فيلزمه الإنقاذ وقطع الصلاة ، الثاني أن يرى إنساناً يقتل إنساناً وهو قادر على تخليصه فيلزمه أن يقطع الصلاة ويخلصه
وكذلك قطع اليد والرجل والجارحة فإن اهتمام الشرع بهذه الأشياء أتم من اهتمامه بالصلاة ، وإن كان الفرض الذي هو ملابسه أهم من الفرض الذي سنح له لم يجز له إفساد الفرض الذي هو فيه مثل أن يدعوه أبواه وهو في صلاة فرض إلى أمر ليس في رتبة الصلاة فلا يجوز له قطع الصلاة لأجله ولعل جريجا لما دعته أمه وهو في الصلاة كانت صلاته نافلة إن كان شرعه كشرعنا يكون من القسم الأول .
فصل في النهي عن التسبب إلى الورع إلى ارتكاب الحرام
وفيه أمثلة الأول أن يترك نفقة العيال والاكتساب لهم خوفا أن يكون ماله أو كسبه حراماً ، الثاني أن يترك الحج تورعا عن أن يكون المال الذي ينفقه فيه حراماً ، الثالث أن يخرج من البلد خوفاً أن لا يقدر فيه على مال حلال فيضيع الوالدين والعيال .
فصل في النهي عن تضييع الفرض لإكمال المفرض
وله أمثلة منها أن يتوسوس في الوضوء إما في نية أو في استيعاب الأعضاء بالغسل فيكرر ذلك إلى أن تفوته الصلاة ، وكذلك التوسوس في غسل الجنابة ، ومنها أن يتوسوس في نية الصلاة أو في شيء من أركانها وشرائطها فيكرر النية أو القراءة أو يقطع الصلاة لشكه في قطع نيتها ، ومنها أن يبادر إلي الصلوات في أوائل الأوقات فيبالغ في ذلك حتى يقدمها على وقتها وهذا أكثر الوقوع في صلاة الصبح ، ومن ذلك أن يؤخر الفرض عن وقته لأجل عذر مستمر كسلس البول وذرب البطن أو لجراحة نضاخة أو يترك الصلاة إذا عجز عن القيام ليصليها بعد الوقت قائما وكذلك لو تعذر عليه الركوع والسجود فيؤخرها عن وقتها ليصليها بعد الوقت ساجدا أو راكعا تامة الركوع تامة السجود
ومن الغلط أن يصرف زكاته أو ما توكل في صرفه أو ما أوصي إليه به إلى من يرجو مكافأته أو يخاف شره أو كان له عليه حق خدمة لنفسه أو لأهله أو من يتعلق به فيقي ماله بحق الله عز وجل أو بحق من وكله أو أوصى إليه ، ومن الغلط أن يمتنع من كسب الحلال للإنفاق على المحتاجين وهو قادر عليه مع كونه لا يشغله عما هو أهم منه تحرزا عن الاشتغال بكسب المال عن طاعة الرحمن أو يمسك ماله لعياله ولا يجود منه على محتاج ظنا منه أنه عامل ابدأ بنفسك ثم بمن تعول وعلى الجملة فمن قدم واجبا على أوجب منه فقد عصى
rبقوله الله تعالى ومن قدم نفلا على نفل أفضل منه فقد ضيع حظه من ثواب الله تعالى ، ومن الغلط إتيان الظلمة من السلاطين والولاة والقضاة توهما منه أن يدفع مظلمة عن إنسان أو يجلب نفعا إلى مستحق وهو غالط في ذلك فإن من خالط الظلمة لا يقدر على أن ينكر عليهم فيترك الإنكار لا لسبب شرعي بل حفظا لقلوبهم ومخافة أن يفوته ما يرجوه منهم ونفسه تسخر به وتوهمه أنه متسبب إلى نفع عباد الله تعالى والذب عنهم والذي تعرض له أعظم من ثواب ما تسبب إليه ، وكذلك يصانع أهل البدع لأجل جاههم ويصانع فجرة الأغنياء لأجل ما يتوقعه منهم من إرفاق الفقراء وكذلك موافقة الإخوان الصالحين في بغض من أبغضوا وحب من أحبوه وعداوة من عادوه وولاية من والوه بغير
سبب شرعي في ذلك يزعم أنه يحفظ قلوبهم بذلك ويستديم به صحبتهم ، ومن الغلط أن يلازم الصوم والجوع أو يلازم عبادة تقطعه عما هو أفضل منها أو يلحقه من فرط الجوع ضجر وضيق فتسوء أخلاقه فيسب من لا يجوز سبه وربما ضرب من لا يجوز ضربه وقد يتورع من بعض الاكتساب فيضيع ما أوجب الله تعالى عليه من نفقات العيال.
فصل في الغلط في تقديم بعض النوافل على بعض النوافل كالفرائض وهن أقسام أحدها أن تكون النافلة أفضل من غيرها من النوافل فتقدم عليهن ، الثاني أن تكون مفضولة فتؤخر إلى رتبتها التي شرعت فيها ، الثالث أن يكونا متساويين والوقت متسع لهما فيتخير في تقديم أيتهما شاء ، الرابع أن يتردد بين التساوي والتفاضل فيبحث عن ذلك إن كان أهلا للبحث أو يسأل عنه أهله ، ومن قدم مفضولا على فاضل في هذا الباب فلا إثم عليه ولكن يفوته ما بين الرتبتين من الفضل وإنما يفوت ذلك بتسويل النفس وتزيين الشيطان أما الشيطان فيزين له ذلك ما بين النافلتين من الفضل ، وأما النفس فتدعوه إلى ذلك ليكون الأفضل أثقل وأشق مثاله تقديم الزيارة على العيادة وتقديم بر الأخ المكتفي على الأخ المحتاج وتقديم زيارة المفضول من الإخوان على الفاضل لأن الشيطان يستشعر من الفاضل أنه يأمر بالمعروف وينهاه عن المنكر والنفس تكره ذلك لعلمها أنه يأمره بفطامها عن شهواتها وكتقديم تشييع جنائز الأغنياء على جنائز الفقراء إذا حضروا في وقت واحد إما ليد كانت للغني عليه أو لمداراة أو خوف مذمة وهذا عند تساوي الأغنياء والفقراء في الفضل والدين وسائر الأسباب ، ومن ذلك أن يؤثر الصلاة في مكان حسن تميل إليه نفسه على مكان يجتمع فيه همه وإقباله على صلاته لارتياح نفسه إلى المكان المفضول ، ومن ذلك أن يترك الصوم الذي اعتاده توهما أن يقطعه عن كثير من الطاعات وهو غالط في ذلك ، ومن ذلك تقديم ما لا يخاف فوته من الطاعات على ما يخاف فوته من الطاعات ، ومن ذلك أن يشرع في شيء من العبادات وأنواع القربات بحيث يراه الناس أو في خفية ثم يراه الناس فيخشى على نفسه من الرياء فيترك ما شرع فيه لله تعالى لأمر يتوهمه ، ومن ذلك أن يلابس شيئا من أنواع الطاعات مخلصا لله عز وجل ثم يخشى أن ينسب إلى الرياء فيدع ذلك العمل ، ومن ذلك أن يترك سماع ما أمر بالاستماع إليه كخطبة الجمعة وقراءة الإمام في الصلاة ويشتغل عن ذلك بالتفكر في شيء من أمور الآخرة ولا يشعر بأنه أساء الأدب بترك الإصغاء إلى ما أمر بالإصغاء إليه وكذلك إذا قرأ القرآن وتفكر في غير معاني القرآن التي هو ملابسها ، ومن ذلك أن يعتاد عملا من أعمال البر وهو قوي عليه فتوهمه نفسه أن تقليله وتنقيصه أولى به مستدلة عليه بقوله صلى الله عليه وسلم خير العمل أدومه وإن قل فتوهمه أنه عامل بالسنة ولا غرض لها إلا الركون إلى الراحة . "


فصل في أشكال الفضائل إذا عرض فرضان أو ندبان فعرضتهما على الكتاب والسنة أو سألت العلماء عن أيهما أفضل فلم يظهر الفاضل من المفضول
فالطريق إلى معرفة ذلك أن ينظر إلى أخفهما على نفسك فأيهما كان أخف فاتركه فهو المفضول لأن الغالب على الأنفس مشقة الفضائل إلا أن تكون من أكابر أولياء الله تعالى فتقدم ما خف على نفسك لأن الغالب من أولياء الله تعالى استخفاف الأفضل فالأفضل لشدة إقبالهم على الله تعالى والاشتغال به فإن استويا في الثقل والخفة فاعرض نفسك على أيهما تؤثر الموت عليه حالة التلبس به فافعله فإن النفس المؤمنة وإن كانت مقصرة لا تؤثر الموت إلا على أفضل الأعمال وأحسن الأحوال فإن استويا في إيثار الموت عليهما فأنت مخير في البداءة بأيهما شئت .
فصل في بيان المنازل في رعاية التقوى
والتقوى تتعلق بالقلوب والجوارح فنبدأ بما يتعلق بالقلب إذا خطرت خطرة يكرهها الله تعالى من أعمال القلوب كالكبر والرياء والحسد والعجب فأول المنازل في رعاية التقوى أن يقطع استمرار خطورها عن القلب على الفور ، الثانية أن يدعها حتى تتمكن من قلبه وتغلب على لبه وتميل إليها نفسه ويحثه عليها شيطانه ولا يعزم عليها حتى يحضره خوف من الله تعالى أو حياء أو إجلال فيقطعها ولا يحقق العزم عليها ، الثالثة أن يعزم عليها ثم يقطع العزم عليها قبل ملابستها ، الرابعة أن يستمر عزمه عليها فيلابسها فيشرع فيها ثم يوفق للتوبة عنها فيقطعها خوفا أو حياء أو إجلالا ، وأما أعمال البدن فأقسام أيضا
أحدها أن يقطع الخطرة على الفور من خطورها ، الثاني أن يدعها حتى تستمكن من قلبه وتستحكم في لبه ويميل طبعه إليها فتحثه النفس والشيطان عليها ثم يقطعها ، الثالث أن يقصدها ويعزم عليها ثم يقطع العزم عليها ، الرابع أن يستمر العزم عليها إلى أن يشرع فيها فيقطع الشروع فيها ، الخامس أن يرجع عنها قبل إكمالها وإتمامها أو بعد الشروع فيها كمن نظر إلى محرم أو استمع إلى محرم أو تكلم بمحرم أو أصغى إلى محرم أو بطش بمحرم أو سعى إلى محرم ثم حضره خوف أو حياء أو إجلال فترك إتمام ما شرع فيه قبل بلوغ مقصده منه ، السادس أن يكمل الفعل المحرم الذي عزم عليه ثم أدركه الندم على فعله ومخالفة أمر ربه فتاب وعقد عزمه أن لا يعود إليه وقد يبلغ به بحيث يتوب من جميع الذنوب لفرط خوفه أو حيائه أو إجلاله ، السابع أن يتوب من البعض دون البعض إما لفرط شهوته له أو لشدة مشقة تركه أو لأنه يعتقد أنه من الصغائر وخير من هؤلاء كلهم من طهر الله تعالى قلبه من هذه الخطرات إلا في أنذر الأوقات ، والمذنبون أقسام : أحدهم من يسعى في التخويف الحامل على التوبة مع شدة مشقة التخويف عليه وهو مستشعر الأسى والبكاء والحزن على ما فات فهو يخوف نفسه في كثير من الأوقات بحيث لا ينتهي إلى الخوف الناجع المفيد ، الثاني من يكره ذنوبه ويحزنه تقصيره ولا يسعى في التخويف الحامل للتوبة ولكنه يسوف به من وقت إلى وقت ومن زمان إلى زمان ، الثالث المصر على الذنوب غير مكترث بها ولا عازم على الإقلاع عنها ولا على التخويف لها لأنه يحتقرها ولا يراها عظيمة عند الله وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم النور أو لاعتقاده أن توبة مثله لا تقبل أو لاعتقاده أن التخويف لا ينجع في مثله ، وطريق القسمين الأولين أن يذكرا شيئين : أحدهما مباغتة الموت ومعالجته قبل التوبة فيلقيا ربهما وهو عليهما ساخط غضبان
والثاني التخويف من أن يؤديهما الإصرار على الذنوب إلى الرين والطبع على القلوب فيقال للذي يسوف بالتوبة ويؤخرها أنت لا تخلو من ثلاثة أحوال : إما أن تموت قبل التوبة فتتعرض لسخط الله تعالى أو أن يران على قلبك فلا يؤمن عليك سوء الخاتمة
أو أن توفق للتوبة بعد التسويف فيطول وقوفك في موقف الحساب مع مذلة التوبيخ والتعنيف ولو أنك عجلت التوبة لأمنت من ذلك فانظر لنفسك قبل أن تروم التوبة فلا تقدر عليها وتسأل الرجعة إلى الدنيا فلا تجاب إليها والاستعداد للقاء الله تعالى ضربان :
أحدهما واجب وهو التوبة كما ذكرناه ، الثاني التقرب إلى الله تعالى بأنواع الطاعات المندوبات ويحمله على ذلك قصر الأمل ويحمله على قصر الأمل علمه بأن أجل الموت مطوي عنه وأنه ما يدري متى يأتيه الطلب ولا متى يكون المنقلب وإنما ينجع ذلك بإدمان الفكر فيه والإكباب عليه .
فصل فيما يجب على العبد إذا وقف على أفضل الأعمال وأولاها
إذا وقف على أفضل الأعمال وتحقق فحق عليه أن لا يقدم عليه حتى يخلصه لرب الأرباب فلا يقصد به سواه ، والتائب من الزلات تنقسم أعماله إلى ظاهر وباطن فأما الباطن الذي في قلبه فلا يمكنه الرياء به فإن الناس لا ينظرون إليه ولا يقفون عليه إلا أن يسمعهم بذلك ليعظموه ويفخموه ويوقروه ويشكروه ويجلبون إليه ما يقدرون عليه من نفع ويدفعون عنه ما يقدرون على دفعه من ضر ، فأما عمل الجوارح والأعضاء فمنه ما يمكن إخفاؤه ومنه ما لا يمكن إخفاءه ولا يتأتى فيه الرياء فيصونه عن الرياء كحزنه بعد سروره وإمساكه عن الكلام الذي لا يحل بعد خوضه فيه والانقطاع من أهل الفسوق والعصيان إلى أهل الطاعة والإيمان وكذلك كل عبادة فضلها في إظهارها فإذا عزم عليها اعترضه النفس والشيطان ليحملاه على الرياء والتصنع بها أما الشيطان فيحمله على ذاك ليفسد عليه عمله ، وأما النفس فتنال غرضها من التعظيم والتوقير ومن دفع الضرر عنها ومن جلب النفع إليها وكذلك ما يظهر عليه من زي الصالحين في المآكل والمشارب والملابس والمناكح فيقصد الرياء وقد أعمت شهوته بصيرته عن إدراك الرياء وما أخفى الرياء عن معظم الناس لأنه قصد خفي غمرته شهوة عظيمة فأعمت البصيرة وأفسدت السريرة بخلاف معاصي الأعضاء فإنها ظاهرة محسوسة لا تخفى على أحد ، واعلم أن النفس والشيطان يدعوان الإنسان إلى ترك الورع فإن أطاعهما فاتته منازل أهل الورع وإن عصاهما دعواه إلى ترك الرياء بالورع وإن أطاعهما هلك وفسد ورعه وإن عصاهما دعواه إلى ترك النوافل وقالا تكفيك الفرائض والورع فإن أطاعهما فاتته فضيلة النوافل وقد قال الله سبحانه وتعالى لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه وإن عصاهما حملاه على الرياء بالنوافل فإن أطاعهما فسدت نوافله وحبط أجره وصار مقتا عند الله تعالى وإن عصاهما وأخلص أوهماه أنه مراء وقالا له لا خلاص لك من الرياء إلا بترك العمل فإن أطاعهما وترك النوافل فاته ما يترتب عليها من ثواب الله تعالى ومحبته وإن عصاهما أخذا في مجادلته ومخاصمته في كونه مرائيا متصنعا ليشوشا عليه قلبه ويمنعاه من إحضار قلبه في طاعة ربه ، أما الشيطان فلأنه عدو للإنسان حاسد له على طاعة الرحمن ، وأما النفس فتنال هواها وتدرك مناها بفكرها في لذات دنياها فإنها مجبولة على حب العاجل والإعراض عن الآجل وقد حذرنا الرحمن من الشيطان فقال إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا أي لا تلتفتوا عليه ولا تصغوا إليه
وحذرنا من النفس بقوله تعالى إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي يوسف وقليل ما هم .
فصل في بيان الإخلاص والرياءالإخلاص أن يريد الله بطاعته ولا يريد به سواه وهو أقسام : أحدها أن يريد الخلاص من العقاب ، الثاني أن يريد الفوز بالثواب ، الثالث أن يريدهما جميعا ، الرابع أن يفعل ذلك حياء من الله تعالى من غير خطور ثواب أو عقاب ، الخامس أن يفعل ذلك حبا لله تعالى من غير ملاحظة ثواب أو عقاب ، السادس أن يفعل ذلك إجلالاً وتعظيماً ، وأما الرياء فهو أن يريد الناس بطاعة الله تعالى وعبادته وهما ضربان : أحدهما أن لا يريد بتلك الطاعة إلا الناس ، والثاني أن يريد بطاعته الناس ورب الناس وهذا أخف الريائين لأنه أقبل على الله من وجه وعلى الناس من وجه وأما الأول فإنه إعراض عن الله بالكلية وإقبال على الناس وكلاهما محبط للعمل لقول الله عز وجل أنا أغنى الشركاء عن الشرك فمن عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته لشريكه وفي رواية تركته لشريكي ولا يتصور شرك الرياء لمن عبد الله تعالى تعظيما وإجلالا لأن تعظيمه يمنعه من أن يعصيه بشرك الرياء وكذلك الحياء أيضا يزعه عن ذلك وكذلك الحب مانع من عصيان المحبوب فيما يتقرب به إليه .
فصل في الأسباب الحاملة على الرياء
النفوس مجبولة على طلب ما يلائمها من شهواتها ولذاتها ومن أعظم شهواتها التعزير والتوقير ودفع ما يؤلمها وجلب ما يلذ لها والنفوس مستشعرة بأن الناس برهم وفاجرهم يعظمون أهل الدين ويثنون عليهم ويتقربون إليهم ببذل أموالهم وأنفسهم في مباشرة خدمتهم واحترامهم حتى الملوك الذين هم أعظم الناس عند الناس فإذا علمت النفوس ذلك مالت إلى أن تتصنع لهم بطاعة الله تعالى ليوقروها ويعظموها ويثنوا عليها ويتقربوا إلى الله عز وجل بخدمتها بالأنفس والأموال والأولاد ويصغوا إليهم إذا قالوا ويطيعوهم إذا أمروا ويعتذروا عنهم إذا أخطؤوا ويكفوا عنهم أذية من آذاهم وعداوة من عاداهم
فإذن للرياء ثلاثة أسباب أحدهما التعظيم والإجلال وهو أعظمها وعنه ينشأ السببان الآخران أحدهما الطمع فيما في أيدي الناس من المنافع والأموال والثاني دفع الضرر وذلك على قدر همم الناس فيما يلتمسون فمنهم من لا يؤثر إلا التعظيم والإجلال وإن بذلت له الأموال لم يقبل عليها ولم يلتفت إليها لعلمه بأنه يعظم بتركها ويؤثر الإعراض عنها وكذلك لا يستعين بأحد يدفع الضر تصنعا بأنه مستغن عن الناس إما بقوته على دفعه وإما بتوكله على ربه ومنهم من يؤثر بريائه جلب النفع وإن قل ومنهم من يؤثر بريائه دفع الضرر ولا يخلو هذا من قصد التعظيم والتوقير فما من رياء إلا فيه طلب تعظيم وتوقير وقد يكون الرياء ناشئا عن هذه الأسباب الثلاثة .
فصل في أمثلة الرياء لدفع الضرر والذموله أمثلة أحدها أن يتقدم مع المجاهدين إلى الصف الأول وهو لا يؤثر التقدم معهم لجبنه ولكنه يتقدم خوفا أن يذم بالجبن وقلة الشجاعة فيتقدم معهم دفعا للمذمة الثاني أن يكون قائما في الصف فتجبن نفسه عن الثبوت فيخاف على نفسه فيثبت لئلا ينسب إلى الجبن والفشل والتعرض لسخط الله تعالى ولو غفل عنه أصحابه أو كان بين قوم لا يعرفونه لانهزم فهذا قد تعرض لسخط الله تعالى وإن كان ظاهر فعله أنه مجاهد في سبيل الله الثالث أن يكون بين قوم يتصدقون بالقدر الكثير من المال ومن عادته أن لا يتصدق وإن تصدق تصدق بالقليل فيخشى أن يبخل وينسب إلى قلة الرحمة فيوافقهم على التصدق بالكثير دفعا لريبة البخل وقلة الرحمة وكذلك لو كان من عادته أن لا يتصدق بقليل ولا بكثير فيتصدق من أجلهم بالقليل ليدفع بذلك بعض التبخيل الرابع أن يحاضر قوما يصلون في الليل أو النهار صلاة لم يعتدها فيخاف أن ينسبوه إلى قلة الرغبة في الخير أو يحضر مع قوم يطيلون الصلاة ويحسنونها فيصنع مثل صنعهم أو دون ذلك على خلاف عاداته دفعا للذم أو بعضه ومما يشبه الرياء لمشاركته إياه في العلة وليس برياء أن ينزل به نازلة يجهل حكم الله فيها فيخشى أن ينسب إلى الجهل بذلك الحكم فيترك السؤال عنه خوفا من النسبة إلى الجهل بمثله وكذلك أن يسأل الفقيه أو الشيخ من المشايخ عن حكم من أحكام الله فيجيبنا عن ذلك بما لا يعلمانه خوفا أن ينسبا إلى الجهل بمثل ذلك وكذلك يخشى أن ينسب إلى قلة المعرفة فيدعي أنه كتب من الأحاديث ما لم يكتبه وسمع منها ما لم يسمعه دفعا للذم .
فصل في الرياء لجلب النفع والطمع فيما في أيدي الناسوله أمثلة : الأول أن يحاضر من يرجو بره وصلته وإحسانه فيرائيه بطاعة الله تعالى لينيله مارجا منه من البر الصلة ولو اطلع منه هذا المرجو على زلته لاغتم لاطلاعه عليها ما لا يغتم لاطلاع غيره خوفا من انقطاع بره وصلته ولو اطلع على عبادته وطاعته لارتاح بذلك وفرح به ما لم يرتح إلى إطلاع غيره ممن لا يرجوه الثاني أن يكون له من يعامله بالنسيئة والمسامحة والصبر بالثمن الحال فيتصنع له بعبادة الله تعالى وطاعته رغبة في الاستمرار على معاملته ومسامحته وصبره . الثالث الأجير والوكيل يبالغان في النصح وأداء الأمانة طمعا في استمرار التوكيل والإجارة .
فصل فيما يهيج أسباب الرياء خوف الذممن حب الحمد وحب الطمع فيما أيدي الناس
الذي يهيج الرياء ويحث عليه معرفة العبد بأن الناس يعظمون من ظهر صلاحه وديانته ويوقرونه ويؤثرونه ويصدرونه في المجالس ويبدؤونه بالسلام ويقبلون عليه ويصغون إليه ويحسنون الجلوس بين يديه ويستشيرونه في المهام وإن أذنب تأولوا ذنبه وإن كذب تأولوا كذبه ويبذلون له أموالهم وينكحونه بناتهم ويتقربون إلى الله عز وجل بولايته ويتبركون بدعائه ويبذلون له الندى ويكفون عنه الأذى فإذا شعرت النفس بمثل هذه المنزلة التي لا ينال مثلها إلا بالطاعة تصنعت عندهم بطاعة الله تعالى وعبادته لتنال هذه المنازل أو بعضها ويدفع الناس عنها ما تكره خوفا من الله أن يؤذوا وليا من أوليائه فإن من آذى لله وليا فقد بارز بالمحاربة . فصل فيما يضعف دواعي الرياء ويكسر أسبابهتضعف دواعي الرياء بأسباب منها تذكير النفس بما يحرمه الله عز وجل من توفيقه أو صلاح قلبه بسبب الرياء ، ومنها خوف مقت الله تعالى إذا اطلع على قلبه وهو معتقد الرياء ، ومنها ما يفوته أو ينقص له من ثوابه على الإخلاص ومنها ما ينقص من ثوابه في الآخرة ، ومنها ما يتعرض له من عقاب الله تعالى وسخطه وعذابه الأليم في الآخرة ومنها أنه لا يأمن أن يعجل الله تعالى بعض العقوبات ولا يمهله فيفضحه ويمقته لمن كان يتحبب إليه بريائه ، ومنها تقبيح ما يحببه إلى العباد بما يبغضه إلى رب العباد ومنها تزيينه لهم بما يشينه عند الله تعالى ، ومنها التقرب إليهم بما يبعده عن رحمة الله تعالى ومن بعد عن الله فقد هوى به ريح شؤم المعصية في مكان سحيق وضل ضلالا بعيدا وخسر خسراناً مبيناً ، ومنها التحمد إليهم بما يوجب ذمة عند الله تعالى ، ومنها إرضاؤهم بالتعرض لسخط الله تعالى مع حبوط عمله يوم فقره وفاقته والله لو لم يكن إلا خجلته بين يدي رب العالمين إذا عرض عليه إقباله على الناس وإعراضه عن الله تعالى لكان ذلك من أعظم العقوبات وأوضعها ، ومنها أن رضا الناس عنه غاية لا تدرك ومطلوب لا يملك فقد يرضي بعضهم ما يسخط الآخرين ، ومنها أن ما ينال منهم لو حصل له مع تعرضه لها بالآفات لكان من أخسر الخاسرين مع أنه يجهل ما يحصل له من المنزلة في قلوب الناس مما يظهره من أعماله وريائه ولا يأمن أن يطلعهم الله تعالى على ريائه فيمقتوه ويحرموه ويضروه ولا ينفعوه فيخسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين ولأنه إن راآى لدفع الضرر كان ما يناله من ضرر الآخرة أعظم من الضرر الذي راآهم به دفعا له وإن راآهم لجلب نفع كان الذي يفوته من نفع الآخرة أعظم من ذلك النفع وقد يطلعون على ريائه فيفوته النفعان وإن راآهم ليمدحوه أو ليعظموه وليوقروه كان ما فاته من مدح الله تعالى في ذلك كله على ريائه فيفوته ذلك كله مع عظيم ما تعرض له من غضب الله تعالى ومقته وعذابه وعقابه الذي لا يدفع ولا يطاق ونعوذ بالله من سخطه وغضبه وعقابه فإذا واظب من رغب في الإخلاص لله تعالى على ما ذكرناه بإحضاره وإدمانه الفكر فيه وتضرع إلى الله تعالى في أن يعينه ويثبته على الإخلاص ويوفقه إليه اضمحل رياؤه وتلاشى شيئا فشيئا فمجته نفسه بما فيه من عظم الضرر وفوات عظيم النفع ولا يزال يتدرج في الإخلاص إلى أن يصير من المخلصين برحمة رب العالمين .
فصل في بيان ما يرائى به من الطاعات وغيرها
يراءي الناس في دينهم ودنياهم بخمسة أشياء والرياء بالدنيا أخف من الرياء بالأديان فيرائي أهل الدين والدنيا بأبدانهم وأقوالهم وأعمالهم وبزيهم في أبدانهم ولباسهم فأما رياء أهل الدين بأبدانهم فيرائي العبد بالنحول واصفرار اللون ليوهم الناس أنه شديد الاجتهاد والخوف والحزن وبضعف صوته وغور عينيه وذبول شفتيه إعلاما للناس بذلك أنه صائم
فالنحول دليل على قلة الغذاء وكثرة الهموم والأحزان والاصفرار دليل على قيام الليل وغلبة الهموم والأحزان وليس هذا رياء على الحقيقة وإنما هو تسميع بلسان الحال لا بلسان المقال ، وأما رياء أهل الدنيا بالأبدان فبسمتها وحسنها وصفاء ألوانها ، وأما رياء أهل الدين بالزي واللباس فبشعث الرؤوس وحلق الشوارب واستئصال الشعر أو فرقه نهارا لكونه متابعا للرسول صلى الله عليه وسلم في زيه وكذلك غلظ الثياب وآثار السجود وتشمير القمص وقصر الأكمام وخصف النعال وحذوها على زي أهل الدين
ومن هؤلاء من يؤثر مدح أهل الدنيا والدين فيطلب بريائه ليمدحه الفريقان وينفق عليهم ليصل إلى أغراضه منهم فيلبس الثياب الخشان لينفق عند أهل الدنيا ويقصر أكمامها ويشمر ذيولها لينفق على أهل الدين وكذلك يلبس النعال الخصاف محذوة على نعال أهل الدين ، ومنه من يبالغ في جودة الثياب وغيرها من اللباس ويجعل هيأتها على هيئة لباس أهل الدين ليحمده الفريقان وينفق عندهما ويتقرب من السلاطين زعما منه أنه إنما يتقرب إليهما لقضاء حوائج المسلمين ، ومنهم من يتصنع بالطاعة لينفق على أهل السنة وأهل البدعة ، ومن هؤلاء من لو أعطي ما أعطي من الأموال الخطيرة لما خرج عن زيه الذي عرف به لئلا يقال خرج عن اقتدائه بنبيه عليه الصلاة والسلام وفتر عما كان عليه من تقشفه وخوفا من الكساد عند من تحبب إليهم ونفق عندهم ويرائي أهل الدنيا بالثياب النفيسة والطيالسة الرفيعة والجباب المصبغة وغير ذلك من زيهم المعروف عندهم فيخرجون عن زي أهل الدين في ذلك كله ، وأما الرياء بالأقوال فيرائي أهل الدين بالنطق بالحكم وإقامة الحجج عند إقامة المناظرة وبالحفظ للحديث وأقوال المختلفين وذكر الله تعالى بالألسن والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتضعيف الصوت عند الجواب وبتحسين الصوت ورفعه عند القراءة أو تحزينه والتأوه عند القراءة ليدل بذلك على المخافة ،
وأما رياء أهل الدنيا بالأقوال فيراؤون بالنطق بالطاعة وغير الطاعة وبالفصاحة وبحسن البيان في المحاورة وحسن الصوت وإنشاد الشعر ومعرفة الغناء والنحو والعربية واللغة
وكان السلف إذا اجتمعوا يكرهون أن يذكر الرجل أفضل ما عنده ، وأما الرياء بالأعمال فيرائي أهل الدين من أعمالهم بطول الصلاة وتحسين ركوعها وسجوداتها وبالصوم والغزو والحج وطول الصمت وبذل الأموال وإطعام الطعام والإخبات بالمشي إذا لقوا الناس بإرخاء الجفون وتنكس الرؤوس والتثبت عند السؤال ، ومنهم من يمشي سريعا فإذا اطلع عليه أهل الدين مشى مشية أهل الدين فإذا جاوزه عاد إلى ما كان عليه ، ويرائي أهل الدنيا بصحبة أهل الدين من العلماء والعباد ليقال فلان يمشي إلى فلان العالم أو العابد ويصحبه ويتردد إليه إما لينفق عند الملوك أو ليتولى القضاء أو ليستشهد أو يستودع أو يوصى إليه فيخون الأمانة .
فصل في مراتب نفي الرياء للشيطانفي الرياء ثلاثة أحوال إحداهم أن يخطر الرياء بقلب العبد الثانية أن يزينه ويحببه إلى العبد
الثالثة أن يدعوه إليه ويحثه عليه بعد أن حببه إليه فأسعد الناس من يدفع الخطرة ويصرفها عن قلبه ويليه الذي يدفعه بعد تحسينه وتزيينه ويليه الذي لا يتعاطاه بعد حث الشيطان عليه ودعائه إليه وهذا جار في جميع المعاصي ويندفع دعاء الشيطان إلى الرياء وإلى جميع أنواع العصيان بشيئين : أحدهما كراهية المعصية والرياء ، والثاني الامتناع مما كرهه
وإنما تحصل الكراهة بتذكر ما في تلك المعصية أو الرياء من سخط الله تعالى وغضبه وعقابه وبما اشتملت عليه مما ذكرناه من مضار الدارين فإن الله تعالى جبل الإنسان على محبة ما ينفعه وكراهة ما يضره وخلق النفس ميالة إلى ما ينفعها نافرة عما يضرها والشيطان عون لها على ذلك وخلق العقل ليدفع أعظم الضررين بأدناهما ويقدم أعلى النفعين على أدناهما والشرع هو المعرف للنفع والضر والعقل كالبصر لا يرى النفع والضر إلا في نور الشرع كما أن البصر لا يرى الحسن والقبيح إلا في نور العقل وإذا زين الشيطان المعصية وحببها إلى النفس امتلأ القلب بحبها فنسي العبد ما كان عزم عليه من الطاعة والإخلاص فيغفل عما في الفعل من مضرته في دينه ودنياه وإنما يقطع ذلك باستجلاب التذكر لما في الذنب من المفاسد التي تربى على ما في الشهوة من المصالح فإذا علم ما في طاعة الشهوة من الضرر العظيم كرهتها النفس حينئذ لأنها مجبولة على دفع أعظم الضررين بالتزام أخفهما
ولا شك أن ضرر الذنوب في الدنيا والآخرة أعظم من ضرر فوات شهوة فانية فإذا اطلعت النفس على ذلك صارت مع العقل فيغلب جند الرحمن جند الشيطان إذ لا يتصور في العادة أن يتذكر العبد ما في الطاعة والإخلاص من مصالح الدنيا والآخرة ويستحضره وما في الرياء والمعصية من مفاسد الدنيا والآخرة ثم يقدم على الرياء والعصيان مع العلم بما فيهما من فوات الصالح وحصول المفاسد .


فائدة في أحوال العبد إذا حضره الرياء في شيء من الطاعات
إذا حضر الشيطان الرياء في شيء من الطاعات كالصلاة مثلا فللعبد أربعة أحوال إحداهن أن لا يلتفت عليه ولا يصغي إليه الثانية أن ينتهره ويسبه فتنقض صلاته لأنه اشتغل بسب الشيطان عن مناجاة الرحمن ، الثالثة أن يجادله ويناظره ويبين له أن يخدعه فهذا أيضا قد اشتغل بمخاصمة الشيطان عن الإقبال على الملك الديان ، الرابعة أن لا يلتفت إليه ولكن يزيد في تحسين صلاته بخضوعها وخشوعها وإتمام سجودها وركوعها إرغاما للشيطان وهذا هو الأفضل لأنه إذا أدمن على ذلك هرب منه الشيطان لأن غرضه بالوسواس وإحضار الرياء أن يفسد عبادة الإنسان فإذا صار إحضاره ووسواسه سببا للتكثير من الطاعة هرب ممن يفعل ذلك لأن سعيه في ذلك سبب لإرغامه بتحسين الطاعة وتكميل العبادة وذلك مرض للرحمن مرغم للشيطان .
فصل في حكم التحرز من الشيطان والحذر منهاختلف الناس في ذلك فقالت طائفة ينبغي أن يشتغل العبد بالعبادات والطاعات ولا يلتفت إلى الشيطان ولا يشتغل بالتحذر منه بل يجعل بدل التحذر منه طاعة الله عز وجل
وقالت طائفة التحذر من الشيطان وأخذ الحذر منه مناف للتوكل على الله تعالى والاعتماد عليه إذ لا قدرة للشيطان على إضلال ولا إغواء إلا بمشيئة الرحمن وإرادة الديان
وهاتان الفرقتان غالطتان مخالفتان لنصوص القرآن واتفاق أهل الإسلام على وجوب التحرز من الكفار وإعداد ما استطعنا لهم من قوة وكراع وسلاح وقد قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم وكيف يكون امتثال أمر الله سبحانه شغلا عن الله متوكلا على غيره وقد دخل سيد المتوكلين مكة وعلى رأسه المغفر وظاهر يوم أحد بين درعين وإذا أمرنا بأخذ الحذر من عدو نراه كما يرانا فما بال الظن بعدو يرانا ولا نراه ويجري منا مجرى الدم وقد أمر الله سبحانه وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بالاستعاذة من الشيطان الرجيم بل أمره بالاستعاذة من جميع الشياطين بقوله تعالى وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون أي في شيء من أحوالي كلها
والتحرز من الشياطين أولى من التحرز من الكافرين لأن الشيطان إذا نكبك بشيء من مكره كنت من العاصين الخاسرين والكفار إذا نكبوك بشيء من مكرهم كان ذلك مكفرا لسيئاتك رافعا لدرجاتك فالصواب أخذ الحذر منه والتحرز منه كما أمر رب العالمين واختلف القائلون بذلك في كيفية التحرز منه وأخذ الحذر فقالت طائفة ينبغي أن يؤخذ الحذر منه في أغلب الأحوال ترقبا لخطره يخطرها فيدفع تلك الخطرة بما غلب على القلب من ذكره والتحرز منه ، وقالت طائفة يؤخذ الحذر منه عند كل طاعة تعرض مخافة أن يدخل فيها ما يفسدها ، وأخطأت الطائفة الأولى بجعلها ذكر الشيطان أغلب من ذكر الرحمن ، وأخطأت الطائفة الثانية بتسويتها بين ذكر الشيطان وذكر الرحمن

والصواب أن يتحرز منه تحرزا يتنبه بمثله عند خطرته على معصيته ومخالفته ورد خطرته وأن يكثر الاشتغال بالطاعات والقربات والأذكار وتلاوة القرآن ولا تضره الغفلة عنه في أكثر الأوقات ألا ترى أن من اهتم بشيء ثم رقد فإن اهتمامه يوجب انتباهه لأجله مرات فإذا كان الاهتمام موجبا لتنبيه النائم فإيجابه لتذكير الغافل أولى .

فصل في ترك العمل مخافة الرياء


الشيطان يدعو إلى ترك الطاعات فإن غلبه العبد وقصد الطاعة التي هي أولى من غيرها أخطر له الرياء ليفسدها عليه فإن لم يطعه أوهمه أنه مراء وأن ترك الطاعة بالرياء أولى من فعلها مع الرياء فيدع العمل خيفة من الرياء لأن الشيطان أوهمه أن ترك العمل خيفة الرياء إخلاص والشيطان كاذب في إيهامه إذ ليس ترك العمل خوف الرياء إخلاص وإنما الإخلاص إيقاع الطاعة خالصة لله تعالى دون الناس وقد تترك العمل مخافة الرياء فيوهمك الشيطان أنك مراء بترك العمل لينغص عليك العيش فيما تعمله وفيما تتركه مثال ذلك أن يكون في قراءة أو تعليم أو ذكر أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر فيوهمك أنك مراء بذلك فتتركه فيوهمك أنك مراء بالصمت وأن يقال إنما صمت خيفة من الرياء فتغيب عن الناس خوفا من الرياء فيوهمك أنك مراء بالهروب منهم والاعتزال عنهم وأنهم يقولون إنما فر بدينه خوفا من الرياء فتستحلي النفس أن تقول الناس إنما فر بدينه خوف الرياء ولا خلاص لك من مثل ذلك إلا بالكراهة والإباء فإن أشكل عليك أمرك فإن وجدت نفسك مائلة إليه من غير كراهة ولا إباء فقد صدقك الشيطان فيما أخبرك به من أنك مراء فإن لم تنفك عن خطرة الرياء ولم يجد من نفسك الكراهة والإباء فإن كان ذلك العمل نفلا فدعه وإن كان فرضا لزمك أن تجاهد نفسك على حسب إمكانك في استحضار نفسك الكراهة والإباء وإن دخلت في الفرض على الإخلاص فأوهمك أنك مراء فلا تصغ إليه ولا تلتفت عليه لأنك تحققت الإخلاص وشككت في الرياء واليقين لا يزال بالشك .
فصل في بيان أوقات الخطرات بالرياء والتسميعلا يكون التسميع إلا بعد انقضاء العمل على الإخلاص فيسمع العبد الناس بما فعله لأجل الله تعالى ليحصل على الأغراض التي ذكرناها في الرياء من التوقير والتعظيم والإكرام والاحترام والتصدر في المجالس والبداءة بالسلام وفي الحديث الصحيح من سمع سمع الله به ولخطرات الرياء ثلاثة أحوال ، إحداهن قبل الشروع في العمل ، والثانية عند الشروع فيه ، والثالثة بعد الشروع في العمل الخالص ، فأما ما يقترن بأول العمل فقد ذكرناه
وأما ما يقع قبل العمل فللخطرة فيه أحوال : إحداهن أن يخطر له عمل لا يقدر عليه ويتمنى أن لو قدر عليه ليرائى به ويحصل على أغراض الرياء فهذا متمن غير أنه لا يريد معصية الله تعالى ، الثانية أن يخطر له الرياء إرادة بحمد المخلوقين ولا يريد عند ذلك رياء ولا إخلاصا ، والثالثة أن تخطر له خطرة الرياء لحمد المخلوقين لا غير مع ذكر الإخلاص والرياء فيتغافل عن الإخلاص ولا يفزع من الرياء ، والرابعة أن تخطر الخطرة فيكرهها ويحب العصمة منها ولا يدعها لفرط شهوته في الرياء كما يتفق مثل ذلك في سائر الذنوب وهذا أقرب من غيره لأجل توجعه وكراهته ، الخامسة أن يخطر له إرادة الله تعالى وإرادة الخلق ، والسادسة أن يخطر له الإخلاص ثم يطرأ عليه الرياء ثم يدخل في العمل بنية الرياء
وأما الخطرة بعد الدخول في العمل فلها حالان : أحدهما أن يخطر له الرياء المحض وله حالتان : أحدهما أن يستمر على عمله مرائيا به من غير زيادة فيه ، الثانية أن يزيد في تحسين العمل وتكميل نوافله لأجل الرياء ، الثاني من الحالتين الأولين أن تخطر له رياء الشرك فيزيد في العمل رياء أو يستمر عليه فهذه خطرات المرائي ، وأما المسمع فله أحوال
إحداهن أن يحدث به صريحا ليكون على ثقة من حصول أغراض الرياء ، الثانية أن يعرض به تعريضا مخافة أن يفطنوا بتسميعه فلا يحصل غرضه ورجاء أن يفهم بعضهم ذلك فيحصل على غرضه وقد يخطر له ذلك فيحبه ويؤثره ولا يعرض به ولا يصرح اكتفاء بما ظهر عليه من الدلالات كاصفرار لونه ونحول جسمه وغور عينيه وذبول شفتيه .
فصل في دركات الرياء والتسميعشر دركات الرياء الرياء بالإسلام والإيمان وذلك رياء المنافقين ، ويليه الرياء بالفرائض كالصلاة والزكاة والحج والعمرة والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك مما فرضه الله عز وجل على عباده فيأتي به العبد لأجل الرياء تصنعا للناس وكراهة للذم وحبا للحمد ولو تمكن من ذلك جميعه لما فعل شيئا وقد يسمع بعبادة لم يفعلها وطاعة لم يأتها فيكون جامعا بين ذنبين أحدهما التسميع ، والثاني الكذب ، ويليه الرياء بما تأكد في الشرع كصلاة جماعة وقرى الضيف وعيادة المرضى وتشييع الجنائز يأتي ذلك لأجل الناس كي لا يذم بترك ما سنه الله تعالى وأكده وإرادة حمدهم ولو أمكنه أن يترك ذلك كله لتركه
وقد يرائي أحدهم بالورع وإظهار النسك فيطيل الصمت ويترك الاغتياب وينهى عنه ويؤدي الأمانة ويجتنب الخيانة وإذا ظهرت منه زلة أظهر التوجع والتندم والحزن والكآبة ويستحل ممن ظلمه والله تعالى يعلم أنه لو تمكن من ترك ذلك كله أو من ترك بعضه لتركه غير مبال بتركه ، ويليه الذي يكمل الفرائض بسننها كإطالة الركوع والسجود والاعتدال والقعود يفعله إذا رآه الناس ويتركه إذا لم يروه وكذلك يؤدي الزكاة من أجود أمواله ولولا الناس لاقتصر على القدر المجزئ ، وكذلك يصمت في الصوم عن الغيبة والكذب ويمسك عن النظر إلى ما لا يحل ولولا الرياء لما فعل شيئا من ذلك ، ويليه المبادرة إلى التكبيرة الأولى ورفع اليدين وأخذ شماله بيمينه وتسكين أعضائه لا يفعل ذلك إلا رياء ولو خلا بصلاته لم يفعل شيئا من ذلك ويليه المبادرة إلى الصف الأول عن يمين الإمام وإكرام الضيف فوق ما يستحق ويليه من يرائي بالتطوع والتورع وغير ذلك من طلب العلم والتخشع ومجالسة الصالحين وإتيان مجالس المذكرين والواعظين ليصل بذلك إلى معصية من معاصي الله تعالى كإتيان الغلمان والنسوان وأن يولى أمانة أو معصية أو قضاء أو شهادة فيخون في ذلك كله ، ويليه من يصر على المعصية ويخشى أن تشاع عنه فيظهر من النوافل والتطوعات والخضوع والخشوع والبكاء ما يوجب تكذيب من يخبر عنه بالمعصية التي هو مصر عليها فقد جعل الله تعالى وقاية لعرضه ، ويليه من يأتي بكثير من الطاعات لينال به شيئا من المباحات مثل أن يتصنع لقوم يرغب في النكاح إليهم فيكون كمهاجر أم قيس
ويليه من يطلع منه على نقيصه فيظهر من الطاعة ما يجبرها ويمحوها من قلوب الناس كمن يمشي منبسطا في مشيه فإذا اطلع على من يتنقصه مشى بالسكينة والوقار ونكس رأسه وأسبل يديه وأرخى عينيه وكذلك الضاحك المنبسط في حديثه يطلع عليه فيخشى أن ينسب إلى قلة الأدب وترك التخلق بآداب الصالحين والاستكانة لرب العالمين فيترك ذلك ويظهر الندم عليه والاستغفار منه خوفا من تغير اعتقاد الناس فيه ، ويليه من يرى الناس يتهجدون فيتهجد معهم لئلا ينسب إلى قلة الرغبة في الخير ويراهم يتصدقون فيتصدق لمثل ذلك وكذلك سائر التطوعات يأتي بها ليحمد ويشكر ويولى والله تعالى يعلم منه أنه لو خلا عن الناس لم يفعل شيئا من ذلك ويليه من يعمل العمل لله تعالى ولأجل العباد ولولا العباد لما فعله ويليه من يعمل العمل لله تعالى إذا خلا فإذا رآه الناس فعل ذلك لأجلهم ولأجل الثواب ويليه من يوهم الناس أنه صائم تطوعا وهو مفطر لكنه يخشى أن ينسب إلى قلة الرغبة في الخير ويكون ممن يظن به الخير فيسقط اعتقاد الظان فيه فيمتنع من الطعام والشراب مع حاجته إليهما وقلة صبره عنهما وفي بعض هذه الرتب نظر .
فصل فيما يورثه الرياء من الخصال المذمومةيورث الرياء خصالا مذمومة منها حب الرياسة والمباهاة بالعلم والعمل والتفاخر بالدين والدنيا ومحبة العلو والتكاثر بالمال وغيره من أمور الدنيا وبالعلم والعمل والتحاسد عليهما من غير منافسة بل خوفا من أن ينال من يحاسده من المنزلة والحمد لا يناله هو ورد الحق على من أمر به أو ناظر فيه لئلا يقال هو أعلم منه وحب الغلبة في المناظرة وترك تعلم من يحتاج إلى تعليمه وحب الرياسة أن يحب التعظيم والإجلال وتسخير العباد والاحتقار بهم وان لا يرد عليه شيء من أقواله وأن لا يساوى في العلم بأمثاله وأن يصر على الخطأ كي لا تنكسر رياسته وإن وعظ عنف وإن وعظ أنف والمباهاة بالعلم أن يخبر عن نفسه بكثرة الحفظ والمواظبة عليه وكثرة عدد من لقي من المحدثين والمبادرة بالجواب حين يسأل هو أو غيره يريد بذلك كله أن يعلو على غيره وأن يعلمه أنه أعلم منه وإن أخبر بحديث ذكر أنه يعرفه مباهاة والمباهاة بالعمل أن يحاضر من يعمل عملا من أعمال البر كالصلاة والجهاد وغيرهما فيأتي بمثل ما يأتي به ويزيد عليه لا يريد بذلك إلا تعريفه أنه افضل منه ولو خلا بنفسه لما فعل شيئا من ذلك ، وأما المباهاة بالدنيا فبأن يزيد على أبناء جنسه بالأبنية والمآكل والمشارب والملابس والمناكح والأثاث والخدم لا يريد بذلك إلا أن يفوق غيره وأن يعرفه أنه أفضل منه في ذلك والمفاخرة كالمباهاة وتزيد عليها بأن يذكر ما فضله به تعظيما لنفسه وتحقيرا لصاحبه مثل أن يقول كم سمعت أنت وهل تحسن شيئا وما تقول في مسألة كذا وكذا أو يقول ما يحسن فلان مثل ما أحسن ولا قام مقامي قط في حرب ولا في غيره وكم تحفظ من الحديث ومن لقيت من الشيوخ ومن أدركت من العلماء والمفاخرة بالدنيا كقوله أنت فقير ولا مال لك وكم ربحت وأي شيء ملكت وعبدي ومولاي أغنى منك والتكاثر كالمفاخرة ويزيد عليها بالتعديد مثل أن يقول سمعت كذا وكذا من الحديث وغزوت وحججت كذا وكذا غزوة وحجة وأدركت كذا وكذا من المشايخ وما أفطرت من كذا وكذا ومن ينام بالسحر فإن كان المفاخر المكاثر فطنا يحب أن يحمد بما فاخر به أو كاثر ويخشى أن يذم بالمفاخرة والمكاثرة عرض بالمفاخرة والمكاثرة ليحصل على غرضيه
وهذه الأخلاق الذميمة يجامع بعضها بعضا ويزيد بعضها على بعض ولأجل ذلك فرق الكتاب والسنة بينهما ففي الكتاب وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد وفي الحديث من طلب الدنيا مفاخراً مكاثراً مرائياً ، ومن الأخلاق الذميمة الحسد ويكون مسببا عن الرياء وغيره كما يكون التفاخر والتكاثر كذلك فالحسد أن يتمنى زوال ما فضل الله تعالى به غيره عليه مخافة أن يعتقد الناس فضله عليه وحب الغلبة يكون عن الرياء وغيره فيحب أن يغلب في المناظرة وأن يخطئ خصمه فيها ليظهر صوابه ليعظم بذلك ويوقر أكثر مما يعظم خصمه ولو أصاب خصمه أو ساواه في المعارضة لساءه ذلك ولطال همه وغمه وقد يترك السؤال عما يلزمه تعلمه أو يجيب بما لا يعلمه مخافة أن ينسب إلى الجهل بذلك وهذا على الحقيقة تسميع بالعلم بلسان الحال .


فائدة في علامة الرياء في نفس الإنسان

من أراد أن يعلم من نفسه أنه مراء أو مخلص فعلامة كونه مرائيا أن يحب الحمد على الطاعة ويكره الذم فيفعل الطاعة خوفا من الذم وإذا أخلص العمل لله تعالى أو علم علما لا يعلمه الناس لم يقنع بعلم الله منه ذلك وهاج قلبه لمحبة إطلاع الناس عليه فأحب الناس إليه من يمدحه على ذلك وإن طالب نفسه بطاعة خفية ثقلت عليه ولم تطاوعه على ذلك ولا تتمنى طاعة لا يعلم بها أحد وينفى الرياء بأن يعمل العبد العمل لا يريد به إلا الله تعالى اقتصارا على علم الله الذي بيده النفع والضر فقد يعمل العمل في السر بجوارحه أو بقلبه كالفكر الذي يهيج البكاء والأحزان فتجزع نفسه من خفاء ذلك عن الناس فتقول له كيف تخفي مثل هذه الفضيلة عن الناس ولو علموا بها لقمت عندهم مقاما عظيما ولا يعلم العبد أن في ذلك ضعة قدره عند ربه حتى يلزم قلبه الإخلاص فيقنع بعلم الله تعالى فإن اطلع عليه منع قلبه من الارتياح إلى اطلاعهم عليه فإن غلبته على الارتياح رد عليها بالكراهة والإباء وامتنع من الركون إليه ولا يزال حذرا حتى يفرغ من العمل فإذا فرغ من العمل منع نفسه من طلب التسميع به فإن كان العمل ظاهرا كتشييع الجنائز وطلب العلم والتطوع يوم الجمعة في المسجد فليوطن نفسه على أن تقنع بعلم الله تعالى ولا ينظر إلى علم من لا يضر ولا ينفع ولا يلتفت إليه .
فصل فيمن يخلص العمل في السر فيطلع عليه فيعجبه ذلك
من أخلص العمل لله سرا فاطلع عليه فأفرحه ذلك وأعجبه فله أحوال : إحداهن أن يفرح بذلك لأن الله عز وجل ستر مساوءه وأظهر محاسنه ولا يفرح بسبب اطلاع الناس على ذلك فهذا فرح بإنعام الله عليه وإحسانه إليه يرجى له الأجر على ذلك وقد يرجو أن يستر الله عليه ذنوبه في الآخرة كما سترها في الدنيا فيكون محسنا للظن بربه وقد قال تعالى أنا عند ظن عبدي بي ، الثانية أن يسر كون أن الناس اطلعوا عليه فأطاعوا الله فيه بإحسان الظن به فيكون سروره بكونهم أطاعوا الله تعالى فيه فهذا سرور منه للمسلمين بطاعة الله سبحانه وتعالى فيه ، الثالثة أن يطلعوا عليه فيقتدوا به فيسر بكونهم اقتدوا به وبأن الله تعالى جعل طاعته سبب الاقتداء به فأحسن به من سرور وقد أمرنا الله عز وجل أن نفرح بفضله وبرحمته ، الرابعة أن يسر باطلاعهم عليه ليعظموه ويشكروه وأن ينال منهم ما يرجوه أهل الرياء فلا يحبط عمله بذلك لأنه مضى على الإخلاص ولم يأثم به لأن من طبع الإنسان الميل إلى ما يوافق طبعه والنفور مما يخالف طبعه وما كلف أحد أن يخرج عن طبعه ولكنه إذا ظهر حبه لذلك لم يأمن أن يكون خطرت له خطرة رياء فخفيت عليه لأن الرياء في العبيد أخفى من دبيب النمل فإن اطلع عليه في أثناء العمل فسر بذلك لأجل المنزلة عند الناس فقد اختلف فيه وتردد الشيخ فيه ثم اختار الإحباط وهذا بعيد إذا لم يراء ببقية عمله فإن مجرد الحب لاطلاع الناس ميل طبعي لا معصية فيه فكيف تحبط الطاعة بما لا معصية فيه ولو مال قلب الإنسان في الصلاة أو الصوم أو الحج إلى شيء من المعاصي لم تبطل عبادته بذلك فما الفرق بين هذا أو بين الميل إلى الرياء فإن قال الشيخ لا آمن عليه الرياء لم يستقم ذلك لأنه تيقن صحة العبادة وإنما انعقدت على الإخلاص وشك فيما يفسدها وقد جاء في حديث وقفه أكثر رواته على أبي صالح أن رجلا قال يا رسول الله أسر العمل لا أحب أن يطلع عليه فيطلع عليه فيسرني فقال لك أجران أجر السر وأجر العلانية فهذا محمول على من سر بذلك لستر الله عليه لا لاطلاع الناس ونيل المنزلة عندهم أو على من سره ذلك لأن الناس وقروا من أطاع الله عز وجل فيه ولم يقعوا فيه أو لأنهم اقتدوا به لما اطلعوا عليه ولا وجه لإحباط العمل ولا لبعضه بمجرد الرياء إلا أن يقترن بها رياء أو إرادة رياء .
فائدة في عدم جواز الدخول في العمل إلا بعد التيقن من الإخلاص
لا يجوز أن يدخل في العمل إلا وهو متيقن بالإخلاص الحقيقي أو الحكمي فإذا شرع في العمل ومضى عليه زمان يمكن أن يخطر فيه الرياء ثم أنساه أجزأته العبادة لأنه تيقن الإخلاص في أولها وشك في الرياء المفسد لها فأشبه من دخل فيها في الصلاة على يقين من الطهارة ثم شك في زوالها فإن تخوف من ذلك كان مأجورا على خوفه من صحة عبادته
40 فصل في الإخلاص في النية الحكمية والحقيقية يتعلق بكل عبادة نيتان : إحداهما أن ينوي كونها عبادة ، والثانية أن ينوي كونها لله عز وجل ، فأما نية العبادة فضربان :
أحدهما حكمية ، والثاني حقيقية ، فأما الحقيقية فيشترط اقترانها بأول العبادة ، وأما الحكمية فتجزأ في سائر العبادات إذا تحققت في أولها وكذلك تجزأ في أول العبادة إذا تعذر اقتران النية الحقيقية بأولها كما هي في الصيام إذ لا تقترن النية الحقيقية بأوله ، وأما الإخلاص فإن كان قد تقدم من المكلف أنه مهما فعله من الطاعات إنما يفعله خالصا لله تعالى فتجزئه هذه النية الحكمية من أول العمل إلى آخره إن كان اسم ذلك الفعل في الشريعة عبادة أو طاعة والأولى أن يأتي في أول الفعل بنية الإخلاص حقيقة كما يفعل ذلك في نية العبادة كالصلاة وتشييع الجنازة ، والنية الحكمية في الإخلاص وغيره لا تجزأ إلا إذا لم يطرأ مناقض لها ، وإن كان العمل مما الغالب عليه أن يفعل لأجل الناس كالمساعدة على قضاء الحاجات فهذا لا يجزئ إلا بنية حقيقية إلا في أربعة أشياء نفع العالم والعابد والمضطر والرحم والظاهر أنه لا يحتاج إلى تجديد النية في ذلك .
فائدة في إدخال السرور على المؤمن بالتعليم والإفادة إدخال السرور على المؤمن بالتعليم والإفادة إن أراد به وجه الله تعالى فهو مثاب عليه وإن أراد به أن يعظمه المتعلم أو يوقره ويحمده أو ينال منه مالا أو غيره من المنافع الدنيوية فلا يقدم على ذلك وليغير إرادته ما استطاع حتى تكون لله وحده إذ وما عند الله خير وأبقى وإن التبس عليه الأمر فلا يقدم على ذلك حتى يتحقق أنه لا يريد بإدخال السرورة عليه إلا لوجه الله تعالى .


فصل في من افتتح طاعة لله تعالى مخلصاً لله فيها ثم حدث له فيها نشاط فزاد فيها وكان ذلك بمرأى من الناس فأشكل عليه أمر الزيادة أهو مخلص فيها أم لامن افتتح طاعة الله تعالى على الإخلاص أو افتتح عملا مما يتعلق بالناس على الإخلاص أيضا وكان ذلك بمرأى من الناس ثم وجد نشاطا لزيادة ذلك العمل فزاد فيه فإن أراد بالزيادة الرياء فهو مراء وإن أراد بها الإخلاص فهو مخلص وإن التبس عليه الأمر فلم يدر أمخلص هو أم مراء فالأولى به أن يجدد النية لإخلاص تلك الزيادة فإن لم يجددها صح عمله لأنه تحقق إخلاصه وشك في الرياء . فائدة في أن الرياء والإخلاص إرادتان زائدتان على إرادة العبادة
الرياء والإخلاص إرادتان زائدتان على إرادة العبادة فإرادة العبادة أن يريد إيقاع تلك الطاعة والإخلاص أن يريد بها ثواب الله تعالى دون شيء من الأغراض الدنيوية والرياء أن يريد بعمله التعظيم والمدح وغير ذلك من أغراض الرياء . فصل فيما لا يدخل فيه الإخلاص
لا يدخل الإخلاص في مباح لا يشتمل على قربة ولا يؤدي إلى قربة كرفع البنيان لا لغرض والد ولا والدة بل لمحض رعونة النفس وكذلك لا إخلاص في محرم ولا مكروه كمن ينظر إلى ما لا يحل النظر إليه ويزعم أنه ينظر إلى ذلك يتفكر في صنع الصانع فهذا لا إخلاص فيه بل لا قربة فيه البتة .
فصل في حكم من سئل عن طاعة من الطاعات أو عبادة من العبادات فقال لا تحضرني نية
ولهذا حالان أحدهما أن يقول لا تحضرني نية لكسلي عن هذا العمل المتطوع به أو لاشتغالي بغيره فهذا صادق في قوله محروم من طاعة ربه ولا حرج عليه في ذلك لجواز ترك التطوعات ، والأولى به أن يحث نفسه على تلك الطاعة واستحضار نيتها فإن التقرب إلى الله تعالى بالنوافل سبب لمحبة الله تعالى العبد وأحسن به وأعظم به من سبب ، الثانية أن لا يعوقه عن تلك الطاعة عائق ويقول لا تحضرني النية التي هي الإخلاص فهذا غالط باعتذاره لأنه لم يؤمر بترك العمل لعزوب الإخلاص وإنما أمر بأن يستجلب الإخلاص على حسب إمكانه ولو ترك العمل لعزوب نية الإخلاص لحمله الشيطان على ترك الواجبات لعزوب نية الإخلاص ولا يضره في ذلك ما يوسوسه الشيطان من ترك الطاعة ولا اشتغال النفس بتلك الطاعة ولا محبتها لحمد الناس على الطاعة ولا محبتها لتعظيمهم إياه وتوقيرهم لأن الله عز وجل جبل النفوس على محبة ما وافقها طاعة كانت أو غير طاعة وعلى كراهة ما خالفها من الطاعات وغيرها وما أمر الله تبارك وتعالى أحدا من خلقه أن يخرج عن طبعه إذ لا قدرة للعبد على ذلك وكذلك لا يقدر على دفع وسواس الشيطان وإنما أمر بمخالفة طبعه بما فيه رضا الرحمن وإرغام الشيطان ، وأهل السماوات والأرض ثلاثة أقسام أحدها الملائكة وقد ركبت فيها العقول دون الكراهة والملال ولذلك يسبحون الليل والنهار لا يفترون ولا يسأمون ولا يثابون على أعمالهم لأنهم لم يجاهدوا أنفسهم ولم يخالفوا أهواءهم
القسم الثاني البهائم والطير والوحش وقد ركبت فيها الشهوات التي تقوم بمصالحها والنفرة مما يؤذيها ويخالف طبعها ولم يركب فيها عقول تعرف بها الأمر والنهي فلم يؤاخذها بشيء لعدم العقل ولا ثواب لها في الآخرة إذ لا طاعة لها ولا عقاب عليها فيما تتلفه من النفوس والأموال وغير ذلك من الأفعال التي يعاقب عليها الثقلان ، القسم الثالث الثقلان وقد ركبت فيهم العقول كالملائكة وجعلت فيهم الشهوات كالوحش والطير والدواب فكلفوا لأجل عقولهم وأثيبوا لطاعتهم ومخالفتهم أهواءهم وعوقبوا على معاصيهم ومخالفة أمر ربهم لأن لهم عقولا تردعهم عن موافقة أهوائهم وتزجرهم عن مخالفة أمر ربهم ولم يكلفوا إلا بما يطيقون ولم يكلفوا بالخروج عن طباعهم ولا بإخراج الشيطان من صدورهم ولا حرج على الإنسان في وسواس الشيطان فإن شياطين الجن مثل شياطين الإنس ولو أمرك شيطان إنسي بمعصية الديان ومخالفة الرحمن لم يكن عليك حرج في أمره إياك بذلك وإنما الحرج في إجابة الشيطان وموافقة الطباع فيما يكرهه الرحمن ويزجر عنه القرآن .
فصل في حكم من ابتدأ طاعته على الرياء ثم أخلصها في أثنائها

والأعمال ضربان : أحدهما متعدد حكما وصورة كقراءة القرآن والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصدقة المترتبة فهذا إذا افتتحه على الرياء ثم أخلص صح ما اقترن به الإخلاص وبطل ما اقترن به الرياء لأن ذلك بمثابة عبادات راءى في بعضهن وأخلص في بعضهن ، الثاني العبادة المتخذة كالصلاة والصوم والحج إذا افتتحها مرائيا ثم أخلص في أثنائها فقد اختلف العلماء في ذلك : فقال بعضهم لا يعتد له بشيء منها وهذا هو الظاهر
وقال بعضهم لا يعتد له إلا بافتتاحها دون ما عداه ، وقال آخرون يعتد له بالجميع لأنه ما أتى بذلك إلا لله عز وجل فإن التكبير والتسبيح والركوع والسجود لا يكون إلا لله عز وجل وهذا يشكل عليه سائر الأعمال التي لا تكون إلا لله عز وجل ولعل هذا يقول لا يبطل الرياء العمل إلا إذا اقترن به من أوله إلى آخره وقد بنى أمره على أن النظر إلى خاتمة العبادة وقد وقعت خالصة لله عز وجل ولعل من يقول بالصحة في الجميع يجعل الرياء محرما اقترن بالصلاة فلا يبطلها كمن صلى لابسا ثوب حرير أو متختما بخاتم من ذهب أو من صلى في دار مغصوبة ولكن هذا لا يستقيم لأن الشيخ نص على أن ما اقترن بالرياء غير معتد به وليس هذا الفصل صافيا من كدر الإشكال بأن يقدر زوال الأسباب فإن بقي سكونه فالظاهر أنه كان متوكلا على الله تعالى ويجوز خلاف ذلك وإن قلقت نفسه فالظاهر أنه كان معتمدا على الأسباب .
فصل فيمن يترك النوافل كي لا يأثم الناس بنسبته إلى الرياء
قد يكره المتطوع نسبته إلى الرياء فيترك العمل دفعا لذلك وقد يتركه شفقة على الناس أن يأثموا بنسبته إلى الرياء وطريقه إلى معرفة ذلك أن ينظر إلى ذنوب الناس فإن شقت عليه كمشقة نسبته إلى الرياء أو أعظم فليس يغالط في ذلك وإن لم يشق عليه ذنوبهم كما يشق عليه نسبتهم إياه إلى الرياء فهو مخطئ من وجهين أحدهما أنه ترك العمل المحقق نفعه خوفا مما ظنه ، والثاني أنه أساء الظن بالمسلمين أن يعصوا الله فيه بنسبته إلى الرياء .
فصل في إظهار العمل للاقتداء
من أظهر عمله ليقتدي به فله حالان : أحدهما أن يكون ممن لا يلتفت إليه ولا يقتدى بأفعاله فلا يظهر شيئا من أعماله لأنه لا يأمن في إظهارها الرياء وليس على ثقة من الاقتداء به ، الثانية أن يكون ممن يقتدى به فيما يظهر من أعماله فإن كان ذلك العمل من أعماله العلانية كالجهاد وأمن من الرياء فأظهر من أعماله التقدم إلى العدو والثبوت في نحره والصبر إذا انهزم الناس على مكافحة العدو فإن أمن الرياء فله أجران أجر الجهاد وأجر التسبب إلى الاقتداء به لأن الدال على الخير كفاعله وكذلك إظهار الصدقة مع الأمن من الرياء إظهارها للاقتداء ممن يقتدى بمثله أفضل من إخفائها إلا أن يتأذى آخذ الصدقة بأخذها في العلانية فيكون إخفاؤها أولى لأن المن والأذى قد يحبطان أجر الصدقة ولا يقاوم تسببه إلى الاقتداء به تعريضه أخاه المسلم للضيم والأذى وإن أشكل عليه الأمر في ذلك فليعرض الإخفاء والإظهار على نفسه فإن جزعت نفسه من الإخفاء وشق عليها فلا يظهره ذلك إذ لا يأمن على نفسه الرياء وإن جزعها إنما كان لفوات غرضها من الرياء لا لفوات الاقتداء .
فصل في الإخبار بالطاعة
من عمل طاعة ثم أخبر بها الناس فله ثلاثة أحوال : إحداهن أن يظهر ذلك ليعظم ويوقر ويحصل أغراض المرائين فهذا مسمع و من سمع سمع الله به ، الثاني أن يفعل ذلك ليقتدي به ويكون سببا يحث المخبرين على الطاعات والعبادات فله حالان : أحدهما أن يكون مما لا يقتدى به ولا يلتفت إليه فلا يتحدث بشيء من ذلك احترازا من التسميع والتصنع للناس وقد يسخر منه إذا أظهر عمله ونسب إلى الرياء فيكون مخاطرا بالتسميع متسببا إلى وقوع الناس فيه ، الثانية أن يكون ممن يقتدي به وله حالان : أحدهما أن يكون ممن يعتقد فيه عامة الناس كالخلفاء الراشدين والعلماء المتقين فإن وثق من أمنه من الرياء إذا تحدث بذلك فليتحدث به وقد فعل ذلك جماعة من الصحابة والتابعين الذين يقتدى بهم في أقوالهم وأفعالهم وقد تسبب بإظهار ذلك إلى نصح المسلمين وحثهم على طاعة رب العالمين ،
الثانية أن يكون ممن يعتقد فيه بعض الناس دون بعض فلا يتحدث به من لا يعتقد فيه ويذكره عند من يعتقد فيه إذا أمن الرياء ، وإن اجتمع الفريقان ففيه تفصيل ، الحالة الثالثة أن يخشى من التحدث بالعمل للرياء والتسميع فلا يتحدث بذلك احتياطا وتحرزا عن التصنع والتسميع .
فصل في تفضيل عمل السر على عمل العلانيةاختلف العلماء في ذلك : فقالت فرقة عمل السر أفضل من عمل العلانية للقدوة وغير القدوة وعمل العلانية للقدوة أفضل من عمل العلانية لغير القدوة ، والفرق بينهما أنه في إظهار عمل السر لا يأمن الرياء فيمكنه أن يحفظ عمله عن الرياء بإسراره وإخفائه وحفظ إخلاص العمل أولى من المخاطرة به ، وأما عمل العلانية فلا يقدر على التحرز فيه من الرياء ، وقالت طائفة عمل السر أفضل من عمل العلانية لغير القدوة وعمل العلانية للقدوة أفضل من عمل السر لأن من تسبب إلى خير أو سن سنة حسنة أجر على ذلك أجرين أو أجورا كثيرة على عدد المقتدين به ، وجاء في حديث إن عمل العلانية يضاعف على عمل السر إذا استن بعامله بسبعين ضعفا ، وعمل السر ما شرع إسراره من أول أمره كالنوافل والأذكار ، وعمل العلانية ما شرعت العلانية في أول أمره أو ما لا يتأتى عمله إلا في العلانية كعيادة المرضى وتشييع الجنائز وحضور الأعياد فالإسرار بأعمال السر أولى إلا رجاء الاقتداء لمن يأمن الرياء وعمل العلانية مع مجاهدة النفس من خطرات الرياء أولى من تركه مخافة الرياء وقد ترك جماعة من السلف الأعمال لما اطلع عليهم مع كونهم أعلنوا ما هو أفضل ومنها وما تركوا ذلك إلا عند ضعف الحال في بعض الأوقات خوفا من خطرة التصنع والرياء .

فصل في ترك العمل خوفا من الرياء
لخطرة الرياء ثلاثة أحوال : إحداهن أن يخطر قبل الشروع في العمل لا ينوي بعمله إلا الرياء فعليه أن يترك العمل إلى أن يستحضر الإخلاص ، الثانية أن يخطر رياء الشرك فيترك ولا يقدم على العمل حتى يمحض الإخلاص ، الثالثة أن يخطر في أثناء العمل الخالص فليدفعها ويستمر في العمل فإن دامت الخطرة ولم يجب نفسه إلى الرياء صح عمله استصحابا لنيته الأولى .
فصل فيما يندب إلى تركه من الأعمال الخالصة
الأعمال قسمان : أحدهما عام كالصلاة والصوم والغزو والجهاد والذكر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهذه وما أشبهها من الأعمال العامة لا يترك شيء منها بل يفعلها الخاص والعام ، والثاني خاص كالخلافة والإمرة والقضاء والانتصاب للحق بالدعاء إلى الله تعالى فهذا القسم يؤمر العامة بتركه خوفا من العجز عن القيام بحقه ولا يتولى ذلك إلا الأقوياء الواثقون بأنفسهم وقد جاء تشديد عظيم في النهي عن الولايات ، وقد أجمع المسلمون على أن الولاة أفضل من غيرهم ، وتفصيل ذلك أن الولايات تشتمل على غرض شرعي وغرض طبعي فنهي عنها من يغلبه طبعه وهواه وأمر بها من يكون قاهرا لطبعه غالبا لهواه
فلا يتولاها من لا يملك هواه ولا يرد نفسه إلا أن يتعين لها فيجب عليه أن يتولى وأن يجاهد نفسه في دفع هواها ما استطاع ،
وأما الأعمال العامة فلا يترك شيء منها ، وأما الاكتساب بالأسباب المباحة ليتصدق مما يكسبه ويصرفه في القربات فقد اختلف فيه هل تركه أفضل أم فعله ، فقالت طائفة تركه أفضل ، وقال آخرون بل فعله مع السلامة أولى كما في الصلاة والصيام .
فائدة في أن العمل بطاعة الله إرادة محبة الناس رياء
من الرياء أن يعمل العبد بطاعة الله تعالى إرادة محبة الناس ومن أخلص عمله لله عز وجل وأحب أن يحبه الناس من غير أن يعمل لأجلهم فلا بأس .

فائدة فيمن اطلع الناس على ذنبه وتقصيره فاشتد غمه
من اطلع الناس على ذنبه وتقصيره فاشتد غمه لذلك فلا بأس عليه لأن ذلك من فعل الطبع والغريزة التي لا يكلف بترك آثارها وله أحوال : إحداهن أن يكون اغتمامه باطلاع الناس على تقصيره أشد من اغتمامه باطلاع الله عز وجل عليه فهذا خاسر في دينه ، الثانية أن يكون اغتمامه باطلاع الله تعالى عليه أشد من اغتمامه باطلاعهم عليه فهذا أفضل في الدين ، الثالثة أن يخشى سقوط المنزلة عند الناس فيعتذر بالكذب أو يتصنع بالأعمال الصالحة ليمحو ذلك من قلوبهم فلا يجوز ذلك ، الرابعة أن يجزع أن يشغله غمه عن القيام بوظائف الطاعات فهذا أفضل لعزة دينه عليه ، الخامسة أن لا يبتنى على اغتمامه شيء مما ذكرناه فلا بأس عليه إذ لا يتعلق التكليف بمجرد الاغتمام .
فائدة في أنه لا يفعل في الخلوة إلا ما يسهل فعله في العلانية
ينبغي للمريد أن لا يفعل في الخلوة إلا ما يسهل عليه فعله في العلانية ولذلك قال عمر رضي الله عنه عليكم بعمل العلانية ويستثنى من ذلك ما يستحي منه كالجماع وقضاء الحاجة وليس كتم الإنسان ذنوبه وإخفاؤها وإخفاء عيوبه من أبواب الرياء إلا أن يظهر من أعماله وأقواله ما يدل على أنه عفيف عن تلك الذنوب منزه عنها فيكون حينئذ كاذبا ومسمعا بلسان الحال وقد اتفق العلماء على أن المجاهرة بالذنب محظورة إلا أن تمس إليها حاجة كالإقرار بما يوجب الحدود أو الكفارة كما في حديث ماعز والأعرابي الذي واقع في رمضان وكذلك الإقرار للعباد بحقوقهم ومعصية الله تعالى فيهم فيلزمه تعريف المستحق لذلك ليبرئه ألا يقيم عليه العقوبة الشرعية .
فصل في التباس سبب الرياء بالحياءاعلم أن الله عز وجل جبل الآدمي على أوصاف جالبة للنفع وعلى أوصاف دافعة للضر فخلق صفة الجوع لأنها جاذبة لنفع تنفيذ الغذاء وخلق صفة الظمأ لأنها جالبة لنفع تنفيذه للغذاء وخلق شهوة الجماع لأنها في الغالب سبب للنسل وخلق الغضب لدفع الضيم وخلق الحياء لجلب النفع ودفع الضر جميعا فيحمل الحياء العبد على فعل ما يستحي من تركه وترك ما يستحي من فعله فقد جمع من الخير ما تفرق في غيره ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الحياء من الإيمان شبهه بالإيمان لاستوائهما في الحث على كل حسن والزجر عن كل قبيح وقد يفعل الإنسان البر حياء وقد يفعله رياء مثال ما يفعله حياء أن يسأل شيئا من أنواع البر فيدفعه حياء من السائل أن يمنعه فله أربعة أحوال :
إحداهن أن يدفعه رياء فهذا مذموم لأنه قدم الحياء من الخلق على الحياء من الله سبحانه وتعالى ، الثاني أن يفعله إخلاصا وحياء فهذا ممدوح مأجور لأنه استعمل الحياء في موضع ينبغي أن يستعمل الحياء فيه ، الثالث أن يتردد بين كونه مرائيا أو كونه مستحيا فلا يقضى بإثمه ولا بكونه مخلصا لأنه لا نتحقق إخلاصه فيكون مأجورا ولا نتحقق رياءه فيكون مأزوراً ، الرابع أنه يعلم أنه فعله حياء من غير إخلاص ولا رياء فهذا محمود لا مأجور ولا مأزور ومثل هذا عزيز الوجود أن يفعل العبد فعلا لا لغرض ومثال ترك البر حياء أن يرى شيخا ذا شيبة ووقار وهيبة قد ألم بذنب يجب الإنكار عليه فيترك الإنكار عليه حياء من شيبته ووقاره فهذا عاص لله تعالى من وجهين بترك النكير على من يجب عليه الإنكار وبتقديم استحيائه من الشيخ الكبير على استحيائه من الملك القدير ولو لاحظ عظمة الله تعالى لم يستح إلا منه ولكن الغفلة عن ملاحظة العظمة أوجبت له ذلك .
فصل في أسباب كراهة العبد لذم الناس
كراهة الذم أمر طبيعي لا يتعلق به تكليف وقد يكره لأسباب : أحدها أن يكره ذمهم مخافة أن يكون ذمهم دليلا على ذم الله تعالى له إذ هم شهداء الله سبحانه وتعالى في الأرض
الثاني أن يكره ذمهم لكونه شاغلا لقلبه عن طاعة ربه ، الثالث أن يكره ذمهم مخافة أن يعصي الله تعالى فيهم بقلبه أو بجوارحه ، الرابع أن يكره ذمهم مخافة أن يعصوا الله تعالى فيه بذمهم إياه فهذا كله لا بأس به ولا حرج عليه فيه ، الخامس أن يكره ذلك مخافة أن يزول عنه مدح الناس واعتقادهم فيه الورع فإن لم يراء بشيء من الأعمال فهذا نقص في دينه بالنسبة إلى ما تقدم وإن راءى بشيء من الطاعات أو اعتذر كاذبا فقد عصى الله عز وجل
الذي ينبغي للمؤمن أن لا يلاحظ حمد الناس إياه على طاعة ربه ولا ذمهم على معصية ربه وأن يخلي قلبه من ذلك كله وأن يجعل من يعرفه كمن لا يعرفه فيتفرغ عن حمد معارفه وكراهة ذمهم كما يتفرغ من ذلك في حق من لا يعرفه ولو اطلع على حمدهم فسره ذلك لأنهم أطاعوا الله تعالى فيه فلا بأس بذلك وكذلك لو سره أن الله تعالى ستر مساوئه وأظهر محاسنه
فذلك سرور بإنعام الله تعالى عليه وإحسانه إليه .
فصل في بيان ما يسوى فيه بين الحامد والذام وما يفترقان فيه

على العبد أن يسوي بين حامده وذامه في كونهما لا يقدران بحمدهما ولا ذمهما على نفعه ولا ضره لا في دينه ولا في دنياه ولا في آخرته فيصير الذم والمدح في حقه مستويين في كونهما لا يجلبان خيرا أو لا يدفعان ضرا وهذا معنى قول ابن مسعود رضي الله عنه حتى يكون حامده وذامه في الحق سواء بخلاف ذم الله تعالى ومدحه فإنه هو الضار النافع المعطي المانع الخافض الرافع فمدحه زين وذمه شين مع ما يترتب على مدحه من العطاء والرفع وعلى ذمه من الخفض والمنع وأما ما يفترق فيه مدح العباد وذمهم فنفور النفس من الذم وسكونها إلى المدح وللعبد في تأثيره بالذم والمدح أحوال : أحدها أن يتأثر لنفسه كما قدمناه ، الثاني أن يتأثر لأجل ربه كما ذكرناه ، الثالث أن يلتبس عليه أمره في ذلك فطريقه في ذلك أن ينظر إلى مدح الناس لغيره وذمهم فإن تأثر به كما يتأثر به في حق نفسه بتين بذلك أن محبته وكراهته لأجل ربه سبحانه وإن لم يتأثر به عرف بذلك أن كراهته ومحبته لأجل نفسه لأنه لو كره ذلك أو أحبه لأجل الله عز وجل لكانت محبته وكراهته في حق غيره كمحبته وكراهته في حق نفسه وإن تأثر بذلك في حق غيره أقل مما يتأثر به في حق نفسه دل ذلك على أنه قد شرك في المحبة والكراهة بين نفسه وربه .

فائدة في التوسل بالرياء إلى طاعة الرحمن
لا يجوز لأحد أن يرائي العالم بعمله ليزداد علما بذلك ولا أن يرائي والديه بشيء من عمله ليرضيا عنه لأن الرياء معصية لله تعالى وليس لأحد أن يتوسل بمعاصي الله تعالى إلى طاعته
قال الشيخ وفي هذا نظر لأن هذا توسل بطاعة الله إلى طاعة الله تعالى بخلاف المرائي فإنه توسل بطاعة الله تعالى إلى هوى نفسه .
فصل فيمن راءى من يطيع الله تعالى بطاعةلم يعتدها هو فوافقه على تلك الطاعة
من راءى المتهجدين فتهجد والقارئين فقرأ أو المتصدقين فتصدق أو الصائمين فصام أو الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر فوافقهم ولم يكن شيء من ذلك من عادته فله ثلاثة أحوال : أحدها أن يفعل ذلك خالصا لله عز وجل واقتداء بمن رآه يفعل ذلك فهذا مطيع لله تعالى حثه ما رآه على طاعة ربه ، الثاني أن يخشى الذم بترك الطاعة فيفعلها رياء لدفع الذم وجلب الحمد أو لأحدهما فهذا مراء شقي فإن كان ذلك العمل واجبا جاهد نفسه في دفع الرياء وجلب الإخلاص وإن كان ندبا لم يجز له فعله حتى يتحقق إخلاصه ، الثالث أن يلتبس عليه أمره في ذلك فلا يدري أمخلص هو أم مراء فطريقه معرفة ذلك أن يقدر نفسه مستترا عنهم بحيث لا يرونه فإن طابت نفسه بالإقتداء بهم مع الاستتار عنهم فهو مخلص وإن لم تطب بذلك فهو مراء فلا يقدم على ذلك العمل حتى يخلصه لله تعالى وكذلك من راءى الباكين من خشية الله تعالى فاستحضر أسباب البكاء فبكى فإن بكى رياء فهو مراء وإن بكى خالصا من خشية الله تعالى فهو مخلص وإن أشكل أمره عليه قدر نفسه غائبا عنهم فإن بكى مع الغيبة فهو مخلص وإلا فلا .
فصل في التصنع بالصياح والتنهد والزفير والشهيق والتحزن
من سمع وعظاً أو قرآنا أو رأى أسبابا يهيج مثلها الخوف والحزن وما في معناهما فتنهد لذلك أو تنفس أو صاح أو أظهر الحزن والتندم والزفير والشهيق أو ما في معنى ذلك فله حالان : أحدهما أن لا يكون في قلبه شيء من الحزن والخوف والندم ولكنه يظهر ذلك تصنعا للناس إما ليحمدوه على ذلك أو لئلا يذموه وينسبوه إلى القسوة وترك الخوف أو يتصنع بذلك ليشككهم فيما بلغهم عنه من الذنوب أو يوهمهم أنه قد تاب من ذنوبه وأقلع عن عيوبه ، الثاني أن يكون إذا سمع القرآن أو الوعظ أو تفكر فيما يوجب الحزن أو الخوف فخاف خوفا يسيرا او حزن حزنا خفيفا فأظهر ما ذكرناه ليوهم الناس أن حزنه وخوفه شديد فهذا والذي تقدمه مسمعان بلسان الحال لا بلسان المقال وهذا أخف حالا من الذي قبله وإن خطر له التصنع بذلك فلم يتصنع فقد خلص وسلم وإن تصنع فقد سمع بلسان الحال وعليه إثمان إثم الكذب وإثم التصنع بخلاف التسميع بالأعمال الخالصة فإنه صادق في الإخبار عنها آثم في التسميع بها والمتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور وإن هجم عليه سبب من أسباب الخوف أو الحزن فهاجت نفسه ليصنع بذلك فإن قبل ذلك وتصنع به فهو مسمع بلسان الحال وإن لم يقبله فلا بأس به ولكنه نقص وكذلك حكم من ظهر منه الشهيق والتنفس والتنهد لخوف أوجب ذلك فخطر له خطرة التصنع بالزيادة فإن لم يقبلها فلا بأس عليه وإن قبلها فهو متصنع وحكم المتصنع في البكاء كما ذكرناه في التصنع في الشهيق والتنفس والتنهد .
فصل في التصنع في السقوط والإغماءمن سقط عند الأسباب المحزنة أو المخوفة فله أحوال : إحداهن أن يسقط لغلبة حزنه أو خوفه بحيث لا يستطيع أن يتمالك فلا بأس عليه فإن إفراط الخوف والحزن قد يوجبان ذلك ، الثاني أن يتعاطى ذلك تصنعا بإظهار الشدة الخوف والحزن فهذا كاذب مسمع بلسان الحال وقد يتوهم هذا الكاذب أن الناس قد فطنوا لتصنعه فيتغاشى ويوهمهم أن عقله قد ذهب وأن سقوطه إنما كان لذهاب عقله وقد يسقط ويغشى عليه لفرط خوفه وحزنه أو لفرط غرامه وحبه ثم يفيق عن قريب فيطيل ذلك فيوهم أنه لم يكن متصنعا في سقوطه أو يوهم أن خوفه شديد لا يفيق من غشيته عن قريب فيطيل الغشية تصنعا وإيهاما لشدة الخوف وقد يسقط لفرط ضعفه لا لخوف ربه ويفيق عن قرب فيزيد ذلك لإيهام خوفه فيطيل التغاشي أو يعجز عن التغاشي فيوهم الضعف في قوله وبدنه وجميع جوارحه وقد يحضر ذلك عاشق لبعض الأشخاص أو من مات له حبيب عن قرب فيبكي ويصيح ويسقط ويغمى عليه من فرط عشقه وحزنه على ميته ويظهر أن ذلك من حبه لربه أو من حزنه على تقصيره في حق ربه
فصل فيما ينفى به التخشع والتصنع بما ذكر في الفصل قبلهإذا أبدى من الخشوع ما ليس في قلبه أو خشع ظاهره كما خشع باطنه ثم زاد في ذلك تصنعا أو أظهر السقوط أو الصياح والتنهد تصنعا بالحب أو الخوف وليس بمحب ولا خائف أو أظهر ذلك عن خوف من غير تصنع ثم أحدث التصنع أو أظهر السقوط أو الغشي عن الخوف وليس بخائف أو أظهر ذلك عن خوف حقيقي ثم تصنع أو زاد رياء أو بكى مغلوبا أو تباكى تصنعا أو غير هذا مما في معناه فطريقه في نفي ذلك كله أن يفكر في نظر الله عز وجل إليه واطلاعه عليه وأنه يظهر الخوف من الله تعالى وهو آمن أو يظهر الحزن على ما فاته من الله تعالى وهو خلي من الحزن وأنه يتحبب إلى الناس بما يتبغض به إلى الله تعالى وأنه لا يأمن أن يطلع الله العباد على تصنعه فيمقتوه فيجتمع مقت الناس إلى مقت الله تعالى فيخسر الدنيا والآخرة فإذا أدمن على ذلك بالفكر والملاحظة والاستحضار ذهب تصنعه لمن لا يملك له ضراً ولا نفعاً وأخلص عمله لمن له الأمر كله .
فائدة في زيادة خشوع العبد إذا نظر الناس إليهإذا نظر الناس إلى الخاشع فزاد خشوعه فإن تصنع به فمراء وإن زاد فيه من غير تصنع فله أحوال : إحداها أن يزيده لله عز وجل وحده فهذا مخلص ، الثانية أن يزيد في خشوعه لئلا يطمع الناس فيه فيمنعوه من خشوعه ، الثالثة أن يفعل ذلك ليقتدى به ففيه فضيلة الخشوع والسبب إلى الاقتداء ، الرابعة أن يزيد في خشوعه إرغاما للشيطان الذي حمله على التصنع بالخشوع فهذا مخلص مجاهد الشيطان .

فصل في إيثار الأصحاب الأغنياء على الفقراءمن صحب غنيا وفقيرا أو كانت مخالطته للغني أكثر من مخالطته للفقير وزيارته للغني أكثر من زيارته للفقير فله أحوال : إحداها أن تكون مخالطته للغني أسلم له في دينه أو أزيد في علمه وعمله أو لأنه أجهل من الفقير فيزيد تعليمه وإرشاده فمخالطته للغني على هذا الوجه أولى من مخالطة الفقير ، الثانية أن يكون الأمر بالعكس فتكون مخالطة الفقير أولى من مخالطة الغني ، الثالثة أن يستوي حال الفقير وحال الغني فيتخير بينهما إلا أن يترجح أحدهما بقرابة أو مجاورة أو رحم ، الرابعة أن يلتبس عليه الأمر فيعرض على نفسه أن الفقير لو كان غنيا والغني فقيرا أكان يؤثر الغني أم لا فإن كان بحيث أن يؤثر الغني على الفقير فليعلم أنه إنما آثره عليه لغناه وإن كان بحيث لا يؤثره عليه فهو مخير ما لم يسنح سبب يقتضي إيثار أحدهما على الآخر .
فصل فيما يعين على ترك المعاصي رياء كان أو غيرهولذلك أمثلة أحدهما ما يعين على ترك الرياء وهو أن لا يحاضر قوما يرائيهم إلا لضرورة كأداء فريضة أو معيشة كافيه لنفسه وعياله ويتحرز من ذلك جهده وطاقته الثاني أن يكون ممن لا يقدر على حفظ بصره من المحارم فلا يخرج إلى الأسواق ولا يجلس على الطريق ولا ينظر في طاق يتعرض فيه لرؤية المحارم إلا أن يخرج لأداء فريضة أو كفاية معيشة الثالث أن لا يخالط أقواما لا يكاد يسلم معهم دينه مثل أن يوافقهم على الغيبة أو على تصديق كاذبهم أو تكذيب صادقهم أو على الإزراء بالمسلمين واحتقارهم فلا يخالط هؤلاء إلا لضرورة مع التحرز من موافقتهم على أغراضهم فإن خالطهم لغير ضرورة دعت ل ذلك فقد غرر بدينه وتعرض لإسخاط ربه فإن جالسهم على مذاكرة علم أو نحوها من الطاعات المندوبات فانجر بهم الحال إلى شيء من المعاصي فليعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره فإن جرت نفسه في مخالطتهم فتكرر ذلك منهم مرارا فليجتنب مخالطتهم لما تجر إليه من المعصية إذ لا تقوم المذاكرات والتطوعات بالمعصية وليس هؤلاء بإخوان ولا أصدقاء ولا أصحاب لأن الأخ والصديق والصاحب من يسلم معه دينك أو تزداد بمجالسته خيراً وأما من يعرضك لسخط الله تعالى ومعصيته فإنه باسم العدو أولى منه باسم الصديق فعليك أن لا تستهين بما يجري بينكم من الكلم فرب كلمة يكتب الله بها لقائلها سخطه إلى يوم القيامة وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم ومن هؤلاء من لا يرضى منك إلا بالتصنع ويلتمس منك أن تعادي من عاداه أو توالي من والاه وتصدقه في كذبه وتعينه على ظلمه والجليس السوء كصاحب الكير إما أن يحرق ثيابك شرره وإما أن تجد منه ريحا منتنة وقد قال الله تعالى لموسى يا موسى كن يقظان مرتادا لنفسك إخوانا فكل خدن لا يؤاتيك على مسرتي فلا تصحبه فإنه عدوك وهو يقسى عليك قلبك ولا يؤتى الناس في الأغلب إلا ممن يشاكلهم فيجتمعون تارة على الخير فيحسدهم الشيطان عليه فيزين لهم الانتقال منه إلى الحديث المباح من الفكاهة وغيرها فإن أجابوه إلى ذلك طمع فيهم وحملهم على الخروج إلى اغتياب من يبغضونه وإلى احتقار من لا يجوز احتقاره فإن أجابوه إلى ذلك دعاهم إلى ما هو أشد منه من السعاية فيمن يكرهونه وفي أذيته وحط منزلته عند الناس والشيطان صياد حاذق يصطاد كل إنسان بشكله ونظيره كما يفعل الصيادون في اصطياد كل طير بشكله فالويل كل الويل لمن آثر طاعة الشيطان على طاعة الرحمن فقدم إرضاء الإخوان على إرضاء الديان .
فائدة في المجالسة
يسهل عليك مقاطعة من ذكرت وترك مجالسته بأن تعرض على نفسك ما في مجالسته من التعرض لغضب الله تعالى وسخطه وتطيل التفكر في ذلك فتكره لقاءه بسببه وما مثلك في ذلك إلا كمثل من يلقى إخوانه فكلما لقي واحدا منهم أخذ شعرة من لحيته أو سلكا من ثوبه فإنه يكره لقاءهم فإنه لو واظب على لقائهم على تلك الحال لأصبح بادي العورة منتوف اللحية وهذا مما يأنف منه كل عاقل ومهما دعتك نفسك إلى مجالستهم ومخالطتهم لما ألفته من مصاحبتهم فاعرض ذلك على نفسك فإنها تنفر منهم وتكره لقاءهم فإن بليت بمخالطة من لا تقدر على مفارقته كالأهل ومن تشتغل معهم بالعلم أو بالشركة في الصنائع والتجارات أو بمن يستأجرك أو تستأجره فالطريق في فطامهم أن تظهر لهم شدة كراهتك لمشاركتهم في معاصيهم وغفلتهم فإن أبوا عليك فالطريق في ذلك أن تعظهم وتأمرهم بالمعروف وتنهاهم عن المنكر فتكون مأجورا أجرين أحدهما على كفك عن مشاركتهم في عصيانهم والآخر في أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر فإن أجابوك إلى ذلك كان لك أجر ثالث على إجابتهم فإن من دعى إلى هدى كان له أجره ومثل أجور من دعاهم إليه فإن شق عليك ذلك في ابتداء الأمر فواظبت عليه ابتغاء مرضات الله تعالى فإن الله تعالى يهونه عليك وييسره لك بحيث يصير ألفا وعادة لك والله عز وجل لا يضيع أجر من أحسن عملاً . فصل في بيان أن النفس شر أعداء الإنسان
الشيطان عدو فاتن للإنسان وكذلك الدنيا ولهذا جمع الله تعالى بينهما في قوله تعالى فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور وكذلك كل شيطان إنسي يدعوك إلى معصية الله تعالى وشر أعدائك نفسك التي بين جنبيك لأن الدنيا والشيطان يدعوانك بغرورهما وكذلك شيطان الإنس ولا ضرر عليك في دعاء هؤلاء إلى معصية الله تعالى وإنما تضررك في الدنيا والآخرة بإجابة هؤلاء إلى ما يدعونك إليه فهم متسببون وهي مباشرة والعهدة العظمى على المباشر دون المتسبب ما لم يكن قاهرا مجبرا ولذلك يقول الشيطان يوم القيامة وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني لأني متسبب ولوموا أنفسكم لأنكم مباشرون وإذا أردت أن تعرف نفسك فانظر في كثرة مخالفتها ومعصيتها كيف عرضتك بكل ذنب من ذنوبها لسخط الله تعالى وعقابه ثم انظر في حسناتها وفي مقاصدها بأعمالها قل ما ينفعك عمل من أعمالها من رياء أو كبر أو عجب فإذا كشفت عن ذلك حق الكشف وفتشت عنه حق التفتيش عرفت أنها هي المباشرة لأسباب إهلاكك بمعاصيها وصور طاعتها التي لا تنفك عن رياء أو كبر أو إعجاب ومما يبين لك كذبها وغدرها أنها تعدك بكثير من الطاعات قبل حدوث أسباب تلك الطاعات فإذا أحدثت أسبابها أخلفت وعدها وظهر تعزيرها وأبدلت ما وعدته من الطاعات بمعصية أو معاص عظام وما مثلها في غدرها وغرورها إلا كمثل رجل وعدك أنه يساعدك عند الضرورة وينصرك عند الغلبة فإذا حدثت الضرورة والغلبة خذلك وأسلمك للهلكة ولكذبها وإخلاف وعدها أمثلة منها أن تعدك بالحلم عند جهل الجاهلين أو أذية المؤذين فإذا جهل عليك جاهل أو آذاك مؤذ أخلفت وعدها فلم تحلم عنه وارتكبت من سبه وإضراره والسعي في أذيته ما لا يحل مثله ومنها أن تعدك بالإخلاص في جميع الأفعال وأن لا تفعلها إلا لله وحده فإذا سنحت العبادة ووجدت من ترائيه غدرت بك ونقضت عزمها وراءت بأعمالها وتصنعت بأحوالها وأقوالها ومنها أن تعدك بالورع عند حصول أسبابه فإذا حصلت أسبابه لم تتورع وارتكبت أعظم الشبهات غدرا منها وقلة حياء من ربها ومن ذلك أن تعدك بالزهد في الأشياء قبل تملكها والقدرة عليها فإذا ملكتها وقدرت عليها تكالبت عليها واشتدت رغبتك فيها وكذلك أيضا تعدك بالرضا بالقضاء قبل نزوله فإذا نزل القضاء كرهت ما زعمت أنها ترضى به وتسخطت بالقضاء ولم تصبر على البلاء ولمثل هذا جاء في الحديث وأسألك الرضاء بعد القضاء ومن ذلك أن تعدك بالتوكل مع قيام الأسباب عند انقطاع الأسباب فإذا انقطعت الأسباب رجعت إلى المخلوقين فخافتهم ورجتهم وكانت قبل ذلك تتوهم أنها متوكلة على الله تعالى وإنما كانت متوكلة على الأسباب فتظن أنها من الراضين بالقضاء وليست براضية بل عازمة عليه وكذلك تظن الإخلاص قبل العمل وليست بمخلصة وإنما هي عازمة على الإخلاص وكذلك جميع ما ذكرناه من الأحوال قبل حضور أسبابه فإنها عازمة عليه متصفة به فالتبس عليها العزم بالمعزوم عليه جهلا منها بأوصافها ومتعلقات أوصافها ولو أنك خوفتها بأنواع التخويف وحثثتها على الطاعة بأنواع الحث فأجابت إلى الطاعة لصارت إلى المعاصي الخفية كالرياء والكبر والإعجاب وغير ذلك مما يسنح للعباد دون أهل الغي والفساد وليس غرضها بما تدعوك إليه من المعاصي الجلية والخفية أن تهلكك وأن تعرضك لعذاب الله تعالى وإنما غرضها أن تنال شهوتها ولذتها أينما كانت وحيث ما عجلت سفها منها وغفلا وجهلا بعواقب الأمور بخلاف الشيطان فإنه يأمرك بطاعة هواك ليهلكك ويرديك لا لتلتذ بنيل هواك وبلوغ مناك ولو قدر أن يهلكك بما لا لذة فيه لفعل لفرط عداوته إياك وكيف لا تتحرز من عدو لم ترد خيرا قط إلا نازعتك إلى خلافه إن لم يكن موافقا لهواها ولا عرض لك شر قط يوافق هواها إلا كانت هي الداعية إليه والحاثة عليه ولا ضيعت خيرا قط إلا بهواها ولا ركبت مكروها قط إلا بمحبتها ومناها فكيف لا تحذر ممن هذا شأنها وقد شهد عليها خالقها بأنها أمارة بالسوء كما شهد على الشيطان أنه يأمر بالسوء والفحشاء إن تيقظت لمعادك شغلتك عن ذلك بالفكر في شهواتها وأمر دنياها فإن قهرتها بعقلك نازعتك أشد المنازعة حتى لا يخلو شيء من صلواتك من فكرها في هواها وأمر دنياها ولو عاملك بعض أعدائك بما تعاملك به على الدوام لأبغضته ومقته وقاطعته وهجرته ولكن هذا عدو لا تقدر على مقاطعته ولا على مهاجرته إذ لا يمكنك مفارقتها ولا يجوز لك قتلها فهي العدو الملازم الذي لا يفارق وجهادها أعظم من جهاد الكفار لأنك إذا قتلت عدوك الكافر أجرك الله على ذلك وإن قتلك أعطاك الله تعالى منازل الشهداء ولو قتلتك نفسك أو قتلتها لخسرت الدنيا والآخرة فشرها قائم وغرورها دائم فينبغي لك أن تقابل شرها وغرورها بقمع أوصافها وردع أخلاقها حتى تسوقها إلى الله عز وجل وهي كارهة فعليك بأخذ حذرك منها متوكلا على ربك لا على حذرك وهي مع هذه الأوصاف الخسيسة والأخلاق الذميمة إذا وفقك الله تعالى لشيء من الطاعة وابتغاء مرضاته على خلاف غرضها نسبت ذلك إلى نفسها ونسيت منة خالقها وإن نبهك الله سبحانه على خير نسبت ذلك إلى نفسها وأدلت به على ربها مع أنه لم ينبهك للخير سواه فإياك إياك أن تنسب الخير إلى من لم تعرفه إلا بالشر وانسب ذلك إلى ربك الذي وفقك لذلك ونبهك عليه وما بكم من نعمة فمن الله واعتمد في ذلك كله على لطف الله تعالى وحسن توفيقه فما التوفيق إلا من عند الله وما التحقيق إلا من رفده فائدة في أخذ الحذر من العجبواعلم أنك إذا استقمت وقمعت نفسك استعظمت أفعالك فأعجبت بذلك فألقتك في مهالك العجب الذي أهلك كثيرا من العالمين والعابدين والزاهدين لأن من أعجب بعمله لم ير لنفسه ذنبا فيتوب منه ولم ير لنفسه تقصيرا فيقلع عنه وقد جاءت الشريعة بذم الإعجاب لأدائه إلى ما ذكرته فالعجب معم لأكثر الذنوب والعيوب موجب لاستعظام الطاعات والإدلال بها على رب السماوات مفض إلى العزة والكبر والتعظيم على العباد حتى يصير المعجب كأن له منة على الله تعالى لاستعظامه أعماله وكذلك يمن على عباد الله بما يسديه إليهم من معروفه وإحسانه في زعمه فما أجدره بأن يحبط الله عمله بإعجابه ويكله ربه على نفسه واعلم أن سبب العجب استعظام واستكثار لما فيك من خير وعلم وعمل بزعمك فأما العلم فمعرفة الكتاب والسنة وإجماع الأمة ويقع الإعجاب أيضا بالرأي الصواب وهو القياس الصحيح ويقع أيضا بالرأي الخطأ وهو القياس الفاسد والاستدلال الباطل وهو خطأ من وجوه أحدها زيغه عن الحق ، الثاني فرحه بالباطل ، الثالث إعجابه بما لا يجوز إعجابه به والعجب فرحة في النفس بإضافة العمل إليها وحمدها عليه مع نسيان أن الله تعالى هو المنعم به والمتفضل بالتوفيق لها ومن فرح بذلك بكونه منة من الله تعالى واستعظمه لما يرجو عليه من ثواب الله عز وجل ولم يضف ذلك إلى نفسه ولم يحمدها عليه فليس بمعجب وكذلك إذا علمت أن كل نعمة من الله ثم استعظمت شيئا من أعمالك ناسيا غافلا عن كونه من الله تعالى ومن نفسك غير حامد لنفسك عليه فلست بمعجب ولو استحضرت كونها من الله تعالى كان ذلك أفضل فالفرح بنسبة النعم إلى الله تعالى مأمور به في كتاب الله في قوله تعالى قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا وإنما الشر والإعجاب في نسبة تلك النعم إلى النفس ونسيان كونها من الله تعالى وما أجدر من فعل ذلك أن يكله الله عز وجل إلى نفسه كما فعل بأصحاب رسول الله تسليما يوم حنين إذ أعجبتهم كثرتهم فنسبوا النصر إلى الكثرة ونسوا نسبته إ
وأن الأحساب ليست من أسباب الثواب وليعلم أن أسلافه الذين يفتخر بهم إنما شرفوا بطاعة الله عز وجل واجتناب معصيته
فلم يغن ذلك عنهما من الله , كان أبو طالب وأبو لهب من أقرب الناس إلى رسول الله وقد يبلغ الحمق بأحدهم بأن يعجب بالانتماء إلى جماعة من أكابر مشركي العرب وينفي الإعجاب بذلك بأن يعلم أن الذين افتخر بهم عند الله عز وجل وعند عباده المؤمنين شر من الكلاب مع التخليد في العذاب ولو تصاغرت به نفسه إلى الانتماء إلى هؤلاء لكان أولى به وأحمق من هؤلاء من يعجب بالانتماء إلى الملوك المشركين من غير العرب استعظاما لقدره ونسيانا إلى ما صاروا إليه من السخط والعذاب وينفي الإعجاب بذلك بأن يعلم أن ما كانوا فيه من السعة والسطوة وبال عليهم من الله عز وجل فإذا لاحظ ذلك وعلم هوانهم عند الله انتفى إعجابه بذلك ومنهم من يعجب بكثرة العدد والأولاد والمماليك والموالي والعشائر والأصحاب متكلا عليهم ناسيا للتوكل على رب الأرباب وقد يحمله ذلك على أن يسطو بمن خالفه ويبطش بمن آسفة اعتمادا على كثرة عدده ومدده وينفي العجب بذلك بأن يعلم أن النصر من عند الله وان الكثرة لا تغني شيئا كما لم تغن كثرة الصحابة عنهم يوم حنين شيئا مع أنهم خير عصابة على وجه الأرض وبأن يعلم أن ولده وعشيرته وخوله وإن كثروا لن يغنوا عنه شيئا إذا حضر الموت وأفرد في قبره ويوم يبعث منفردا وكل منهم مشغول عنه بنفسه يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه وبأن يعلم أن كثرة ما ذكرناه من النعم الموجبة للشكر وأن من شكرها أن لا يعتمد عليها ولا يستند إليها ومنهم من يعجب بكثرة الأموال فيفتخر بها على الفقراء ويحتقرهم بسبب فقرهم وخصاصتهم وينفي عجبه بذلك بأن يعلم أن الأموال فتنة ومحنة ابتلي بها العباد إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى وأن الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة وأن الله عز وجل قد عافى الفقراء من التعرض لهذه الفتنة وخلصهم من هذه المحنة وأن غنى قارون كان سببا لإهلاكه .


فصل في الكبر


الكبر أن يتعظم على غيره أنفة منه واحتقارا له وله أسباب من جملتها العجب وهو أكبرها وكذلك يطلق الكبر على العجب لأنه سبب عنه ولا يتكبر إلا من جهل قدره لأن
rوعظمة ربه وقد تهدد الله تعالى المتكبرين في كتابه العزيز وعلى لسان نبيه العظمة و الكبرياء لا يليقان إلا برب الأرباب ، وقد تسمى أخلاق الكبر كبرا أيضا لكونها مسببة عنه والكبر أقسام أحدها الكبر عن بعض طاعة الله تعالى ، الكبر على العباد أن يرى أنه خير منهم وأن لا يقبل منهم الحق لعلمه أنه حق فمن أمره بخير تكبر عن قبوله منه مع علمه أنه صواب كما تكبرت اليهود عن متابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وكما تكبر إبليس على آدم مع علمه بأن الله تعالى فضله عليه وقد يحمل التكبر على المخلوق على التكبر على الخالق كما فعل إبليس إذ حمله التكبر على آدم على التكبر عن السجود فمن رأى أنه خير من أخيه حقرية له وازدراء به أو رد الحق وهو يعرفه فقد تكبر على العباد ومن تعظم وأنف عن الذل والخضوع لطاعة الله تعالى فقد تكبر على الله تعالى فأصل الكبر التعظيم وحقيقته الأنفة والازدراء ورد الحق مع العلم به .
فصل في الكبر المسبب عن العجب بالعلممن أعجب بعلمه تكبر على من هو دونه في العلم وعلى العامة وينتهر من يعلمه وإن وعظ عنف وإن وعظ أنف وإن أمر بالحق لم يقبله وإن ناظر ازدرأ بمناظريه وينقبض عن الناس ليبدؤوا بالسلام ويسخرهم في أغراضه ويغضب على من لم يقم بحوائجه فمن المتكبرين من يجمع بين هذه الخلال القبيحة لفرط غفلته عن الله عز وجل ومنهم من يعامل الناس ببعض ذلك والعلم كالغيث ينزل من السماء حلوا صافيا فتغيره الأشجار إلى طباعها فيزداد المر مرارة والحلو حلاوة وكذلك العلم إذا حصله المتكبرون ازدادوا كبرا إلى كبرهم وإذا ناله المتواضعون ازدادوا تواضعا إلى تواضعهم . فصل في الكبر المسبب عن العجب بالعمل
من تكبر إعجابا بعمله احتقر من لا يعمل مثل عمله فإن كان أجهل منه قال مضيع جاهل وإن كان أعلم منه قال الحجة عليه أعظم منها علي فينظر إلى الناس بعين الاحتقار والازدراء منقبضا عنهم ليبدؤه بالسلام ولا يبدؤهم ويزوروه ولا يزورهم ويعودوه ولا يعودهم ويخدموه ولا يخدمهم وإن بدأ أحدا منهم بالسلام أو زاره أو عاده رأى أنه قد تفضل عليه وأحسن إليه وأن مثلهم لا يستحق ذلك منه ويرجو لنفسه أكثر مما يرجوه لهم ويخاف عليهم أكثر مما يخاف على نفسه آمنا من عذاب الله تعالى وهم يتواضعون له ويوقرونه ويقومون بحقوقه الواجبة والمندوبة تقربا إلى الله عز وجل وهو يعاملهم بما ذكرناه من الأوصاف معصية لله فيهم فهم عند الله تعالى خير منه .
فصل في الكبر المسبب عن الرياءمن تكبر على الرياء حمله ذلك على أن يرد الحق على من أمره به أو ناظره فيه وإن كان أفضل منه وأعلم كي لا يقال غلب فلان فلاناً أو خطاه أو قهره فيخرجه ذلك إلى الأنفة من قبول الحق والاعتراف به وقد يوجب الحقد تكبرا موجبا لرد الحق مع العلم به كما ذكرناه من الكبر المسبب عن العجب
فائدة في أن الإعجاب والكبر في الغالب لا يكون إلا بنعم دينية أو دنيوية
لا يكون الإعجاب والكبر في الغالب إلا بنعم دينية أو دنيوية ونعم الدين أعظم من نعم الدنيا وقل أن يخلو عارف أو عابد أو عالم عن نوع من الكبر ولكن قد يخلو القوي عن آثار الكبر فإن تكبر بقلبه لم يحمله ذلك على رد الحق ولا على شيء مما ذكرناه من أفعال الجوارح المذمومة وقد جاء عن حذيفة رضي الله عنه أنه ترك إمامة قومه لأن نفسه حدثته أنه أفضلهم واستأذن عمر بن الخطاب رضي الله عنه إمام قوم في أن يدعو بدعوات بعد الصلوات فمنعه من ذلك خوفا عليه من الكبر وقال أخاف أن تنتفخ حتى تبلغ الثريا .

فصل في التكبر بالأسباب الدنيوية
وهي ضروب : أحدها التكبر بالأحساب الموجبة احتقار الناس واجتنابهم والافتخار عليهم مثل أن يقول أنا فلان بن فلان فمن أبوك ومثلك يقاوم مثلي أو يخاطبه وقد يقع ذلك لبعض الصالحين في بعض الأحايين في أوقات الغفلات ولكن لا يخرجهم ذلك إلى جميع ما ذكرناه الثاني التكبر بالقوي وحسن الصور ويخرج إلى الافتخار بذلك على من هو دونه وإلى حقريته واجتنابه ، الثالث التكبر بالأموال والأولاد وكثرة العشائر والأنصار يخرج إلى الافتخار والاحتقار لمن ليس كذلك .
فصل فيما ينفى به الكبر
ينفى الكبر بأن يعلم الإنسان أن الله عز وجل خلق أباه من التراب ثم من حمأ مسنون أي طين منتن ثم جعل نسله من نطفة قدره في مكان قذر فأوجده بعد العدم وأسمعه بعد الصمم وأنطقه بعد البكم وخلق له العقل الذي يعرف به أوصافه ثم أخرجه من بطن أمه ضعيفا عاجزا جاهلا ثم رباه إلى أن أدركه أجله وهو فيما بين ذلك ملابس الأقذار كالبول والغائط والمخاط والبزاق لا ينفك عن ذلك ولا يتخلص منه يريد أن يذكر فينسى وأن يعلم فيجهل وأن يصح فيسقم وأن يقدر فيعجز وأن يستغني فيفتقر لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً ولا خفضاً ولا رفعاً وهو مع ذلك كثير الكبر على العباد والجرأة على رب الأرباب لا يشكر إحسانه إليه ولا يذكر إنعامه عليه ولا يستحي من وقوفه غدا بين يديه عريان حافيا حاسرا فيسأله عن أعماله كلها دقها وجلها فيا خجلته بين يديه من عرض أعماله القبيحة عليه بل لو ذكر انفراده في القبر عن الأموال والأولاد والحشم والأحفاد وقد صار جيفة قذرة منتنة لكان ذلك مانعا له من الكبر الذي لا يليق إلا بمن لا يزول ولا يحول وليس كمثله شيء وهو السميع البصير فسبحان من العظمة إزاره والكبرياء رداؤه فمن نازعه من ذلك كان جديرا بالعذاب وسوء المآب وعلى المرء إذا خاف الإعجاب أن يتفقد نفسه فإن خطرت له خطرة للكبر فطريقه في ذلك أن يردعها عن ذلك بما ذكرناه فإن أبت نفسه زجرها بوعيد الله وتهديده وإن تكبر في مناظرة أو في سؤال من دونه فليردعها عن ذلك حتى تقبل الحق ممن هو دونها وتعترف لمن يناظرها بالحق والصواب وكذلك يردعها عن الامتناع من الكسب الدنيء إذا كان حلالا وعن الأنفة من حمل سلعتها وكذلك يزجرها عن إجابة الداعي وإن كان عبدا أو فقيرا وكذلك عيادة الضعفاء والفقراء وإن كان أرفع منهم في حسبه ونسبه وكذلك لا يأنف من الانتساب إلى أصله وإن كان دنيا وكذلك لا يأنف من لبس الخشن من الثياب وأكل الخشن من الطعام ومن جميع ما يأنف منه الجبارون والمتكبرون وإذا شك في نفسه هل تواضعت أم لا فليمتحنها بهذه الأسباب فإن أنفت منها واستكبرت عنها فهو باق على كبره متوهم أنه صار من أهل التواضع وقد جرب عبد الله بن سلام رضي الله عنه نفسه في ذلك بأن حمل حزمة حطب مع كثرة غلمانه وأتباعه تجربة لنفسه وقد يحمله الكبر على أن يتصنع بما ليس عنده من العلم والعمل والحسب الشريف ونزاهة النفس وسلامة العرض وكذلك يحمله على ترك الاختلاف إلى العلماء إظهارا منه أنه مثلهم أو أفضل منهم وأن يأنف أن يتقدم عليه غيره في الصلاة كل ذلك تكبرا أو خوفا من سقوط منزلته عند الناس وربما أوهمته نفسه أنه يترك السؤال وغيره حياء من الناس وهو متكبر غير مستح يخيل إليه أن كبره استحياء إليه ليروج عليه الكبر ويدفع ذلك كله بما ذكر أول الفصل .
فصل في ترك الكبر على الفساق والتباس الكبر
بالبغض لله سبحانه والغضب لله سبحانه وتعالى
الناس بالنسبة إليك أقسام : أحدها من لا تعرفه ولا تعرف أنك فضلت عليه ، الثاني من تعرفه بذنوب أقل من ذنوبك فلا يمكنك أن تتكبر على هذا ولا على القسم الأول ، الثالث من عرفت أن ذنوبه أكثر من ذنوبك وعيوبه أكبر من عيوبك مع أنك من عيوبك على يقين ومن عيوبه على ظن فإن كنت تخاف على نفسك من العقوبة أكثر مما تخاف عليه فلست بمتكبر عليه وإن خفت عليه أكثر مما تخاف على نفسك فأنت متكبر عليه فإن سبب الخوف العصيان فلو كان خوفك لأجل معصيته مع قلتها لكان خوفك على نفسك مع كثرة معاصيك أكثر وإن كانت معاصيه أكثر من معاصيك فالطريق في ترك الكبر عليه بأن تعرف نعمة الله عليك بعصمته إياك من مثل عمله وأن تغضب عليه وتجانبه غضب الله تعالى مع خوفك على نفسك بحيث لا ترى أنك ناج وهو هالك إذ لا تدري بما يختم له وبما يختم لك وأنك أمرت بالخوف على نفسك دون الخوف عليه إلا من طريق الإشفاق مع ملازمتك الخوف من سوء الخاتمة ومما اقترن بأعمالك الصالحة من المفسدات كالرياء والعجب وغيرهما فكم من عاص ختم الله أعماله بأحسن الأعمال وكم من مطيع ختم الله أعماله بسيء الأعمال لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم وكذلك أهل البدع المضلون للناس يجب عليك أن تبغضهم في الله وأن لا تنكر عليهم بحيث تظن أنك عند الله خير منهم فإن الأعمال بالخواتيم ولا تدري بماذا يختم لك من الأعمال وبماذا يختم لهم وكذلك الكفار تبغضهم في الله وتعاديهم فيه ولا تتكبر عليهم بناء على أن عاقبتك عند الله خير من عاقبتهم إذ لا تدري نفس ماذا تكسب غداً ولا يدري أحد بما ذا تختم أعماله فقد ارتد جماعة من الصحابة وماتوا على الردة وكم من كافر احتقره المؤمنون وكان عند الله خيرا منهم ألا ترى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه تأخر إسلامه عن إسلام جماعة من الصحابة رضي الله عنهم ولعلهم كانوا ينظرون إليه قبل إسلامه بعين الإزراء ولا يدرون أنه عند الله تعالى أفضل منهم وليس من الكبر أن يعرف الإنسان ما فضله الله تعالى به على غيره وإنما الكبر أن يحتقره وينكر عليه أنه عند الله في الآخرة خير منه مع جهله بما يؤول إليه أمرهما .
فصل في الحسد والتنافسالتنافس عبارة عن طلب الأنفس وهو مأمور به في الدين لقوله تعالى وفي ذلك فليتنافس المتنافسون والحسد تمن وهو من أعمال القلوب وله آثار من الأقوال والأعمال والتمني ضربان أحدهما أن يتمنى مثل ما لغيره من الفضل والخير في الدين أو الدنيا ويعبر عنه بالغبطة والثاني أن يتمنى زوال ما لغيره من فضل في دين أو دنيا فهذا منهي عنه لقوله تعالى ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض وأمر بالغبطة في قوله تعالى واسألوا الله من فضله والحسد المذموم ضربان شرهما أن يتمنى زوال النعمة عن المحسود وإن لم تصل إليه .
والثاني أن يتمنى زوالها عن المحسود إليه وقد أجمع العلماء على تحريم هذين الضربين وورد بذلك الكتاب والسنة في غير ما موضع وشر الحسد الحسد على معاصي الله عز وجل وهو أن يتمنى أن يتمكن من المعاصي التي يفعلها غيره وليس من الحسد أن لا ينال غيره خيرا من خيور الدنيا والآخرة لأن الحسد مخصوص بما حصل من النعم وينشأ التحاسد في الدين عن فرط المحبة لطاعة الله تعالى وفي الدنيا عن فرط المحبة للدنيا وقد يكون مسببا عن الكبر وعن العجب وعن الرياسة وحب المنزلة والرياء وقد يكون مسببا عن العداوة والبغضاء وهو أشدها فإنه قد يحث على السعي في إهلاك النفوس والأموال ولا يتصور الحسد لمحبوب لأن المحب يتمنى زيادة النعم للمحبوب ولا يتمنى زوال النعم عنه وقد يقع التحاسد على تفضيل دنيوي كإيثار الأب أحد ابنيه والزوج لإحدى زوجتيه وقد يقع التحاسد بين أرباب الصنائع والمتعلقين بالأمراء والملوك وقد يقع التحاسد بسبب الإعجاب بالفضائل في الأنساب وكذلك التماثل في الأنساب كالأخوة وبني الأعمام بحسد بعضهم بعضا وكذلك يحسد العباد العباد والعلماء العلماء والغالب أن الحسد لا يقع إلا بين المشتركين في فضيلة من الفضائل أو في شيء من الأسباب الدنيوية فلا يحسد الفقيه النحوي ولا التاجر الجمال ولا الصانع البقال ومن أسباب الحسد التجاوز ولذلك أمر عمر رضي الله تعالى عنه الأقارب أن يتزاوروا ولا يتجاوروا وقال كعب رضي الله عنه ما من حكيم في قوم إلا حسدوه وكثروا عليه وشر أنواع الحسد تمني زوال النعم عن عباد الله عز وجل وإن لم تصل إلى الحاسد ويزال هذا النوع بأن تعلم أنك لم تحب لأخيك المسلم ما أحببت لنفسك وأنك شاركت الشيطان في عداوة أخيك المسلم وسخطت لما أعطى الله عباده من غير أن يحصل لك بذلك نفع أو غرض صحيح وما الحاسدون إلا كما قال الله تعالى وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون ومثل الحاسد مع المحسود كمثل رجل رمى إنسانا بحجر ليقتله أو يفقأ عينه فرجع الحجر عليه فقتله أو فقأ عينه بل حال الحسد أشد لأنه يتعرض بحسده لغضب الله تعالى وسخطه عليه فائدة في مدافعة خطرة الحسد :


لم يكلف الله تعالى العباد أن يخرجوا عن مقتضى طباعهم في الحسد ولا في شيء من الشهوات وإنما عليك إذا خطرت لك خطرة الحسد ودعاك الشيطان إليه أن تكره ذلك أشد الكراهة لما يؤدي إليه من السعي في مضارة المحسود وكذلك كراهة جميع الشهوات تكرهها إذا نازعتك نفسك وعدوك إليها .
فائدة أخرى في آثار الحسدللحسد آثار قبيحة وهي السعي في أذية المحسود بالأقوال والأفعال وإزالة النعمة عنه فمن حسد وترك آثار الحسد فله حالان : أحدهما أن يكره الحسد ولا يريد ضرر المحسود فليس هذا بحاسد ، الثاني أن لا يكره الحسد فقد قال بعض الناس لا إثم عليه إذ لا حسد على الحقيقة إلا السعي في أذية المحسود وهذا لا يصح لأن الحسد من أفعال القلوب وقد يتجوز به عن آثاره فتسمى حسدا وإنما نهى عن الحسد لكونه إذا تمكن من القلب حمل على المعاملة بآثاره فيكون تحريمه من باب تحريم الوسائل .
فائدة في إثم الحسد وآثارهالحسد بالقلب ذنب بين الحاسد وبين الرب تعالى لا تقف صحة التوبة عنه على تحليل المحسود وإبرائه بخلاف آثار الحسد فإنها أذية للمحسود فلا تصح التوبة عنها إلا بالخروج عن عهدتها لأن الضرر ليس بمجرد الحسد وإنما هو بتعاطي آثاره
فصل في النهي عن الغرة
الغرة اعتماد القلب على ما لا ينبغي أن يعتمد عليه كاعتماد العالم على علمه والحليم على حلمه والزاهد على زهادته والعابد على عبادته والعارف على معرفته والعصاة على إمهال الله تعالى إياهم والأغنياء على غناهم وهذا شرك فإن الاعتماد ليس إلا على رحمة الله عز وجل إذ لا ينجي أحدا عمله إلا أن يتغمده الله برحمة منه وفضل وقد يلتبس على العامة الرجاء بالغرة فيجترئ على المعاصي اغترارا بسعة الرحمة وكثرة النعمة وجهلا بالفرق بين الغرور والرجاء فإن الرجاء إنما يتحقق عند أسباب الفلاح وطرق النجاح فمن بذر بذرا في أرض طيبة وتعهد بذره تعهد مثله كان راجيا لاستغلاله ومن بذر بذرا في أرض خبيثة أو في أرض طيبة ولم يتعهده تعهده مثله ثم قال أنا راج لاستغلاله قيل له بل أنت مغرور لأن الرجاء إنما يتحقق عند القيام بأسباب المرجو ومدار الغرور كله على الجهل فما اغتر الكفار بعبادتهم إلا جهلا منهم بحبوطها وما اغتر المبتدعة ببدعهم إلا جهلا منهم ببطلانها وما اغتر الأغنياء بغناهم إلا جهلا منهم بأنه فتنة ومحنة وظنا منهم أنه كرامة ونعمة وكذلك اغترار العابد بعبادته والزاهد بزهادته والعارف بمعرفته وربما أقدم هؤلاء على معصية ربهم ظنا منهم أن الله عز وجل لا يؤاخذهم بقربهم إليه وكرامتهم عليه والرجاء ضربان أحدهما ما يخرج عن القنوط من رحمة الله تعالى كرجاء العصاة للتوبة والثاني رجاء ارتفاع الدرجات وكثرة المثوبات والكرامات وهذا لا يصح إلا من العاملين المقبلين على إرضاء رب العالمين قال الله تعالى الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله وقال في الرجاء القاطع للقنوط يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله
فائدة في تخويف النفس من خطرة المعصية

إذا خطرت خطرة بمعصية فليخوف النفس من القصد إليها والعزم عليها فإن قصدتها فليخوف النفس من الإقدام عليها فإن غلبته وأقدمت عليها فليخوفها من الإصرار عليها وليأمرها بالتوبة منها فإن حدثه الشيطان بأن توبته لا تقبل وأن توبته لا تغفر فليرجها سعة رحمة الله تعالى وليذكرها أنه يغفر الذنوب جميعا ولا يبالي فإن أصرت على الذنب قنوطا من رحمة الله فليذكرها أنه لا يقنط من رحمة الله إلا الظالمون ويعرفها أن القنوط من رحمة الله سبب الانهماك في المعاصي والمخالفات وكذلك متى ما رأى كثرة غرتها بالله تعالى فليجتهد في تخويفها من غضب الله تعالى وعقابه وأليم عذابه فيكون بذلك واضعا للخوف في مواضعه وللرجاء في مظانه .
فصل في الغرة بأنواع دينهوهي أنواع أحدها كثرة الروايات والتبحر في علم الحديث يغتر به من قام به معتقدا أنه ينجيه ناسيا الاعتماد على ربه مقصرا في طاعته محتقرا لعباد الله عز وجل عاملا بمعصية الله تعالى لا يرى أن أحدا يكافيه وربما ارتكب بعضهم الكبائر معتقدا ان مثله لا يؤاخذ بذلك وتنفى الغرة بذلك بأن يعلم أن علمه حجة لله عز وجل عليه وأنه إذا لم يعمل بالعلم كان وبالا عليه وقد جاء في الحديث: إن أول من يدخل النار العلماء الذين لا يعملون بعلمهم فيقولون أي ربنا بدئ بنا قبل عبدة الأوثان فيقال لهم ليس من علم كمن لم يعلم وينبغي أن يواظب على هذه الملاحظة إلى أن تزول لن ينجي أحدكم عمله فإذا كان العمل الذي
rغرته ويعتمد على رحمة ربه ناظرا إلى قوله هو المقصود لا ينجي فما الظن بالوسيلة التي هي العلم .
النوع الثاني في الاغترار بالفقه والتبحر في معرفة الحلال والحرام وسائر الأحكام والتأهل للقضاء والفتيا فغرة هذا أشد من غرة من تفرد بالرواية لأن هذا يعتقد أن به قوام الدين لمعرفته بالشرع ويعتقد أنه هو الطبيب وأن الراوي هو الصيدلاني فيعميه ذلك حتى يخفى عليه أكثر ذنوبه وعيوبه وإن عرف ذنوبه وعيوبه اعتمد على علمه وقال مثلي لا يؤاخذ بذلك وينفي الغرة بذلك بأن يعلم أن المعرفة بجلال الله تعالى وكماله وسعة رحمته وشدة نقمته وبمعرفة أحكام القلوب وأعمالها أفضل من علمه الذي وصل إليه واعتمد عليه وقد قال الله تعالى إنما يخشى الله من عباده العلماء قال ابن عباس رضي الله عنهما إنما يخشاني من عبادي من علم عزتي وملكوتي وسلطاني وكذلك يكثر ذكر المعاد وما أعد الله تعالى فيه من الحساب والمناقشة على الأعمال والثواب والعقاب ، النوع الثالث الاغترار بمعرفة الأحوال والآداب وأخلاق النفوس الذميمة والحميدة وكيفية السعي في إبطالها وتقلبها وكذلك معرفة التعظيم والإجلال والترك والإهمال والخوف وأسبابه والرجاء وموجباته والمحبة والمهابة والتوبة وأركانها وشرائطها والزهد والرغبة ورتب المجهود فيه والمرغوب فيه والتوكل على الله تعالى والرياء والإخلاص ويبالغ في حسن التعبير عن ذلك كله ويظن بجهله أنه متصف بهذه الأوصاف توهما منه أن حسن العبارة عنها تدل على تحقيقها فيعتقد أنه راج وهو مغرور ويعتقد أنه خائف وهو متوهم ويعتقد أنه متوكل على الله تعالى وهو متوكل على الأسباب ويعتقد أنه مقبل على الله وهو معرض عنه ويعتقد أنه محب مع خلوه من آثار الحب ويعتقد أنه مشمر وهو متهاون إلى غير ذلك مما يوهمه الشيطان أنه من أهله وليس من أهله وإنما يعرف هذا غلطه بأن يجرب نفسه فيما يدعيه من الأوصاف فإن ادعت عليه الخوف جربها عند همه بمعصيته لله تعالى فإن أقدم على ما هم به فليس بخائف ثم ينظر في قطع الإصرار عن ذنبه والتوبة منه فإن لم تسمح نفسه بالتوبة علم أنه غير خائف لأن أول رتب الخوف الخوف من الذنوب فكيف يدعي الخوف من ليس في رتب أدنى الخائفين وكذلك توهمه نفسه الزهد في الدنيا ما دام فاقدا لها فإذا سنحت له الدنيا أخلد إليها وأقبل عليها فيعلم بذلك أن زهده كان من أماني نفسه وكذلك يعتبر المحبة لله تعالى بآثارها من الأنس والمبادرة إلى الطاعة وتجنب أسباب السخط والالتذاذ بذكره وحلاوة مناجاته وكثرة اللهج بذكره فإذا لم يكن عنده ذلك علم أن نفسه قد كذبته وكذلك يعرف أنه متوكل على الأسباب دون رب الأرباب بأن يزيل الأسباب فإذا جزعت نفسه لذلك علم أنه كان معتمدا على الأسباب دون رب الأرباب ومثال ذلك بأن يكون لرزقه أسباب يعتمد عليها كضيعة أو صنعة أو راتبا أو من يقوم بأمره من ولد ووالد فتسكن نفسه إلى تلك الأسباب فيتوهم أن سكونه إلى الله عز وجل فإذا أزيلت تلك الأسباب جزعت نفسه واضطربت وتبين أنها كانت معتمدة على الأسباب دون ربها عز وجل وكذلك يعتقد أنه من المخلصين في أعماله وأقواله وأحواله فإذا سنحت له أسباب الرياء لم يملك نفسه حتى يرائي بأقواله وأعماله وأحواله وكذلك يعتقد البراءة من الكذب والإعجاب والإدلال بالأعمال فإذا وقعت أسباب ذلك مالت نفسه إليه وغلبته عليه وإنما غلط هذا فيما اعتقده من الأحوال المذكورة من جهة أن المسلم المؤمن بالله واليوم الآخر لا يخلو عن أصول هذه الأحوال فلا ينفك أحد من المؤمنين عن الإخلاص لله تعالى ولو في التوحيد ولا عن التوكل ولوفي حال الشدائد ولا عن محبة الله تعالى إما لملاحظته جماله وكماله أو بملاحظته إنعامه وإحسانه وإفضاله وقد جبلت النفوس على حب من أنعم عليها وأحسن إليها وكذلك لا تخلو عن الرجاء عند ملاحظة سعة الرحمة ولا عن الخوف عند ملاحظة شدة النقمة ولا عن التوكل عند ملاحظة توحد الله تعالى بالنفع والضر فلما كانت أصول الأحوال موجودة فيه توهم أن تلك الأحوال في رتب الكمال فإذا دعى الناس إلى شيء من ذلك فإن أوهمهم أنه متصف بأعلى رتب هذه الأحوال فقد تصنع بما ليس فيه بلسان الحال إلا أن يقع في أثناء ذلك قول يدل على ذلك فيكون متصنعا بلسان المقال والمتشبع بما ليس فيه كلابس ثوبي زور .
النوع الرابع الاغترار بما يحفظ من كلام القصاص والوعاظ والمذكرين ولا يفهم معانيه ولا يعرف صحيحه من فاسده فتارة يحدث به العامة وتارة يخص به أصحابه وهو مغتبط به يظن أنه سبب نجاته ويقتصر في ذلك في طاعة ربه وينتفي الاغترار بذلك بأن يعرض أعماله على أقواله فإذا وجد نفسه واصفة للزهد وهو من الراغبين وللخوف وهو من الآمنين وللإخلاص وهو من المرائين وللعفاف وهو من الفاسقين وللاجتهاد وهو من المقصرين وللإقبال على الله وهو من المعرضين علم حينئذ أنه من المغترين
النوع الخامس الاغترار بعلم الكلام والجدل والرد على أهل الأديان وإبطال مذاهبهم والرد على أهل البدع وإبطال بدعهم ودحض حججهم يعتقد أحدهم أنه لا يعرف الله تعالى سواه وأنه لا يصح العمل إلا بأحكام ما عرفه وهم مع ذلك حفاة عصاة يظنون علمهم ينجيهم من سخط ربهم فمنهم من يضيع الصلوات ويتبع الشهوات ولا يقدرون لأحد قدرا ولا يقيمون له وزنا وتنتفي غرة هؤلاء بأن يعلموا بان الكتاب والسنة مشتملان على المحكم والمتشابه وأن النظر بالعقل قد يخطئ ويصيب ولا يغره جزمه بمذهبه فإن خصمه كذلك جازم بمذهبه مضلل غيره ويحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون والطريق في استقامة الاقتداء بما اتفق عليه السلف الصالح في أصول الدين وفروعه فيتابعه فلا يلزمه سوى ذلك ومما ينجع فيه أن الاعتقاد قد يلتبس بالعلم فيظن المعتقد الجازم بانه عارف عالم وبمثل هذا ضل أكثر المختلفين ويدل على ذلك أن الإنسان يقطع بالشيء ويجزم به ثم يظهر له بطلان جزمه لاعتقاد يعتقده أو علم يعلمه فالجزم أن يتمسك بالسنة التي درج الناس عليها وأن لا يتعداها إلى غيرها لما في ذلك من المخاطرة بالدين ومخالفة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم والسلف الصالحين رضي الله عنهم أجمعين .
النوع السادس الاغترار بالعبادة والزهادة والتقشف والصيام والقيام ودعوى محبة الله عز وجل حتى يصعق أحدهم عند ذكره ويتغاشى في السماع إيهاما لغلبة الحب عليه
ومن هؤلاء من يترك الأهم بما ليس كذلك ككسب الحلال وتضييع العيال والخروج للحج والعمرة بغير زاد وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا وكل من هؤلاء معتقد أنه قد أقام التقوى على حدودها وحقوقها وأنه قد صار إلى منازل المتقين الورعين وطريقه في نفي ذلك أن يعتبر اكتسابه وأقواله وأعماله وجميع أحواله فإذا بحث عن كسبه وجده حراما أو شبهة فقد تبين له مجانبة التقوى في مكسبه وإذا حج بغير زاد زاعما أنه متوكل على ربه تعالى فليعتبر توكله بما ذكرناه عند ارتفاع الأسباب وليعلم ولأصحابه في تزودهم في أسفارهم للحج وغيره وإن ظهر أن
rأنه مخالف لرسول الله أقواله وأعماله موافقة في ظاهرها للكتاب والسنة فلينظر في إخلاصها لله عز وجل وليعرضها في نفسه عملا عملا فإذا اطلع على تصنعه وريائه زالت غرته بأعمال كان يعتقد صحتها وهي باطلة عند الله تعالى بالرياء وكذلك يعتبر جميع أعماله الظاهرة والباطنة فإذا اطلع من ذلك على نفسه زالت غرته وأقبل على إصلاح أعماله وأقواله .

النوع السابع الاغترار بالتورع في المآكل والمشارب والملابس مع ظن فاعل ذلك أنه قد قام بالتقوى في جميع ما أمر به وهو مضيع لكثير من التقوى في ظاهره وباطنه ظنا منه أن تقشفه في المطعم والملبس ينجيه وينفي اغتراره بذلك بان يعلم أن التقوى ليست بمحصورة فيما تورع فيه وأنها متعلقة بالقلوب والأسماع وسائر الأعضاء وأن الله سبحانه وتعالى توعد من أضاع تقواه بالعذاب الشديد مع طيب مشربه ومطعمه وملبسه .

النوع الثامن الاغترار بالخلوة والعزلة والانقطاع عن الناس مع الاعتماد عليها والسرور بما ينسبه الناس إليه من الانقطاع إلى الله عز وجل وينفي الاغترار بذلك بأن ينظر فيما حرمه الله تعالى عليه في ظاهره وباطنه من حين كلف وإلى وقته فلا يكاد أن يسلم في ذلك كله بل لا يسلم في بعضه فكيف يغتر بانقطاعه وعزلته مع وقوعه في معصية ربه التي قد تحبط أعماله وتسقط آماله ثم ينظر بعد ذلك في جميع ما أوجبه الله تعالى عليه فلا يكاد يسلم من تفريطه في واجب أو واجبات فإن ظهر تفريطه فيها لم يأمن من أن يكون تفريطه سبباً لإحباط عمله وحسناته وفي التنزيل لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون ، وقد جاء في الحديث إن من ضيع صلاة العصر حبط عمله وإن أتى بها على وجهها لم يأمن الرياء المحبط لها وإن أخلصها لم يأمن التصنع بها فإن لم يتصنع بها لم يأمن الإعجاب بها والإدلال بها على ربه والتكبر بها على عباد الله تعالى فإن سلم له ذلك لم يأمن من إحباطه ببعض ذنوبه وفي إحباط العمل بالعجب نظر .

النوع التاسع الاغترار بالغزو والحج وقيام الليل وصوم النهار مع تضييع أكثر التقوى الظاهرة والباطنة وترك التفقد لأقواله وأعماله وأحواله ظنا منه أن مثله لا يحتاج إلى التفقد ونسيانا لتضييع الواجبات وارتكاب المنهيات وتنتفي الغرة بذلك بما ذكرناه في الفصل قبله واغترار الذي قبله بالعزلة والانقطاع أقبح من اغترار هذا لأن ذلك اغترار بمندوب ليس بمفروض وليست رتبته في المندوبات كرتبة القيام والصيام والحج والغزو ولا يقع إلا واجبا لأن الصفوف إذا التقت تعين القتال .
النوع العاشر الاغترار برعاية التقوى الظاهرة والباطنة والاهتمام بتقديمها على غيرها من الطاعات المسنونات والمندوبات مع اعتقاد أحدهم التوحد في عصره وأنه الناجي دون غيره وهو لو سلمت تقواه له لم يأمن أن يحبط الله تقواه بما يقع منه في الاستقبال أو أن يعذبه بما تقدم من ذنوبه قبل تقواه ، وينتفي الاغترار بذلك بأن يعرض تقواه على تقوى سلف هذه الأمة وخوفه على خوفهم ووجله على وجلهم واستشعار نفسه على استشعار أنفسهم فقد كانوا كما وصفهم ربهم بقوله والذين يؤتون ما آتوا من التقوى والطاعة وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون أي خائفة من رجوعهم إلى جزاء ربهم ولقد انتهى بهم الوجل والخوف إلى أن تمنى أحدهم أن يكون شجرة تعضد وتمنى بعضهم أن يكون كبشا سمنه أهله فذبحوه وأكلوه وقد كان سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم أخوفهم لله تعالى مع أن هذا المغتر بتقواه لا يأمن أن يكون ضيع من التقوى ما يحبط تقواه .
النوع الحادي عشر الاغترار بالعزم على التقوى وبالعزم على الأفعال الرضية والأحوال السنية كالبصر والتوكل والرضا والإخلاص وغير ذلك من الأحوال العلية وبالعزم على ترك الأخلاق الدنية كالغضب والحسد والرياء ويظن كل من هؤلاء أنه من أهل ما عزم عليه بمجرد عزمه فإذا سنحت له الأسباب المقتضية للمعزوم جاشت عليه نفسه فخرج عما عزم عليه إلا القليل منه فإنه يأتي به فيزداد غروره لاعتقاده أنه من أهل ما عزم عليه مثال ذلك أن يعزم على الصبر على ما يصيبه فإذا حضر ما يصبر عليه كذبته نفسه وجزعت وكذلك يعزم على الإخلاص فإذا وجد من يرائيه جاشت نفسه إلى الرياء وحملته عليه وكذلك يعزم على الرضا بالقضاء فإذا نزل القضاء كان من أسخط الناس به وتنتفي الغرة بذلك بأن يتامل التفرقة بين العزم وبين المعزوم عليه فيعلم أن العزم على الإخلاص ليس بإخلاص وعلى التوكل ليس بتوكل وعلى الحلم ليس بحلم وعلى الصبر ليس بصبر وعلى الرضا ليس برضا وأنه مغرور بعمل لم يصدر منه بخلاف من تقدم ذكره من المغرورين فإنهم صدرت منهم أعمال وأحوال اغتروا بها واعتمدوا عليها .
النوع الثاني عشر الاغترار بستر الله تعالى على الذنوب والعيوب وبإمهاله عن المؤاخذة مع تضييع كثير من حقوق الله تعالى ظنا منه أن الله تعالى إنما أمهله وستر عليه لكرامته عليه وحظوته لديه وأنه إنما حببه إلى إخوانه وإلى غيرهم من الأجانب لمنزلته عنده وتنتفي الغرة بذلك بأن يعلم بان ثناءهم حجة لله تعالى عليه وأنه يلزمه أن يشكر الله تعالى على إظهار محاسنه وستر ذنوبه وعيوبه وأنه لا يأمن أن يختم له بذنوبه التي سترت عليه فيكون عند الله سبحانه من الهالكين ، وأن من أشد الجهل اغترار الإنسان بما يقوله الناس بالظن الكاذب وترك الوجل مما يتحققه من ذنوبه وعيوبه وينبغي لمن مدح بما ليس فيه أن يقول اللهم لا تؤاخذني بما يقولون واجعلني خيرا مما يظنون واغفر لي ما لا يعلمون . فصل في سيرة المريد في نومه ويقظتهينبغي للمريد إذا أراد النوم أن يجدد التوبة من معاصي الله تعالى وأن يعزم فيما بقي من عمره على طاعة الله عز وجل واجتناب معصيته وأن يحذر من أن يفاجئه الموت في نومته وأن يقول اللهم باسمك أحيا وباسمك أموت اللهم أنت خلقت نفسي وأنت تتوفاها لك مماتها ومحياها إن أمسكتها فاغفر لها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين فإذا استيقظ حمد الله تعالى على إمهاله إياه وذكر المعاد وليستعد له فإن اليقظة من النوم مشبهة للحياة يفعل ذلك فيقول الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه "المصير"بعد الموت وقد كان النشور ثم يتذكر ما عاهد الله تعالى عليه عند نومه استحياء منه وإجلالا له عن أن ينقض عهده عن قريب فإذا أراد أن يلبس ثوبه فلينو بلبسه امتثال أمر ربه في ستر عورته إذا قام من النوم شاص فاهr فإنه كان rثم ليستاك ناويا للاقتداء بسنة رسول الله بالسواك ثم يقضي حاجته ليدخل الصلاة وهو غير مدافع للأخبثين ناويا لذلك ويبسمل قبل دخوله الخلاء ويقول أعوذ بالله من الخبث والخبائث فإذا خرج فليقل الحمد لله الذي أذهب عني ما يؤذيني وأبقى علي ما ينفعني ثم يتوضأ الوضوء المشروع بسننه وآدابه راجيا تكفير خطيئاته بما يغسله من أعضائه ثم يقصد إلى المسجد ماشيا بالسكينة والوقار وبالزيارة للمسجد وإظهار الشعار ثم يأتي بصلاة الفجر بشرائطها وأركانها وخشوعها وخضوعها إن استطاع ثم ينظر ما هو الأهم به في دينه ودنياه فليخرج إليه فإن اختار الخروج إلى منزله فليدخل إليه مشفقاً من عذاب الله تعالى ومعلماً لأهله ما قوا أنفسكم]يحتاجون إليه في أمر دينهم وحاثاً لهم عليه امتثالاً لقوله تعالى : وإذا سلك[ إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين ] وليدخل في مدحه بقوله : [وأهليكم ناراً طريقا إلى منزله أو من منزله إلى سوقه فلينو أنه إذا رأى منكرا أنكره أو صادف أمرا بمعروف أمر به أو صادف من يشرع السلام عليه سلم عليه فإن وقع ذلك أثيب على نيته وفعله وإن لم يقع ذلك أثيب على نيته وكذلك ينوي نصرة المظلوم وإماطة الأذى عن الطريق وليسلم في طريقه على من مر به غير مستوعب لجميعهم وإن لقيك أحد من أصحابك أو معارفك فسألته عن حاله وحال أهله كان ذلك حسنا وآكد من يبدأ بالسلام من إذا تركت التسليم عليه ساءه ذلك وحقد عليك ولتكن في ذلك مخلصا لله عز وجل فإذا سلمت على أحد من إخوانك أو سلم عليك فاحترز كل التحرز من التصنع والرياء بأقوالك وأفعالك أو شيء من أعمالك وإياك والتصنع بلسان الحال فإنه كالتصنع بلسان المقال وإن خرجت لاكتساب ما تنفقه على نفسك أو عيالك أو على إخوانك أو في حق لزمك أو ندبت إليه فاقصد بذلك كله امتثال أمر الله تعالى وطلب مرضاته وتوكل في ذلك على ربك لا على حسن صناعتك ولا على كسبك في تجارتك قاصدا لترك اكتساب الشبهات فإن اجتنابها أبرأ لدينك وعرضك وأكثر من ذكر الله تعالى في سوقك وحانوتك فإن ذكر الله تعالى في الغافلين كالشجرة الخضراء في وسط الهشيم وتجنب الخوض مع أرباب الأسواق فيما يخوضون فيه ولا تشتغل بدنياك عن طاعة مولاك وتستعمل مثل هذا في جميع العقود والمعاملات والقضاء والاقتضاء وإن غدوت طالبا للعلم فاقصد بطلبه وتعلمه أن تستقيم في نفسك وتأمر بالاستقامة بمقتضاه وان تعلمه الناس ابتغاء وجه الله تعالى وكذلك يكون قصدك في جميع أقوالك وأعمالك كعيادة المرضى وتشييع الجنائز وإطعام الجيعان وكسوة العريان وقرى الضيفان وإغاثة اللهفان فإن الله تعالى لا يقبل من الأعمال إلا ما أريد به وجهه .
فائدة في حسد الشيطان من استقام على رعاية حقوق الله تعالى
فمن استقام على رعاية حقوق الله تعالى في ظاهره وباطنه كما ذكرناه حسده الشيطان على ذلك فأراد أن يخرجه عن حيز الرعاية إلى حيز المعصية بأن زين له طاعة من الطاعات تستلزم كثيرا من المعاصي والمخالفات فيقول له انظر إلى عباد الله قد فسدت قلوبهم واعرضوا عن ربهم وأقبلوا على دنياهم وتركوا أمر مولاهم فاخرج إلى عباد الله وانصحهم في دين الله بدلالتهم عليه وإرشادهم إليه فلأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير مما طلعت عليه الشمس فتحثه نفسه على ذلك لعلمها بما يحصل لها من الرئاسة والتعظيم والإجلال والخدمة ونفوذ الكلمة واعتقاد الولاية فيخرج إلى الناس ليدعوهم إلى ذلك فيعظموه ويوقروه ويبذلوا له أنفسهم وأموالهم ويبجلونه غاية التبجيل ويعظمونه أقصى التعظيم وتستشعر النفس بلذة لم تستشعرها قط فترائي في بعض المواطن لئلا تزول تلك المنزلة وإذا رد عليه شيء من كلامه غضب كيف يرد على مثله وربما قابل الراد بالشتم والسب مع كونه محقاً في رده وربما اغتابه ونال منه ونسبه إلى الجهل وسوء الأدب وربما وقعت منه زلة أو ركوب أمر مباح لا يليق بأمثاله فيخشى من نقص منزلته عند أصحابه فيأتي من الرياء والتصنع والتسميع ما يمحو به ذلك من قلوب أصحابه فيصير معرضا عن الله تعالى بعد أن كان مقبلا عليه وظاعنا عنه بعد أن كان سائرا إليه ومتباعداً منه بعد أن كان متقرباً إليه ولو لم يخرج إلى الناس ليسلم من هذا كله وإنما يخرج إلى الناس من رسخت قدمه في التقوى ووثق بالسلامة من هذه المفاسد في غالب الأمر وإنما يحصل له ذلك بعد تجربة نفسه في الوعظ والتذكير والدعاء إلى الله تعالى مع غلبة السلامة عليه في ذلك .
rلى الله تعالى علوا كبيرا فخذلوا فهزموا مع أنهم خير خلق الله وقد يؤدي العجب إلى الإدلال على الله تعالى والإدلال أن يرى العبد أن له عند الله سبحانه وتعالى قدرا عظيما قد استحقه واستحق الثواب عليه مع الأمن من عقاب الله تعالى وليس رجاء المغفرة مع الخوف إدلالا واللإدلال علامات منها أن يناجي ربه بإدلاله بعمله ومنها أن يستنكر أن ينزل به بلاء ومنها أن يستنكر أن ينصر عليه غيره أو ترد دعوته مع كونه عامل بالعمل الذي استعظمه حتى حمله العجب والإدلال فما أجهل المدل على الله تعالى بعمله كيف يدل على ربه بإنعامه عليه وإحسانه إليه والشكر على النعم من جملة النعم والله تعالى يقول ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحد أبدا وقد قال سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم ما منكم من أحد ينجيه عمله قالوا ولا أنت يا رسول الله قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله منه برحمة وفضل . فائدة في أن الإعجاب لا يقع إلا بصفة كمال
لا يقع العجب إلا بصفة كمال أو ما يعتقد انه صفة كمال فمن أخطأ في اعتقاده أو في مسألة من مسائل الفروع فإنما أتاه الإعجاب من جهة أنه ظن أنه على الصواب فأعجب بصوابه إذ لا يصح الإعجاب إلا بما يعلم أو يظن أنه من باب الخيور وما فرح هؤلاء بخطئهم إلا باعتقادهم أنهم أصابوا وقد ذم الله تبارك وتعالى فرحهم في كتابه في قوله تعالى فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون فصل فيما ينفي الإعجاب بالعلم والعمل والرأي الصواب
وينفى ذلك باستحضار أن الذي وفقك للعمل إنما هو الله عز وجل وأن النفس لا صنع لها في ذلك وأنك إنما فعلته على كراهة منها وأن من الخطأ أن تنسب الخير إلى من لم تعرفه إلا بالشر وأن تقطعه عن من له الأمر كله وأن النعم كلها منه فإذا لاحظت ذلك وداومت عليه ارتفع عنك العجب فإن غفلت عن ذلك فعادت إلى الإعجاب ونسيت منة الله رب الأرباب فعاودها بالدواء الذي ذكرته كلما عادت
فصل فيما ينفي الإعجاب بالرأي الخطأليس الخطأ نعمة حتى يقع الإعجاب بها وإنما هي بلية من الله عز وجل يتوهم المخطئ أنها نعمة من الله تعالى فيعجب بها وطريقه في نفي الإعجاب به أن يعلم أنه من جملة بني آدم وأن بني آدم قد أخطؤوا وضلوا في كثير من الفروع والأصول وأعجبوا بخطئهم ظنا منهم أنه صواب وهو بشر مثلهم يجوز عليه ما جاز عليهم ومآخذ الحق والصواب موجودة في السنة والكتاب فمن ذلك ما هو محكم ظاهر لا يقع فيه خطأ ومنه ما هو متشابه قابل للخطأ والصواب فيجب عليه أن يتوقف فيه وأن لا يجزم فيه برأي حتى يقف على دليل شرعي يعتمد على مثله فإن لم يقف على دليل من ذلك المتشابه فليسأل العلماء عن ذلك
r يرشده إلى مراد الله تعالى ومراد رسوله فإن وقفوه على ما يجوز الاعتماد عليه أصغى إليه واعتمد عليه وإن لم يقفوه على ذلك آمن بالمتشابه ولم يتأوله حتى يقف على دليل شرعي موجب للتأويل وعلى العامة الإيمان بالمتشابه ورد معناه إلى العلماء وقد يقع الإعجاب بما يستقبل من الأعمال بناء على عزمه وحزمه وما جربه من نفسه ناسيا لمنة ربه ومضيفا له إلى نفسه الأمارة بالسوء
فصل فيما يقع به الإعجاب من الأسباب الدنيوية غير الأسباب الدينية ويقع الإعجاب بأسباب أخر غير العلم والدين فمن ذلك إعجاب المرء بحسن صوته ناسياً لإنعام الله تعالى عليه بذلك وقد يحمله حسن الصوت على الفجور والافتخار به على غيره وينفي ذلك بنظره في بدء خلقه وأنه خلق من نطفة قدره وفيما ينقلب إليه من الأقذار وبما يصير إليه في آخر أمره من سيلان صديده وتبديل صورته ونتنه وتغير ريحه وفي تضييعه ما وجب عليه من شكر ربه وفيما يتعرض له بترك الشكر من سخط الله عز وجل ودخول النار المغيرة لشكله وحسن صورته ومن ذلك الإعجاب بالقوة باستعظامها والاعتماد عليها ونسيان شكرها مع ترك الاتكال على خالقها كما قالت عاد من أشد منا قوة وكما أدل سليمان عليه السلام بقوته فقال لأطوفن الليلة على سبعين امرأة ولم يقل إن شاء الله وينفي العجب بذلك بأن يعلم أنها نعمة من الله تعالى ابتلاه بها هل يستعملها في طاعته أم في معصيته وإن الله عز وجل قادر على أن يسلبها منه فيصبح من اضعف خلق الله ومن ذلك العجب بالعقل والذهن والفطنة باستعظام ذلك واستحسانه ونسيان نعم الله تعالى به والاتكال عليه أن يدرك به من أمور دينه ودنياه ما لا يصل إليه غيره ناسيا لإنعام الله تعالى به عليه للتوكل على الله عز وجل في ذلك كله وقد يحمله ذلك على الجدال بالباطل ورد الحق على أهله واستصغار علم العلماء بالإضافة إلى علمه وقد يستصغر ما علموه من البر والخير مع تضييعه العمل بذلك اجتراء منه بفهمه وفطنته وينفي العجب بذلك بأن يعلم بان الله عز وجل هو المنعم عليه بذلك نعمة من الله ابتلاه بها لتكون حجة عليه آكد منها على غيره وأنه لا يأمن أن يسلبه الله تعالى ذلك كما فعل بغيره وكيف ينفعه عقله وجودة ذهنه إذا كان غيره أطوع لله تعالى منه فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء ومن ذلك العجب بالحسب وهو أن يتعظم بانتسابه إلى من عظم الله قدره في الدين والعلم والرسالة والنبوة ناسيا لإنعام الله تعالى به عليه ومحتقرا لعباد الله ومعتقدا أن له الحق عليهم وقد يعتقد أحدهم أن ينجو بغير عمل وقد يفتخر على الناس بذلك مع عصيانه وفجوره وينفي العجب بذلك بأن يعده من إنعام الله تعالى عليه وإحسانه إليه وأن الأحساب لا تجلب شيئا من الثواب ولا تدفع شيئا من قال لابنته فاطمة وعمته
r صفية رضي الله عنهما لا أغني عنكما من الله شيئاً وأن أكرم الناس عند الله أتقاهم

ليست هناك تعليقات:

مشاركة مميزة

رسالة الى السيد مارك

اخى الاستاذ مارك                                                 بعد وافر التحية  اتقدم برسالتى هذه ، لاعرب عن امت...

سيرة ذاتية


سيرة ذاتية

بسم الله الرحمن الرحيم
الاسم : عبدالكريم عبدالكريم عبدالكريم حشيش
الجنسية : مصري
المهنة : صحفي
الحالة الاجتماعية : متزوج
المؤهل : ليسانس الآداب قسم الاعلام
بلد الاقامة : الدوحة - قطر
تليفون : 55970278

عملت في جريدة الراية القطرية ، طيلة ستة عشر عاما متصلة ، خلال الفترة من اول ابريل عام 1999وحتى 31 مارس 2015 ...
وخلال هذه المدة تنوعت مهامي التحريرية حيث :- عملت في قسم المحليات بالراية لمدة عامين ، قمت خلالها بإجراء الحوارات والتحقيقات والتغطيات المختلفة .- توليت بعدها الاشراف اليومي على 3 صفحات هي : الاخيرة وبانوراما والواحة .
خلال هذه الفترة الطويلة نسبيا، كتبت عمود يومي لمدة تقترب من الخمس سنوات اسندت لي بعد ذلك مهمة الاشراف على ملحق اسبوعي "استراحة الراية " ، ولمدة ثلاث سنوات .
قمت خلال هذه الفترة بالمراجعة واعمال الديسك والصياغة .
وقبل المجيء للدوحة ، كنت قد عملت في عدة صحف مصرية ومكاتب عربية ، حيث عملت فى صحف "مصر الفتاة " و"صوت العرب " و"العربي " و"الاحرار " ، ومكتب : مركز اعلام الوطن العربي ، صاعد ، ومكتب صحيفة الخليج الاماراتية في القاهرة ، وقمت خلال تلك الفترة بأعمال الصياغة والديسك ، فضلا عن اجرار الحوارات والتحقيقات .
كما عملت في السنوات التي سبقت المجيء الى الدوحة ، محررا برلمانيا ، ومحررا لشؤون مجلس الوزراء المصري .




عبدالكريم حشيش ... الفيس بوك

ذكريات رمضانية

ذكريات رمضانية
محمد حشيش يتسلق فوهة مدفع افطار رمضان فى الدوحة

كان زمان

كان زمان
رباب عبدالكريم فى اول وآخر انتخابات للجالية المصرية فى الدوحة

علاقة الحروف بتصرفات البشر

اسرار الحروف 1/9/2011, 17:00

- يمثل كل انسان عالمأمستقلأ بذاته.. له مجموعته الكوكبية الخاصة به والتى تمثل حررف اسمه .. فكل حرف يمثله كوكب يظهر فى سماء مجموعته الكوكبية.. وتتلا قى وتتوافق هده المجموعة الكوكبية أوتصطد م وتتنافر مع غيرها من مجموعات
ا لكوا كب. . لنتكلم لغلة أبسط.. - بمعنى أننى كى أعرف أخلاق شخص ما..
يتعين على أن أعرف طبائع حروف اسمه، لأتمكن من
معرفة أخلأقه وتصرفاته، فلكل طبيعة بشرية أخلاق
معينة خاصة بها.. نعرفها من خصائص طبائع .. حروف الاسم. وللحروف طبائع أر بع، هى: النار والتراب والهواء والماء. وتتوزع هذه الطبائع الأربع على الحروف الأبجدية بأبعاد متساوية. ولما كان مجموع حروف الهجاء- فى العربية- هو ثمانية وعشرون حرفا، فإن ذلك يعنى أن كل سبعة حروف أبجدية تختص بطبيعة واحدة.
هذه النسبة البعدية ثابتة لاتتغير بين كل طبيعة وأخرى، وهى بالترتيب: النار فالتراب فالهواء فالماء. وقد وضع علماء الزايرجا لذلك جدولآ استخدموه كقاعدة عامة
وأساسية فى دراستهم لطبائع البشر من خلأل حروف أسمائهم.. وهى كالتالى:
. نار أ ـ ه - ط - م - ف - ش - ذ. تراب ب- و - ى - ن - ص - ت - ض .هواء ج - ز - ك - س - ق - ث - ظ
ماء د - ح - ل - ع - ر - خ - غ
طبائع الحروف
. طبيعة وصفات حر وف
العناصرالأربعة؟
- الحروف النارية من طبيعتها الاستبداد بالرأى والنشاط الدائم، السيطرة
والغلبة السريعة والصلأبة،
الحروف الترأبية من شيمتها الصبر، الانتباه فى اخر لحظة لتدارك الخطر أو بعد فوات الأوان السوداوية والعظمة المقرونة بتواضع، وهبوط وارتفاع الحركة إلمالية، وقوة المنطق والحجة وفصاحة البيان.. فضلأعن الجاذبية الملفتة وكتمان الأسرار.
الحروف الهوائية من طبعها الاندفاع- المخاطرة- النزق- الطيش- خفة الحركة مع ثقل وعدم ثبات،عصبية زائدة غالبأ ماتصل لحد المرض.. ومنها أيضأ حيلى للابتكار والابداع.
أما الحروف المائية فتمتاز بأخذ الأمور بالهوادة واللين وحسن السياسة، والرزإنة والاستهانة بالمصاعب والتضحية بالنفس فى سبيل الغير.. كذلك التقلب والتغير.
كيف يمكن قراءة الأخرين من خلال طبائع الحروف؟
- حتى نستطيع أن نحكم على أخلاق صديق أو رفيق ينبغى أن ننظر في الطبيعة الغالبة على حروف إسمه، فإن كان أكثر حروف اسمه. من الحروف النارية، يكون
هذا الشخص نارى الطب، تحكمه صفات وطبائع
الحروف النارية.. وهكذا.
- اسم سالم مثلأ.. مركب من طبائع ثلاث. "كيف؟
- عند تفكيك الاسم الى حروفه المكونة له يكون كالتالى (س ل م)، وبمضاهاتها بجدول طبائع الحروف نجد أن حروف أ م لها طبيعة نارية،
وحرف س له طبيعة هوائية، وحرف ل له طبيعة مائية.. وبما أن أحرف الطبيعة النارية تمثل اكثرية أ م فيكون "سالم " هذا شخص نارى الطبع بصفة عامة، وإن كان للطبيعتين الهوائية والمائية تأثير ملطف على طبيعته النارية بمقدار ماتمثله كل طبيعة من نسبة فى اسمه، وهى فى حالة سالم تساوى
الربع للهواء والربع للماء. وهكذا يمكننا قياس أخلاق
وطبائع من نود أن نعرفهم، بشرط أن نضع فى اعتبارنا توافق وتنافر طبائع الحروف.
تصاد ق.. وتعادى!
وكيف تتوافق أو تتنافر طبائع الحروفب التأكيد هناك توافق وتنافر بين طبائع الحروف،
فالحروف النارية والهوائية متوافقة ومؤتلفة.. أى أصدقاء، وكذلك الحروف الترإبية والمائية.. بعكس
حروف النار والترإب والهؤإء والماء والهوائية والترابية، فهى حروف متنافرة تكن العداء لبعضها البعض. وتفسير ذلك بسيط، فالتراب يطفىء الناركما يطفىء النار الماء.. والهواء والتراب يثيران الزوابع.. والهوأء والماء يثيران الأعاصير والنوات. وهكذا بعكس التوافق بين النار والهواء، فالهواء يشعل النار ويزيد من تأججها، والتراب والماء يمثلان عجينة ممتزجة منها كل شىء حى، فلا عجب أن تقوم بينهما صداقة وائتلأف.
" كيف نطبق ذلك على الأسماء الانسانية؟
- لنأخذ مثلأ اسمأ مركبا من حروف صديقة متوافقة كالحروف النارية والهرائية، وليكن اسم " قاسم "..
هذا الاسم يدل على التوافق والاتزان، فالقاف والسين (ق، س) من الأحرف الهوائية، والألف والميم (ا، م) من الحروف النارية، وعلى ذلك تساوى الطبيعتان عند هذا الشخص فى الوزن والقوة، وبذا تعززإن بعضها البعض، وتتكون من مجموعهما صفات ممتازة لمن يحمل هذا الاسم.عكس ذلك يحدث لو كانت طبيعة الحروف متنافرة، كالنار والتراب أو الماء والنار.. مثال ذلك
اسم "إبراهيم " فهو يتكون من حروف نارية (1، هـ، م) وحروف ترابية (ب، ى) وحرف مائة (ر) وهذه الطبائع الثلاثة تتنافر إذا اجتمعت معا..
ولكن يشفع لصاحب هذا الاسم وجود حرف مائى مع حرفين ترابيين، وإن كان الغالب على الاسم هو الطبع النارى الذى يمثل ثلاثة حروف.
صاحب الطباع الأربعة!
. لاحظت- من خلال الأمثله السابقة- اجتماع طبيعتين أو ثلاث فى الاسم الواحد.. هل يمكن للطبائع الأربعة أن تجتمع في اسم واحد.. وكيف
تكون صفات شخص يحمل اسمأ تجتمع به هذه الطبائع؟
- اجتماع الطبائع الأربعة فى اسم شخص وإحد أمر وارد وإن كان بدرجة أقل من اجتماع طبيعتين أو ثلاث.. واجتماع الطبائع الأربعة يعنى أن الشخص متمتع بتناسب رائع فى تركيبه النفسى ذلك أن اجتماع هذه العناصر يترتب عليه اعتدال فى السلوك وتوازن فى التصرفات.وانعدام التناسب والتوافق فى حروف الاسم
يساوى انعدام التناسب فى الصورة الشكلية، وعلى
عكس ذلك فإن تمام الطبائع فى حروف الاسم تعنى
حسن الطبع فى الشخص.
ومن أمثلة تمام طبائع حروف الاسم الوإحد واجتماع العناصر الأربعة فيه اسم "شكرى) فحروف هذا الاسم مؤلفة تأليف صداقة فالنار
والهواء في حرفى (ش، ك) والماء والتراب فى حرفى (ر،ى) كلها حروف صداقة ومودة. وهذا التناسب يعنى أن صاحب هذا الاسم انسان
معتدل الطبع غير متنافر الأخلأق، وخاصة أن
حروف اسمه اجتمعت فيها الطبائع الأربعة بهذا
الترتيب: (نار وهراء) مع ماء وتراب. ولو حدث واختلف هذا الترتيب لأتى بنتائج عكسية رغم اجتماع العناصر الأربعة في حروف الاسم.. ومن أمثلة ذلك اسم شريك مثلأ، حيث تجتمع
النار والماء في حرفى (ش، ر) مع التراب والهواء فى
حرفى (ى، ك) وبذلك تصبح التركيبة متنافرة تعطى
صفات العداوة والبغضاء وسوء الطبع. مذكر . و مؤنث
" أسرار الحروف . هل تبوح بمكنوناتها بدرجة متساوية بين الرجال والنساء؟ أم يوجد
خلاف فى التطبيق اذا ماتعلق الأمر بالمرأة - بالتأكيد لايوجد خلأف فى التطيق بين الرجل وا لمرأة.. ولكن يوجد ماهو أهم وأجدر أن يذكر، فهناك حروف مذكرة وحروف مؤنثة، واستخدأم كل حرف فى موقعه من التأنيث أو التذكير يقويه، ولو استخدم
فى غير موضعه يضعف.
فمثلأ إستخدام الحروف المؤنثة عند الرجال يدل
على الضعف والتساهل والهوإدة والشفقة والخوف
وسهولة الانقياد. وكثير، ماتتسبب الحروف المؤنثة فى أسماء بعض الرجال فى حذرهم من الزواج أو امتناعهم عنه تمامأ!
او تعاستهم في الزواج وضعفهـم أمام زوجاتهم،
خاصة لو كانت الزوجة ذإت اسم تغلب عليه الحروف
ا لمذكرة!
كذلك فإن استخدام الحروف المذكرة فى أسماء النساء يدل على النشاط الزائد والسيطرة والعظمة، والإعجاب بالنفس والطيش، والاجتهاد فى التخلص من القيود.. والثورة على مطالب الزواج!
وتناسب حروف الجنسين عند شخص ما، يولد حالة وسطأ كما فى اسم "إنصاف " مثلأ، حيث يتركب من أحرف مذكرة نارية (1، ف) وأخرى مؤنثة ترابية (ن، ف)، وبذلك يعنى صفات هذا الاسم أن صاحبته ذات نشاط وحسن تدبير وسيطرة.. كما تتمتع برقة الأنثى وتأثيرها على الرجال..وسيطرتها الخاصة على مايحيط بها من نساء!
خواص العدد. سألت "حسين أبو زيد" عن ارتباط الحروف
بالأرقام.. هل له دلالات خاصة فقال:
- القيمة العددية للاسم هى ناتج جمع القيمة العددية للحروف المكونة لهذا الاسم بعد قسمتها علىرقم 9، وما يتبقى من القسمة يكون هو الرقم الحامل لخواص العدد.
" لم أفهم.. أعطني مثالأ.
- مثلأ: اسم مصطفى، عندما نفك حروفه ونحولها لأرقام تبعأ للجدول الأحادى الخاص
بالمشتغلين بعلم "الزايرجا" يكون كالتالى:
1 2 3 4 5 6 7 8 9
أ ب ج د هـ و ز ح ط
ى ك ل م ن س ع ف ص
ق ر ش ت ث خ ذ ض ظ
وهكذا يكون اسم "مصطفى":
م ص ط ف ى
4 9 9 8 1
اذن مجموع عدد الحروف= 31 / 9= 3 والباقى
4، اذن رقم (4) هذا هو العدد المعنوى لاسم
مصطفى،، وخواص هذا العدد هى: الصلابة والقوة
والشهرة والنظام والذكاء وقوة الايمان، وصدق الفراسة وسعة الإطلأع.
. وهل لكل رقم من ا الى 9 خواص خاصة به.. وماهى
- نعم.. وقد تم تقنين خواص كل عدد كالتالى:
1- يعنى: ا لزعا مة- الريا سة- ا لعظمة- ا لقوة-
الشخصية الإيجابية- الحكمة- المحبة- حكم النفس - النشاط
2- هو الوسيط بين السلب والايجاب.. أو المعلوم.
والمجهول.. أو المذكر والمؤنث.. من صفات: الطمع
والمنازعة- العداء والمشاكل التى لاحلول لها- المشاركة المتنازعة- ا لثورة- الشك- الكراهية- ا لبغض- ا لتردد.
3- الانشاء- الاحتفاظ بالماضى- النظام العائلى-
التحمل- السعا دة- التوفيق- النجاح.
4- الصلابة- حب الظهور- الشهرة- صدق الفراسة والمشا هدة- العلم- الاطلاع- النظام- الذكاء - الثبات والاستقرار- الإصرار- الأمل والحذر.
5- الجاذبية- قوة المنطق- الاستفادة من الظروف
- سرعة الخاطر- بعض الأنانية والسعى وراء
الماديات- المساواة- الميل لعمل الخير- حب الإنسانية
- العدالة- اللهو- التجارة- التفكير فى تسلية النفس
بالملاهى والمأكل.
6- التعا ون- المحبة- الارتباط- ا لشعور- ا لكفا ية
- المسالمة- السعادة- التوفيق- الجمال- المعرفة- الاختراع رالابتكار- الفنون الجميلة- اللهو والزينة.. وبعض المشا كل.
7- البداية- التطور- الحكمة- الاعتدال- النصر والفوز بعد التعب- الشهرة- النجاح- الموافقة.
8- ا لتحرر- ا لهدم- الخصومة- ا لفرقة- الاصرار
- الغربة- الاقد ام- المعرفة- الذكاء.
9- القوة الروحية- التجدد- اليقظه- حدة الشعور- التنقل- الحالة التصورية- صدق الفراسة - بعد النظر-الاعتدال- الغموض- الغيظ- الشقاق- الفطنة- الكفا ية

http://alhssan-com.own0.com/t503-topic

الاحبة

الاحبة
رباب ورحمة ومحمد وعبدالكريم فى مشهد تخيلى

الله

الله
الله الله الله الاحد الصمد الذى لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا احد

صباح الخير

صباح الخير
الهند وقطار يمتطيه الجميع ويبدو الناس فوقه وعلى جوانبه يدور كأنه ثعبان

من مدونة الفلكى احمد شاهين ....

هياكل الإنسان السبعة [أشكالها وتجلياتها]

النظام الشمسي سباعي المستويات، وكل يحوي سبعة مستويات تحتية، فعلى المستوى الفيزيائي، تشكل المستويات التحتية الأكثف ما ندعوه بـالجسم المادي، أو الفيزيقي، وهو جسم مادي كثيف. أما المستويات التحتية الأقل كثافة على المستوى الفيزيقي فتشكل ما ندعوه بـالجسم الأثيري، أو طاقة الحياة، برانا prana. أما على المستوى النجمي astral، فالإنسان يمتلك فقط جسمًا نجميًا واحدًا يتشكل من ذرات المستوى النجمي. وعلى المستوى العقلي، تشكل المستويات التحتية الكثيفة ما ندعوه بـالجسم العقلي الأدنى أو الجسم الرغائبي kama rupa. والمستويات الأكثر شفافية تشكل الجسم العقلي الأعلى أو ماناس manas. وعلى المستوى الإشراقي بودهي buddhi، وعلى المستوى الروحي، يتشكل الجسم الروحي أو آتما atma. وعلى المستويات التحتية الكثيفة من مستوى آتما تبدو الشعلة الإلهية، الموناد Monad، وكأنها منفصلة عن الشمس الإلهية. ويتحول الوعي الكوني إلى وعي فردي؛ بينما على المستويات التحتية الأكثر شفافية تبقى الشعلة الإلهية، الموناد، متجذِّرة في المركز الإلهي. ومن جهة ثانية، ففي وسط المستوى الجرمي المادي توجد نقطة الاتصال بين المرئي وغير المرئي. وكذلك في وسط المستوى النجمي astral توجد نقطة الاتصال بين الشخصية أو الذات الدنيا، المؤلفة من الجسم الجرمي والأثيري والنجمي والرغائبي، وبين الفردية Individuality أو الذات العليا Higher Self، المؤلفة من الجسم العقلي والإشراقي والروحي Atma، وكذلك في وسط المستوى الروحي Atma توجد نقطة الاتصال بين الفردية والشعلة الإلهية، الموناد.

الإنسان يحوي بداخله الموناد، والفردية، والشخصية. فالفردية هي انعكاس للموناد، وهي ما يؤلف الكائن الروحي. أما الشخصية فهي انعكاس الانعكاس، أي هي انعكاس للفردية التي تستعملها كأداة تجسُّد لزمن لا يتعدى مدة تجسُّد أرضي واحدة. ففي نهاية كل تجسد أرضي، يموت الجسم الجرمي الفيزيقي، ويتبعه بعد فترة زمنية، كلٌّ من الجسمين الأثيري والنجمي. والأمر نفسه يحدث للجسم الرغائبي الذي يتلاشى بعد فترة من الوقت.

قد يتراءى لنا أن التركيب السباعي لأجسام الإنسان معقد، ولكن يجب ألا ننسى أن الوعي الذي يعبِّر عن نفسه من خلال هذه الأجسام هو وعي واحد. فعندما يعمل الوعي من خلال الجسم الإشراقي، مثلاً، يصير مقيدًا باهتزازات هذا المستوى ويبدو كوعي إشراقي. ويمتد هذا الوعي إلى السماوي، آتما Atma. وعندما يعمل الوعي من خلال الجسم العلِّي Causal body فإنه يصبح وعيًا للعقل الأعلى Manas. وعندما يندمج الجسم العقلي الأدنى يصبح وعيًا للجسم الرغائبي ويظهر كفكر. وباتحاد الوعي بالجسم النجمي يتحول إلى أحاسيس. ومع الجسم المادي يصير الوعي حركة وفعل. إذًا فالوعي واحد، لكنه يتجلَّى بطرق مختلفة بحسب “المركبة” أو الجسم الذي يعمل من خلاله.

في الشخصية، حيث تصل الإشراطات إلى ذروتها، ينسى الوعي أصوله الإلهية، ويعتبر الإنسان نفسه منفصلاً عن الكون. ولكن بتنقية هذه الأجسام يبدأ بإدراك أن هذه الشخصية هي عبارة عن أداة تستعملها الفردية Individuality للعمل على المستويات الدنيا. وفيما يتعلق بالفردية نفسها فإن لديها الوعي بأنها من طبيعة إلهية وبأنها، بالتالي، خالدة لأنها انعكاس للموناد. ولكن في نهاية التطور الكوني ينعدم وجود الفردية، لأنها في الأساس كانت لها بداية وستكون لها نهاية، ما عدا الأتما الروحي الذي هو فعلاً أساس الفردية الحقيقية لأنه فوق الزمن، وهو شعاع من الشمس الإلهية.

في نهاية كل تجسُّد، يقوم الجسم العِلِّي بهضم كل الخبرات المكتسبة أثناء الحياة الأرضية السابقة. وتتزايد معارف الفردية، وكذلك الأمر بالنسبة للشعلة الإلهية، الموناد، التي يجب عليها في نهاية المطاف أن تبلغ وعي الذات Self-consciousness. وهذه هي الغاية الأساسية من رحلتها السرمدية. ومن جهة ثانية، فإن صيرورة التطور هي المساعدة على التفتح والوعي. وعملنا يتلخص في تنقية هذه الأجسام المختلفة التي تحد من تفتح الوعي بسبب إشراطاتها، ومحاولة نقل مركز الوعي من الشخصية إلى الفردية، ومن الفردية إلى الموناد. إذ إنه في التطور الإنساني الفائق ينتقل مركز الوعي من المستويات الروحية إلى المستويات الإلهية، ومن الفردية إلى الموناد، الشعلة الإلهية.

وعندما نتكلم على مستويين “أعلى” و”أدنى”، يجب أن ننتبه إلى أن الفردية ليست فوق الشخصية، بل تحاذيها أو تتخللها، لأن الفردية وُجِدَتْ قبل الشخصية؛ ولذلك ففي هذا “الداخل” أو الباطن، وليس في الـ”ما فوق”، يجب أن نبحث عن الشعلة الإلهية. وعندما نتكلم على الأغلفة أو الأجسام التي تحيط بالشعلة الإلهية فليس المقصود أن هذه الأجسام تعوق “راحة” هذه الشعلة وأننا يجب أن نهمل أجسامنا، لأن الأجسام نفسها من مصدر إلهي، وكل شيء في الوجود إلهي الجوهر؛ وما عمل هذه الأجسام إلا حماية الموناد أو الشعلة الإلهية. وعدم معرفتنا بهذه الحقيقة يجعلنا نتوهم أن المركبات الجسمية هي عائق للتطور. لكن كل ما علينا عمله للإسراع في تفتح الوعي بداخلنا هو ترك الإلهي يُعبِّر عن نفسه من خلال أفكارنا وأحاسيسنا وأفعالنا – وهذه هي الغاية الأولى من التجسد الأرضي. ويكون ذلك بتطهير أفكارنا من الشوائب، وبمزيد من الغيرية نحو الأكثر ضعفًا وبؤسًا بين البشر، وبمزيد من المحبة نحو الآخرين.

فلنسلط الآن الضوء على المركبات المكوِّنة للإنسان:

الجسم المادي: يجب أن نتجنب الاعتقاد بأن ثنائية الوعي والطاقة إنما تعبِّر عن التضاد بين الروح والمادة، وبأنها تعبير عن الإشكال الفلسفي الواقع بين الماديين والروحيين على أن الماديين الحقيقيين هم أولئك الذين يرون العالم بواسطة أعضاء الحواس وحسب، ويرفضون القبول بوجود مستويات وعوالم ألطف اهتزازًا بحيث لا نراها بالعين المجردة؛ بينما الروحانيون الحقيقيون لا يديرون ظهورهم للحواس الخمس، وإنما يعتبرونها التجلِّي الأكثر ظاهرية لحقيقة لا يزال وجهها الباطني مستورًا ومخفيًا عن عيوننا. وعندما ندرك تمام الإدراك موقع الجسم الجرمي المادي في الكون ودورة العالم ، فإننا سنوجِّه اهتمامًا أكبر له، لأنه الأساس الذي نستطيع من خلاله رؤية العالم خارجيًا وإقامة الصلة ما بين العالم الخارجي والعالم الباطني.

“جسمك هو حصانك الذي تمتطيه”، ولهذا تجب معاملته جيدًا والاعتناء به. الفارس الأصيل هو ذاك الذي يحب حصانه، وبمحبته له، يعرف حاجاته، وكيفية قيادته ليقوم بالعمل المطلوب منه. والأمر نفسه ينطبق على الجسم الفيزيقي الجرمي؛ فإذا أردناه ألا يكون عقبة لنا في أبحاثنا الروحية، يجب أن نحبه ونهتم لاحتياجاته، لأنه بالمحبة والاحترام للمملكة الإنسانية التي يعبِّر عنها الجسم الجرمي في أكثف اهتزازاتها، نصل إلى المستويات الشفافة في هذا المستوى الجرمي الذي يحيط بنا. فلكي نحب شيئًا ما يجب علينا معرفته. والعلم لا يعرف إلا القليل عن عمل الجسم الجرمي.

الجسم الجرمي، أو الجزء الكثيف منه، قد تشكَّل من المستويات التحتية الدنيا الثلاثة هي: الصلبة والسائلة والغازية. أما الجزء الأشف فقد تشكَّل من المستويات التحتية العليا الأربعة للمستوى الفيزيقي المادي، المدعوة بالمستويات الأثيرية. وبذلك نحصل على جسم جرمي كثيف نراه بالعين المجردة، وجسم أثيري غير منظور يرتبط بالجسم الجرمي. وهذا الجسم الأثيري هو ما ندعوه أيضًا بـالبرانا prana، أو الطاقة التي تمدُّ الجسم الجرمي بالطاقة الكونية وتحفظ له تماسكه أثناء الحياة الأرضية. ولكن الجسم الأثيري ليس له وعي خاص به؛ ويبقى مرتبطًا بالجسم الجرمي طوال الحياة. أما الجسمان النجمي والرغائبي فهما يغادران الجسم المادي أثناء النوم مع بقائهما مرتبطين به بواسطة حبل أثيري يدعى “الحبل الفضي” الذي سنأتي على ذكره عند دراستنا صيرورة الموت. ولكن بدون الجسم الأثيري يفقد الجسم المادي كل وظائفه الحيوية والعضوية؛ فكلا الجسمين يحتاج للآخر. أما عن عمل الجسم الأثيري فهو يتلخص في نقاط ثلاث:

1. الجسم الأثيري هو القالب أو النموذج الذي على أساسه تشكََّل الجسم الجرمي.

2. هو الموزع للطاقة الحيوية المستمدة من الشمس.

3. هو المركز حيث تتوضع التشاكرا chakra، أو مراكز الطاقة التي هي صلة الوصل بين الجسم المادي والجسم النوراني.

النقطة الأولى:

إن الشكل المادي للإنسان لم يُخلَق من تدخل عوامل مادية بحتة فقط، كالوراثة مثلاً، بل من فطنة إلهية ومن “نموذج إلهي” أنزلته كائنات روحية إلى المستوى المادي عند بدء كل تجسد جديد. فجسم الطفل المادي يتشكل بحسب نموذج أثيري تعطيه هذه الكائنات الروحية التي يدعوها الناس بالملائكة، وتدعوها الثيوصوفية بـ”سادة كارما”. وهذا الشكل هو أساسًا نتيجة الكارما Karma، أو نتائج أفعال الإنسان في حياته السابقة. فالجسم الجرمي الذي يتجسد فيه الإنسان عند ولادته يعود إلى نموذج أثيري ساهم الإنسان نفسه في صياغته خلال أعماره السابقة من خلال التأثيرات الفكرية الصالحة أو الطالحة التي شكلت ذرات الجسم الأثيري، النموذج الأساسي للتركيب الخلوي للجسم الجرمي.

النقطة الثانية:

الجسم الأثيري هو الموزِّع للطاقة الحيوية الصادرة عن الشمس والمنتشرة في الكون كله. وتدعى هذه الطاقة باسم برانا على المستوى الفيزيقي. البرانا موجود في كل المستويات في النظام الشمسي والكون، وبالتالي يوجد برانا نجمي، وبرانا عقلي، إلخ، لأن البرانا هو مبدأ الحياة وهو طاقة واعية تربط الوعي بالطاقة على كل مستوى. فعلى المستوى الفيزيقي، تقوم البرانا بتغذية الأعضاء والأعصاب وكل ما يوجد في الإنسان بالطاقة الحيوية؛ وهي المسؤولة عن تماسك الجزيئات المادية ليتشكل منها جهاز عضوي، وتساعد على نقل الأكسجين في الدم، وعلى هضم الطعام.

النقطة الثالثة:

إن عملية تلقي الإنسان للمعارف والإيحاءات من العوالم التي تتجاوز عالمنا الأرضي تتوقف على درجة الاهتزازات وشفافيتها. فكلما كان الإنسان ذا قدرة روحية سامية ازدادت لديه قدرة الاهتزازات الدماغية؛ وبالتالي يستطيع الدماغ أن يلتقط الموجات والاهتزازات القادمة من عوالم أرق ويختزنها في الذاكرة. فأثناء التأمل الداخلي أو في الحلم يكون “متوضعًا” في عالم ذي درجات اهتزازية عالية. ولكن إن لم يكن دماغه “متوضعًا” أيضًا على نفس درجة الاهتزاز السابقة في العالم الآخر فإنه لن يتذكر أي شيء من الحلم أو الرؤيا الروحية. ومن المعروف بأنه توجد أربعة موجات للدماغ هي:

1. الأولى: ألفا α؛ وهي تناسب حالات التأمل والاستغراق.

2. الثانية: بيتا β؛ وتظهر في حالة اليقظة الطبيعية وتترافق مع النشاط الذهني.

3. الثالثة: دلتا δ؛ وتُعتبَر الأبطأ بين الموجات الدماغية، وهي التي تتوافق مع حالة النوم العميق.

4. الرابعة: ثيتا θ؛ وتتوافق مع الأحلام.

الجسم الأثيري هو مكان استقرار التشاكرات Chakra، وهي مراكز نقاط التقاء بين الجسم الجرمي والجسم النجمي. وعندما تصبح هذه التشاكرات متطورة بما فيه الكفاية فإننا نستطيع بواسطتها أن نتذكر كل التجارب التي نمر بها في العالم النوراني أثناء النوم. وخلال دراستنا لصيرورة الموت وبدء تفكك الأجسام الدنيا للإنسان، سنذكر السبب الذي يدفع الهندوس إلى حرق جثمان الميت بدلاً من دفنه في المدافن.

تطور البشرية ووجودها على كوكب الأرض لم يحدث بشكل مفاجئ؛ الوجود عبارة عن انبثاق من المطلق. والجسم الجرمي قد تطور خلال مسيرة طويلة ولم يصل إلى ما هو عليه الآن إلا بعد مروره بمراحل تطورية، بدءًا من الذرية البشرية الأولي وحتى وصوله إلى جنسنا البشري الحالي، الذرية البشرية الخامسة.

مرَّت على كوكب الأرض أربع ذريات بشرية واندثرت. ففي الذريتين البشريتين الأولى والثانية كان الجسم الجرمي عبارة عن شكل هيولي لاعضوي. ولكن في الذرية البشرية الثالثة حصل الانقسام الجنسي الذي كان له الدور الكبير في التطور الإنساني. ولم يحصل الجسم الجرمي على شكله العضوي إلا في الذرية البشرية الرابعة؛ وعندها بدأ يتشكل جسمُ الرغبات والعقل العاطفي. ولا تزال بقايا الذرية البشرية الرابعة على كوكب الأرض، لأنه يوجد تداخل بين كل جنس بشري قديم وجديد، رغم اندثار أغلبية الذرية البشرية القديمة. وفي بداية الذرية البشرية الخامسة (الحالية) بدأ العقل Manas يلعب دورًا كبيرًا في تطور الإنسانية. ومع ذلك فلا تزال أمام الجسم الجرمي إمكانيات للتطور مستقبلية. فالعلم الغيبي Occult Science يقول لنا بأن الجسم المادي الجرمي سيحوز على الحاستين السادسة والسابعة خلال ظهور الذريتين البشريتين السادسة والسابعة القادمتين. فالجهاز العصبي سيطرأ عليه تغيير وسيصبح أكثر رقة وشفافية، خاصة فيما يتعلق بالدماغ. وكلنا يعرف بوجود الغدة النخامية في الدماغ، وكذلك الغدة الصنوبرية؛ وهاتان الغدتان لم تتطورا بما فيه الكفاية، أي أنهما لا تزالان تمتلكان إمكانيات هائلة في عملهما الحقيقي الذي لا يعرف عنه الطب الكثير؛ وهما ستفصحان عن كل إمكانيتهما أثناء تطور الحاستين السادسة والسابعة اللتين ستحوز عليهما الذريات البشرية القادمة. ولكننا نذكر أن الغدة الصنوبرية كانت في الأصل عضو الرؤيا الروحية، أو “العين الثالثة”، ولها ارتباط كبير جدًا بالمستويات والقدرات الروحية التي يحوزها الإنسان في حالة الكمون. والأبحاث التي أجريت على هذه الغدة دلت على امتلاكها مادة خاصة، وهي المادة التي تساعد على تطور الذكاء؛ وقد تبيَّن أن أكبر كمية من هذه المادة توجد في الغدة الصنوبرية لدى الإنسان، وبعده يأتي الشمبانزي ثم الدلفين. فكلما كانت الغدة الصنوبرية نامية عند كائن حي ازدادت إفرازاتها، وتطوَّر هذا الكائن أكثر من غيره من الكائنات الأخرى.

دراسة الجسم الجرمي ينبغي ألا تقتصر على مستوى الفضول الفكري، بل ينبغي أن تحفزنا على تغيير نظرتنا لهذا الجسم، على مستوى العقل والإحساس والفكر. فنحن لا ندرك كم نتماهى مع هذا الجسم الجرمي. فعندما تطلب معدتنا الطعام نقول: “أنا جائع!” وعندما تشعر المعدة بالتعب نقول: “معدتي تؤلمني!”. ولكن من هو الذي يشعر بالجوع أو الألم؟ هل هو الجسم الجرمي أم الذات؟! فما دمنا نستمر في التماهي مع الجسم الجرمي واعتباره الذات الحقيقية للإنسان فلن نستطيع السيطرة عليه وتوجيهه بطريقة مثالية، بحيث لا يكون عقبة أمام تطورنا الروحي. فلو قلت: “سوف أغذي جسمي المادي بالطعام” بدلاً من أن أقول: “سوف أتناول الطعام” فإن طبيعتي ونظرتي للطعام ستكون مختلفة تمامًا. وليس المقصود بذلك بأن نحرم أنفسنا من رغبة حسية ما، أو أن نعيش حالة تقشف، ولكن الهدف الرئيسي هو الإحساس بأننا منفصلين عن الحواس ومواضيع الحواس، والنظر إليها على حقيقتها، أي بكونها خارجية عن ذاتنا وليست هي “نحن”، وإدراك أن الحواس ليست إلا غطاء أو غلافًا يحيط بالذات الحقيقية التي هي “نحن”. فمن طبيعة الجسم الجرمي والنجمي والرغائبي العمل بطريقة آلية تلقائية؛ وهذه النزعة إلى التكرار الآلي للفعل هي التي تحد من الاستعمال الحر للجسم وتمنعه من “هضم” معارف جديدة. والتطور والتقدم للأمام يتطلب منا أن “نوقف” الكثير من هذه الآليات، وأن نعمل على امتلاك آليات جديدة أكثر رقيًا وشفافية.

نحن نعرف أن كل شيء في الكون هو عبارة عن اهتزاز؛ وتنقية الجسم الجرمي تعني جعله مؤهلاً لاستقبال وتلقي اهتزازات أكثر شفافية، والامتناع عن الرد على الاهتزازات الكثيفة التي تصدرها الأفكار السيئة والنوايا الخبيثة، ليس فقط في العالم الفيزيقي وإنما في أيضًا في العالمين النوراني والعقلي. ونحن نعرف أن خلايا الجسم تتجدد كل سبع سنوات. فإذا غيرنا طريقة تغذيتنا فإننا سنحصل بعد سبع سنوات على جسم مادي جديد قابل لتلقي اهتزازات أكثر شفافية. ذلك أن الطعام الذي نتناوله يتصف، ككل ما في الوجود، بخاصية اهتزازية: فبعض الأطعمة تسبب الخمول أو تثير الإنسان حسيًا؛ وبعضها الآخر يعيد التناغم للجسم الجرمي. ولذلك يجب أن نعرف نوعية الطعام الذي نتناوله لكي نحفظ للجسم حيويته واهتزازه الشفاف.

الجسم الجرمي مركبة إلهية؛ ولكي يستطيع التجاوب مع الاهتزازات الإلهية ينبغي أن يصبح حساسًا وأن يتمتع بشفافية عالية. ونحن نعرف أن مركز الإرهاف الحسي هو في الجهاز العصبي، وعلى الأخص في الدماغ. ولكي نصل إلى هذه الغاية، أي تأهيل الدماغ ليستطيع نقل المعارف من مستويات أكثر شفافية، يجب أن نجعله حساسًا ومرهفًا. وهذا يتم بواسطة التأمل والتركيز العقلي واليوغا والصلاة الباطنية الصامتة. فهدف التأمل هو تلقي الطاقة من مستويات عليا، وليس مغادرة المستوى المادي إلى مستويات أعلى! لنتخيل وجود محطة إذاعية عالمية ترسل برامجها، ونحن نملك جهاز راديو صغير. فعندما نوجه إبرة الراديو على الموجة 60، مثلاً، نحصل على إذاعة عمان، وبتغيير الموجة إلى 80، مثلاً، نحصل على إذاعة لندن، وهكذا دواليك. ولكن عندما نقوم بتدوير الإبرة عشوائيًا فإننا لا نحصل إلا على التشويش والأصوات المزعجة.

الأمر نفسه يحدث لنا: فلنتخيل، بدلاً من المحطة الإذاعية العالمية، وجود عقل كوني يبث المحبة والتعاليم الروحية، ولنشبِّه دماغنا بجهاز الراديو. وبطبيعة الحال فإننا لن نستلم أية “رسالة” من هذا العقل الكوني لأن الإبرة الموجودة في دماغنا مشغولة بالهموم المادية والجنسية والبغضاء؛ ولذلك فهي تتحرك عشوائيًا. ولكننا إذا بدأنا بالصلاة والتأمل والتركيز فإن الإبرة تتركز على نفس الموجة التي يبث عليها العقل الكوني محبته وتعاليمه؛ وعندئذ نبدأ بإدراك ما يريده الخالق منا، ونبدأ باستلام “الرسائل” منه. بمعنى آخر، يجب علينا أن ننقل مركز وعينا من الشخصية إلى الفردية. فهناك ثلاث حالات للوعي:

1. حالة الوعي الشخصي، المرتبط بالشخصية؛

2. حالة الوعي الروحي، المرتبط بالفردية؛

3. حالة الوعي الإلهي، المرتبط بآتما Atma نفسه.

وللسيطرة على الجسم الجرمي ينبغي علينا نقل مركز الوعي من الشخصية إلى الفردية، أي من مستوى الوعي الشخصي إلى مستوى الوعي الروحي.

الجسم النجمي: كما ذكرنا سابقًا فإن الإنسان ينطوي على سبع مركبات:

1. الجسم الفيزيقي physical: الجسم المادي.

2. الجسم الأثيري etheric: البرانا prana، طاقة الحياة.

3. الجسم النوراني astral.

4. الجسم العقلي الأدنى lower Manas: الجسم الرغائبي.

5. الجسم العقلي الأعلى higher Manas: الجسم العقلي.

6. الجسم البودهي Buddhi: الجسم الإشراقي.

7. الجسم الآتمي Atma: الآتما أو الروح.

الجسم العقلي الأعلى يدعى أحيانًا باسم الجسم السببي أو العِلِّي Causal body؛ ولكن ليست الأسماء هي الأهم، لأن هذه الأجسام السباعية ليست في الحقيقة متوضعة فوق بعضها البعض، بل هي متداخلة فيما بينها، يتخلل كل منها الآخر ويؤثر فيه ويتأثر به. ولذلك فإن كل تطهير لأحد الأجسام ينجم عنه تطهير للأجسام الباقية. وكما رأينا آلية عمل الجسم المادي، سندرس الآن الجسم النجمي:

الذات العليا، أو الفردية، لكي تعمل على المستويات الدنيا للتجلِّي، تستعمل الآليات التالية: الجسم المادي للفعل، النجمي للإحساس، والجسم الرغائبي (أي العقلي الأدنى) للتفكير. فالروحي لا يبدأ وراء المادي، بل يبدأ ما وراء الشخصية، أي بعد ما يُعتبَر الذات؛ ويجب عدم الخلط بين جسم شفاف (كالجسم النجمي) وبين جسم روحي (كالجسم العقلي أو الإشراقي). ومع ذلك، فإن العالم المادي والأثيري والنوراني عوالم مؤقتة وغير أبدية، مقارنة بالعوالم الروحية التي بدورها، عاجلاً أم آجلاً، ستزول عندما يهبط ليل براهما.

إذًا العالم النوراني هو أيضًا، مثل العالم المادي، عبارة عن تجلٍّ مؤقت؛ ولكنه مع ذلك، حقيقي ما دام يعبِّر عن الحقيقة الواحدة. والجسم النوراني، نظير الجسم المادي، متوقف أيضًا، في قدرته الاهتزازية للعمل وفي تركيبته الذرية، على التجسُّدات السابقة؛ وكونه قد تشكل من اهتزازات أكثر شفافية من اهتزازات الجسم المادي لا يعني أن له امتيازات روحية أو قيمة أخلاقية تتجاوز الجسم المادي. وعمله ليس أكثر سموًا من عمل الجسم المادي. وفي المحصلة، فإن الجسم النوراني والعقلي ليسا إلا أدوات مؤقتة ويخضعان أيضًا لقوانين محددة. وعدم رؤيتهما لا تعني أنهما عالمان غير منظمين. فالعالم المتجلِّي في كلِّيته هو Cosmos، أي “نظام شمسي”؛ أي هو عكس الخواء والفراغ Chaos. والقوانين التي تسيِّر العالمين النوراني والعقلي ثابتة ومنظمة بفطنة ووعي كونيين. وكما أن كل فعل له نتيجة أو رد فعل في العالم المادي، كذلك كل انفعال أو عاطفة أو إحساس له نتائجه في العالم النوراني، وكل فكرة لها نتيجة في العالم العقلي. إذًا قانون السببية، قانون السبب والنتيجة، يفعل بدقة على المستويات المادية والنورانية والعقلية. ولذلك ينبغي علينا ألا نقيم سُلََّمًا تدريجيًا من القيم، وبالتالي نعطي أهمية أكبر أو أفضلية أولية للنوراني على المادي، أو للعقلي على النوراني. ولكن بالنسبة للحكيم، أي الإنسان المتحرر من القيود والإشراطات، الذي أسَّس وعيه على المستوى الروحي، أي ما وراء الشخصية، نستطيع القول عنه إن مركباته الثلاث (الجسم المادي والنوراني والعقلي) لها الأهمية نفسها بدون تمييز.

وكما أن الجسم المادي قد تشكل من نسيج ذرات العالم المادي، كذلك الجسم النوراني تشكل من ذرات العالم النوراني ونسيجه. وحيث أن “النسيج” النوراني أو العالم النوراني يحوي سبع مستويات نورانية تحتية (ككل الأجسام)، بدءًا من المستويات النورانية الكثيفة إلى المستويات النورانية الشفافة، فإن قانون كارما هو الذي يحدد تركيبة الجسم النوراني في بدايات التهيؤ لتجسد أو تقمص جديد.

“كل كينونة إنسانية تحفظ، من حياة إلى حياة، مجموعة من الذرات الدائمة، واحدة لكل مستوى”. إذًا الذرة الدائمة للنوراني ستكون اللاقط لجوهر التجارب العاطفية للأعمار السابقة، وهي التي تشكل النواة التي يتشكل حولها الجسم النوراني الجديد وخصائص النسيج المأخوذ من العالم النوراني لصنع جسم نوراني جديد، محدد بالاهتزازات العاطفية والنفسية للتجسُّد السابق. وشكل الجسم النوراني شبيه بعض الشيء بشكل الجسم المادي، ولكنه أقل صلابة، نظرًا لشفافية النسيج النوراني الذي منه يتشكل الجسم النوراني. ولونه يختلف ليس فقط بين شخص وآخر، بل أيضًا لدى الشخص نفسه في لحظات متباينة من حياته وتلوُّن أمزجته، لأن الألوان تعكس تلقائيًا نوعية اهتزازات الجسم النوراني تبعًا للانفعالات والعواطف التي يعبِّر عنها الإنسان في علاقاته بالآخرين، من فرح وحزن وغضب، إلى ما هنالك من الانفعالات والعواطف الإنسانية.

“نسيج الجسم النوراني هو أكثر شبهًا بنسيج الجسم العقلي الأدنى منه بنسيج الجسم المادي، لأن الجسم النوراني هو صلة الوصل بين الجسم المادي والجسم العقلي الأدنى؛ ولذلك يتعرض للتأثيرات والاهتزازات من كليهما”. ففي شكله هو شبيه بالشكل المادي، لأن الجسم العقلي الأدنى بيضوي الشكل. أما من حيث وظيفته فهو قريب من وظيفة الجسم العقلي الأدنى، ولهذا السبب فهو أحيانًا صعب الانحلال والتفكك بعد الموت. ودراستنا للجسم النوراني تقتصر على وظيفته أثناء اليقظة فقط، وليس على الدور الذي يقوم به أثناء النوم أو بعد موت الجسم المادي. ولا يعود ذلك إلى عدم أهمية عمله أثناء النوم أو بعد الموت، بل إن السبب يعود إلى استحالة التغيير أو التحول للجسم النوراني إلا في حالة اليقظة، حيث بالإمكان تطويره وجعله أطهر وأوعى بطرق إرادية. أي أن العمل على تنقية الجسم النوراني أثناء اليقظة هو بهدف جعله أكثر قابلية للعمل أثناء النوم، وليس العكس؛ واستمرار حياته بعد موت الجسم المادي ليس إلا تكملة واستمرارًا لحياة الجسم المادي أثناء الحياة. فالجسم النوراني والعقلي الأدنى قد تشكلا من أجل مدة تجسد أو تقمص واحدة، أي في الحياة فقط، وحياتهما ما بعد موت الجسم المادي ليست إلا “ذيول” التجسد الأرضي، وإن استمرا مئات السنين في “حياتهما” بعد الموت (موت الجسم المادي). إذًا سندرس الجسم النوراني من منظارين:

1. في علاقته مع الجسم المادي والجسم العقلي الأدنى؛

2. وفي كونه مركبة لعواطفنا ورغباتنا وأداة لها.

ما هي إذن، وظائف الجسم النوراني في حياتنا؟ الجسم النوراني هو الذي يحوِّل الاهتزازات الآتية من المستوى المادي، بواسطة الحواس، إلى أحاسيس ومشاعر. فهذه الاهتزازات تنتقل إلى الدماغ المادي عن طريق الجهاز العصبي؛ ومن الدماغ المادي تنعكس على الدماغ الأثيري، ومنه إلى مراكز الجسم النوراني المطابقة لمراكز الدماغ، حيث تظهر على شكل أحاسيس. وبعد ذلك يقدِّر فيما إذا كانت هذه الأحاسيس ممتعة ومستحبة أو غير مستحبة؛ يحولها إلى مشاعر وعواطف. وأخيرًا يتمنى الجسم النوراني، تحت تأثير العقل، أو بالأحرى تحت تأثير الذاكرة، تكرار هذه الأحاسيس المستحبة وعدم تكرار الأحاسيس غير المستحبة. وبسبب “ولادة” هذه الرغبة، يكون من الصعب فصل الجسم النوراني عن الجسم العقلي الأدنى. ولكننا سندرسهما كلاً على حدة، على شرط أن نرسخ في فكرنا أن التشكيلات الأربعة للشخصية (المادي، الأثيري، النوراني، العقلي الأدنى) يؤثر كل منها في الآخر باستمرار.

بعد أن عرفنا دور الجسم النوراني، سندخل في الجزء الأهم، ألا وهو السيطرة على هذا الجسم وكيفية تطهيره وتنقيته ليصبح أكثر فعالية في حياتنا اليومية.

رأينا، لدى دراستنا للجسم المادي، إلى أية درجة نتماهى مع هذا الجسم ونطابق بينه وبين هويتنا الحقيقية. وقد أدركنا ضرورة تصحيح نظرتنا إلى نظرة جديدة عند اكتشافنا أن الجسم المادي ليس “نحن”، أو الذات الإلهية فينا، بل غلاف خارجي، لا أكثر ولا أقل، يعمل على مستوياته بحسب الوظيفة المحددة له. كذلك في دراستنا للجسم النوراني، سندرك أننا لسنا هذا الجسم النوراني، ولا ينبغي علينا، بالتالي، التماهي معه ومعاملته وكأنه “الذات الإلهية” فينا.

وبالفعل فإن المجتمع الإنساني يهتم بالثقافة المادية والفكرية، وإن كان بطريقة مثالية؛ ولكنهما تبقيان في دائرة اهتمامه القصوى؛ ونادرًا ما نجد ذاك الإنسان الذي يتكلم عن الثقافة “العاطفية” وعن التربية على المستوى “العاطفي”. ولهذا السبب نتماهى كليًا مع عواطفنا ومشاعرنا. ونحن لم نتعلم بعد أن نخطو خطوة إلى الوراء وننظر إلى الجسم النوراني من حيث كونه أداة خارجية عنا، لا أكثر. وتعود الصعوبة في إدراك هذه الحقيقة في أننا لا نرى إلا السطح الخارجي الظاهر لـ”جبل الجليد”، في حين يظل الجزء الآخر (الأضخم بكثير) من الجبل في اللاوعي، في محيط اللاوعي. اللاوعي، “هو الملجأ لكل ما هو مرفوض أو غير مرغوب”. وبالفعل، لا داعي لصرف وقت طويل لندرك بأننا نقضي معظم حياتنا في الرفض: رفض الأحاسيس غير المستحبة، رفض الألم، رفض ما ندعوه بالهفوات والأخطاء، رفض كل ما نعتبره سلبيًا، إلخ. كل هذا يغذي لاوعينا، وبالتالي يُبقي الجسم النوراني مجهولاً بالنسبة إلينا، بحيث تزداد الصعوبة في السيطرة عليه لجعله أكثر نقاوة وشفافية.

الوظيفة الأولى للجسم النوراني – هي تحويل الاهتزازات إلى أحاسيس – تحدث تلقائيًا بدون تدخل العقل؛ فالجسم النوراني لا يسبب مشكلات في وظيفته هذه. المشكلات تبدأ مع وظيفته الثانية التي تبدأ بتصنيف الأحاسيس إلى ملذوذة وغير ملذوذة، أي يبدأ بـ”الحكم” عليها. وفي وظيفته الثالثة، يضيف إلى هذا الحكم الرغبة في استرجاع الأحاسيس الملذوذة ونبذ الأحاسيس غير الملذوذة. فالمشاكل تبدأ إذًا مع التقويمات العقلية الثنوية: ملذوذ/غير ملذوذ، إيجابي/سلبي، فضيلة/رذيلة، التي هي أساس كل التعارضات والتناقضات التي يجب الخلاص منها لنتحرر من سيطرة الرغبات وإنهاء نزاع العواطف والمشاعر التي تتصارع في داخلنا.

يوجد في الكون قانون يدعى “قانون التعويض”، أو قانون التوازن، الذي يعمل على جميع المستويات بدون استثناء. فالمطلق، اللامتجلِّي، يتراءى لنا ككلِّية ساكنة. وما إن يبدأ التجلِّي حتى تبدأ الحركة؛ ولكنها حركة منظمة، متوازنة ومتناغمة ندعوها بـ”الإيقاع الكوني”. ويُعبِّر هذا الإيقاع عن نفسه بقانون التعويض أو التوازن أو إعادة التوازن في الكون كلِّه إلى نصابه.

الطريقة المثلى لفهم القوانين التي تتجاوز مداركنا الفكرية هي أن نقيم مقارنات أو مقايسات مع قوانين معروفة على المستوى المادي، استنادًا إلى الحكمة “كما في الأعلى كذلك في الأدنى”؛ وبهذا نستطيع أن نأخذ فكرة صغيرة عن القوانين التي تنظم عمل الكون بأكمله وتسيِِّره. بالإمكان ملاحظة انعكاس “الإيقاع الكوني” على المستوى المادي في حركة البندول في الساعة. فالكل يعلم أنه كلما ازداد ابتعاد البندول عن الخط الشاقولي نحو اليمين ازداد ابتعاده نحو اليسار في حركة معاكسة لإعادة التوازن؛ والعكس صحيح. ومن هذا المنظار نستطيع أن نتخيل قانون التوازن أو قانون التعويض الذي يعمل على كل مستويات الكون المتجلِّي. فظاهرة التجلِّي إذًا شبيهة بالإخلال بهذا التوازن؛ وبالتالي فإن قانون التعويض هو البحث عن التوازن المفقود وإعادته إلى نصابه.

من البديهي أننا سرعان ما نشاهد هذا القانون في عمله بالطبيعة، مثل تعاقب الفصول الأربعة، وتبدل الأيام والليالي. وإذا تراءى لنا أن ذلك غير واضح في مجالات أخرى فإن ذلك يعود إلى أن رؤيتنا محددة بفعل “الزمن”.

إننا بالتأكيد قد مررنا، على مستوى المشاعر، بفترة زمنية من الحماس والإثارة، أعقبتها، بعد حين يطول أو يقصر، فترة زمنية من الضغط النفسي. وكلما كانت فترة الحماس والفرح طويلة كانت فترة الحزن والتعاسة النفسية أكثر شدة وعمقًا. وإذا مررنا – استثنائيًا – بحياة كلها سعادة فلنتيقن من أننا سنمر بفترة طويلة من التعاسة في تقمص أو عمر جديد. ولكن، في أغلب الأحيان، لن نضطر للانتظار إلى الحياة القادمة لكي يبدأ التوازن بالعودة إلى نصابه. ونحن نلاحظ ذلك فينا وحولنا يوميًا.

ولكن نتساءل: إذا كان هذا القانون محتومًا ولا مفرَّ منه، فهل نستنتج من ذلك أننا سنبقى على الدوام متقلِّبين من جهة إلى جهة، من الملذوذ إلى غير الملذوذ، من الفرح إلى الحزن، من السعادة إلى التعاسة؟ بالطبع لا. ومع ذلك فهو قانون حتمي. وبدراسة أكثر، سنفهم كيف لن نبقى ألعوبة بين يديه.

لنتخيل وجود “إنسان” معلق على الطرف الأدنى للبندول. فهو بالطبع معلق بحركته القصوى، ويشعر بهذه الحركة في اتساعها وسرعتها. وإذا نجح هذا الإنسان في الصعود إلى قمة البندول فإن تأرجحه يمنة ويسرة مع حركة البندول الاهتزازية سوف تصير أقصر مطالاً وأقل سرعة. فاتساع مطال البندول وسرعته سوف يتناقصان بالنسبة للإنسان بشكل اطرادي مع صعوده؛ فكلما صعد نقصت السرعة والمطال للبندول من اليمين ومن اليسار؛ حتى إذا استطاع الوصول إلى نقطة تثبيت البندول فإنه سيصبح ثابتًا رغم أن حركة البندول تبقى مستمرة.

حياتنا العاطفية شبيهة بحركة البندول، والإنسان الذي يتماهى مع الجسم النوراني يشبه الإنسان المعلق في الطرف الأدنى للبندول؛ إنه يصبح كاللعبة بين يدي القانون، قانون التعويض أو التوازن. والصعود إلى قمة البندول هي بداية محاولة خطو خطوة إلى الوراء والنظر إلى الجسم النوراني بموضوعية ومعرفة حقيقة كونه مغايرًا للذات الحقيقية في الداخل. إنه الوعي الذي يصعد للقمة، وليس الجسم النوراني. فالحركة لا تزال موجودة، والمشاعر هي ذاتها، الملذوذة وغير الملذوذة، لا نحذف منها شيئًا؛ ولكن الوعي الذي يأخذ خطوة إلى الوراء في علاقته مع المشاعر والأحاسيس ويبدأ في القبول بها في تقلُّباتها ويبدأ بفهمها.

الحكيم هو ذاك الإنسان الذي استطاع أن ينقل مركز وعيه إلى نقطة تثبيت البندول والإقامة هناك. فبالنسبة له، نظير كل الكائنات المتجسدة، يدرك أن المشاعر لا تزال موجودة، ولكنها لم تعد تؤثر فيه أو تسبب له الاضطراب. ولكن يجب فهم هذا فهمًا جيدًا، لأن كثير من الناس يعتقدون أن الدواء والعلاج من هذه التقلبات (فرح/حزن، إيجاب/سلب، إلخ) يكون بإبطاء حركة البندول، فيعتقدون أنه مادام الفرح يعقبه الحزن فإن عدم فرحي لن يعقبه حزن! للأسف، هذا النوع من التفكير يعني الانغلاق عن الحياة؛ وبالتالي سيؤدي إلى تباطؤ التطور الإنساني. فالمشكلة لا تكمن في المشاعر بل في التماهي معها.

إذا استطعنا الاحتفاظ في تفكيرنا بصورة البندول في حركته الاهتزازية، عندئذٍ نستطيع القبول بالجانب غير الملذوذ من المشاعر. وحيث يوجد القبول لا نعود نحس بالألم بنفس الطريقة السابقة؛ وربما لن نعود نشعر بالألم بالمعنى الذي نفهمه، ونستطيع، بالتالي، أن نعيش مشاعرنا وأحاسيسنا كوقائع، أي بانتفاء أي “حكم” عليها، ومعاينة التناقض “فنحن ألعوبة لما نرفض وعتقاء ما نقبل”. ولذلك يجب أن ندرك جيدًا أنه إذا أردنا أن ننقي جسمنا النوراني يجب علينا استخدامه. فبالعمل مع الأداة نستطيع أن نحسنها للأفضل. والامتناع عن بعض المشاعر يعني بتر جزء من الجسم النوراني. فالادعاء الدائم بـ”السيطرة على الذات” ليس في حقيقته إلا رفضًا يؤدي إلى الإصابة بانعدام الحس الذي يسبب للجسم النوراني الشلل.

لننتقل إلى شكل آخر من الثنائية، ثنائية المحاسن والمثالب، الفضائل والرذائل؛ فهي عظيمة الأهمية لدراسة الجسم النوراني، لأن أخطاءنا وعيوبنا جزء من نفسنا، وهذا الجزء هو الذي نرفضه لأنه لا يعجبنا. ومع ذلك، يجب أن ندرك أن ذلك هو أيضًا ثنائي من المتعارضات الملازمة للتجلِّي، وأن الواحد منهما لا يكون موجودًا بدون الآخر، وأن الأول متضمن بالكمون في الثاني. فعلى مستوى الشخصية، الثنائية موجودة دائمًا (محاسن/مثالب، فضائل/رذائل، إلخ). قد يبدو ذلك لنا مثبطًا للعزيمة؛ ولكن ليس بنفي “الواقع” نستطيع أن ندركه. فلنقبل إذًا “الوقائع” كما هي، ونلاحظ ماذا يحدث، ولنحاول أن نستخرج منها العِبَرَ والنتائج العملية.

التطور يعني تغيير وجهة النظر، أي المزيد من الإدراك والمزيد من الانفتاح. فصيرورة الإدراك تكون دائمًا مرتبطة بالموضوع المطروح. ولكي نحصل على إدراك جديد مغاير يجب أن “نموت” عن إدراكنا السابق، أي لا نتشبث بأفكارنا وبنظرتنا إلى الثنائية الظاهرية التي صنعناها بأنفسنا بسبب جهلنا للقوانين الكونية.

فلنأخذ كلمة “فضيلة” التي نستعملها في مفرداتنا لتسمية حالات مختلفة. فاستعمالها بصيغة الجمع – “الفضائل” – تعني مزايا، لها نقيض: الرذائل. واستخدامها بصيغة المفرد – “الفضيلة” – تعني ميزة سابقة موجودة فوق تناقضات (فضائل/رذائل)، بمعنى أنها قابلة لفهم هذه التناقضات في تداخلها المحتوم. ففضائلنا ليست، في أغلب الأحيان، سوى تعارضات وردود أفعال يحرِّضها قانون التعويض لما نسميه الرذائل. وإذا بقينا نمتلك هذه الفضائل وبدأنا بالتماهي معها فإننا نبقى للأسف مرتبطين بعالم التناقضات. ولهذا السبب فإن فضائلنا يمكن أن تصير، نظيرة رذائلنا، عوائق لتطورنا، لأن هذا التطور هو العودة إلى الوحدة، وكل ما يعارضها يجب العمل على إزالته من الحياة الباطنية.

يمكننا أيضًا دراسة هذا الموضوع من وجهة نظر مختلفة، وجهة نظر ثنائية الانجذاب/النفور على مستوى أحاسيسنا، ورؤية ما ندعوه بـ”الحب” لنلاحظ ما يحدث لنا. يوجد أشخاص نحبهم وأشخاص لا نحبهم؛ بل توجد في الشخص نفسه خصائص نحبها وخصائص أخرى نكرهها؛ وحتى في أنفسنا يحدث ذلك. بعبارة أخرى، الحب بالنسبة لنا يُعاش في مضمار التعارضات الثنائية (الحب والكراهية).

طبعًا يوجد نوع آخر من الحب الذي ليس له ضدٌّ يعاكسه، ألا وهو “المحبة” التي يجب علينا أن نعيها في جسمنا النوراني، والتي تتضمن “الكل”؛ بمعنى أنها تقبل كل شيء دون “أحكام” مسبقة، وتحب أيضًا وجهي التجلِّي أو ثنائيته دون رفض أحد الحدين في سبيل الآخر: “إذا رأيتني في الضدِّين رؤية واحدة فقد اصطفيتك لنفسي”.

لماذا لا نكون أبدًا في سلام مع أنفسنا؟ لأننا عندما نكون في الجانب السلبي وغير الممتع فإننا نرفضه، وعندما نكون في الجانب الإيجابي والممتع، فإن الخوف يتملََّكنا بأن لا نبقى هكذا دائمًا (كالغني الذي يتملََّكه الخوف من أن يصير يومًا ما في الجانب الآخر، في الفقر والعوز).

سلام المشاعر يأتي عندما نجعل من الثنائية المتعارضة (فقر/غنى، إيجاب/سلب، فضيلة/رذيلة) متضمنة في الوحدة الكلِّية، معاشة ومتناغمة، لكي يصبح جسمنا النوراني أداة فعالة، ليس فقط في الاتصال مع الحياة، بل أيضًا في الاتحاد مع كل أوْجُه الحياة المتجلِّية.

هذا القبول لمشاعرنا وعواطفنا، مهما كانت، يسمح لما كان مختفيًا في اللاوعي بأن يصبح تدريجيًا موعيًا؛ حيث لن تعود هناك حواجز من أحكام أخلاقية أو معنوية نضفيها على تعارضات وهمية في جوهرها. وبذلك نبدأ بالتعرف، أكثر فأكثر، على الجسم النوراني. وعندما لا يعود هناك “رفض” لن تعود هناك، بالتالي، “رغبات”. فالقبول بالمشاعر، بدون تمييز، يسمح لنا بالتحرر من سطوة الرغبات. فالرغبة ليست إلا اختيارًا للأحاسيس التي نتمنى أن نحس بها أو لا نراها تتكرر من جديد.

وكما أننا لا نستطيع إزالة عيب ما من عيوبنا بكبته، كذلك لا نستطيع التحرر من سيطرة الرغبات أو الشهوات بكبتها في داخلنا، والإيحاء لأنفسنا بأنها غير موجودة. والمبتدئ الذي يسير على الطريق الروحي ينبغي عليه ألا يعتقد سريعًا أنه صار “حكيم زمانه”، وإلا خاطر بكبت عيوبه والإيحاء لنفسه بأنه بدون عيوب وأنه قد حقق الانعتاق من الرغبات والشهوات. نحن لا نكذب على أنفسنا. فإذا فهمنا بشكل واضح صيرورة الرغبة المرتبطة بثنائية الملذوذ وغير الملذوذ، الانجذاب والنفور، فإنه يمكن لنا رؤية جسمنا النوراني ببساطة على مستوى الرغبات والقبول بها. ولكن قبول الواقع بأنه توجد رغبة في داخلنا لا يعني إرضاءها وإشباعها. فعندما نُشبِع رغبة ما، مع احتفاظنا بالإحساس بالذنب، مهما كان خفيفًا (وهذه هي الحالة التي نمر بها عمومًا) فنحن فعليًا لا نقبل بوجود هذه الرغبة، وبهذه الطريقة نساعد على تغذية هذه الرغبة وتنميتها بدلاً من كبحها. وبالعكس، عندما نقبل بوجودها في رؤية واعية فحظنا كبير في أن تفقد هذه الرغبة سيطرتها علينا؛ وعندئذٍ يتبخر كل انجذاب بدون حاجة إلى إرضائه. فإذا كنا حقًا صادقين وأمناء مع أنفسنا، فإن الرغبات تختفي تدريجيًا، وتحلُّ محلََّها التطلعات الروحية الكامنة في أعماقنا التي هي المحرك والدافع في بحثنا الروحي؛ بينما الرغبات المكبوتة، أو التي لا نود رؤيتها في وضح النهار على حقيقتها ونعالجها، تصير عقبة لنا على الدرب الروحي.

توجد في أعماق كل منا تطلعات وأمانٍ روحية سامية؛ ولكن توجد أيضًا رغبات متناقضة مع هذه التطلعات الروحية؛ وعلينا رؤيتها بوضوح لكي نصل إلى الحقيقة السامية. ويكون ذلك بامتلاك الشجاعة على رؤيتها وجهًا لوجه في أعماق الشخصية، ورؤية الجسم النوراني في كل تعقيداته. وكما أن الرغبة المعبَّر عنها في وضح النهار، بدون مواربة، لا تعود رغبة، كذلك الشعور الذي ندركه إدراكًا واعيًا لا يعود شعورًا أو عاطفة بالمعنى المتعارف عليه؛ أي لن يعود إلى إثارة الاضطراب أو ردود الفعل في داخلنا، بل يتركه في سلام وصفاء وهدوء، وكأن الأمر لا يعنينا في شيء. هذا الصفاء هو التعبير الواضح عن الشفافية والحساسية المرهفة – وهي حساسية كلية لأنها لاشخصية. وبالتالي، فإن هذا الصفاء يصبح تعبيرًا عن الغبطة، غبطة الذات العليا التي هي ذاتنا الحقة، غير المخلوقة وغير المجعولة لأنها “كائنة” منذ الأبد، ولكنها كانت كامنة بسبب العواصف العاطفية والانفعالية لجسم نوراني غير مسيطر عليه، لكنه يبدأ باليقظة عندما يصبح متناغمًا وشفافًا. فالشعور هو إذًا الجواب على الاهتزازات القادمة من مستويات شفافة، وهو التعبير المتجلِّي للألوهة بواسطة الشخصية.

إذًا وظيفة الجسم النوراني هي، قبل كل شيء، السماح لنا بالاتصال مع مستوى الأحاسيس والمشاعر، ومن خلال صيرورة تطورنا بعد الخلاص من الرغبات، السماح لنا بالاتحاد والتوافق الكامل مع هذا المستوى، أي التناغم معه. وأخيرًا، وبعد تحقيق تلك الوظيفتين، نستطيع نقل الاهتزازات القادمة من مستويات عليا، وخاصة من المستوى الإشراقي إلى الدماغ، حيث إن الجسم النوراني هو انعكاس للمستوى الإشراقي.

وأخيرًا يبدو أنه من الضروري الإشارة للقارئ بأننا لم نطرح في دراستنا هنا موضوع الاتصالات التي نستطيع القيام بها مع العالم النوراني من خلال الرؤى والوساطة الروحية، أو من خلال بعض الظواهر من النوع ذاته. ولكننا نكتفي بالتساؤل: ما قيمة “الرؤيا” التي تتحقق في العالم النوراني للإنسان غير المتحرر، أي الذي لم يحقق ذاته؟!

إن هذا الإنسان، في الواقع، يرى العالم النوراني من خلال الجسم النوراني الخاص به. وبما أننا عرفنا كم يكون جسمه مضطربًا ومنفعلاً فمن الطبيعي أنه سيرى هذا العالم على غير حقيقته. وحده الإنسان المتحرر يستطيع امتلاك رؤية روحية وموضوعية، لأن جسمه النوراني يكون شفافًا، وبالتالي لا يسبب أي تشوُّه في إدراكاته وفي رؤيته الروحية.

لهذا السبب فإن عملنا الأول يقوم على تنقية الجسم النوراني. وما دام هذا العمل لم يكتمل فإن الاتصالات التي نحققها مع العالم النوراني، أيًّا كانت وسيلتها، لن تجلب لنا سوى صورة مشوهة لهذا المستوى النوراني، مسببة لنا “تراجعًا” روحيًا، بدلاً من مساعدتنا على التقدم على الدرب الإلهي.

وكما أن تنقية الجسم المادي والسيطرة عليه ليستا بهدف جعله أكثر قوة أو جمالاً، بل لجعله أداة شفافة للخدمة في هذا العالم، كذلك ليس هدفنا من تنقية الجسم النوراني هو الظهور بأننا مثال للآخرين وعنوان للفضيلة الظاهرية، بل جعله شفافًا ليعبِِّر الإلهُ عن نفسه من خلاله. وهذا يفوق كل الصفات الأخلاقية التي نتخيلها.

الجسم العقلي الأدنى أو الرغائبي: نبدأ دراسة الجسم الرابع من الأجسام التي تؤلف الشخصية وهي: الجسم المادي، الجسم الأثيري، الجسم النوراني، والجسم العقلي الأدنى أو الرغائبي. ولكن لماذا نقول “أدنى”؟ تذكرون أنه توجد نقطة اتصال بين الشخصية والفردية على المستوى العقلي. وفي نسيج هذا المستوى يتشكل للشعلة الإلهية غلافان متميزان، وهما الجسمان العقليان: الأول ندعوه الجسم العقلي الأدنى، وهو مؤلف من المستويات الأربعة التحتية للمستوى العقلي؛ والثاني يدعى بالجسم العقلي الأعلى أو الجسم العلي causal body، وهو مؤلف من المستويات الثلاثة التحتية للمستوى العقلي أيضًا. وهذان الجسمان مختلفان تمامًا ومتمايزان. فالجسم العقلي الأدنى مرتبط بالجسم النوراني لأن كليهما مركبة أو “أنية” للوعي الشخصي؛ أما الجسم العقلي الأعلى فهو أحد المركبات أو الأجسام التي تعبِّر عن حالة الوعي الفردي. إذًا الجسم الذي يربط بين الشخصية والفردية يوجد على المستوى العقلي – ومن هنا أهمية هذه الدراسة.

إن مختلف الأجسام في الإنسان تتطور وتنتظم تدريجيًا بمقدار تطور الإنسانية، وإن لكل ذرية بشرية أم Mother-race عمل خاص للإنجاز. وعمل الذرية البشرية الأم الخامسة (هي الذرية البشرية الحالية التي ننتمي إليها) يتضمن تطوير الجسم العقلي الأدنى تحديدًا. وهذا التطور لم يكتمل بعد في الإنسانية ككل، أو على الأقل بشكل غير متكافئ بين أفراد البشرية. وهذا ما يفسر الاختلافات في درجة الإدراك والفهم بين الكائنات الإنسانية، بين إنسان وإنسان. وعمليًا، جميع مشاكلنا تعود في جذورها إلى الجسم العقلي الأدنى. فشكله البيضاوي مصنوع، كما قلنا، من المستويات الأربعة التحتية الدنيا للمستوى العقلي؛ وتركيبته الذرية أو الاهتزازية أقل أو أكثر شفافية، وتتحدد في أثناء الولادة، نظيرة تركيبة الجسم النوراني، بواسطة الاهتزازات المتضمنة في الذرة العقلية الدائمة التي احتفظت بجوهر الخبرات العقلية للتجسد السابق.

أما فيما يخص النسيج الذي صُنِعَ منه الجسم العقلي الأدنى فنقول عنه ما كان يجب أن نقوله في أثناء حديثنا عن الجسم النوراني: إنه يدعى “الجوهر العنصري”. فما هو هذا الجوهر العنصري أو الذات العنصرية؟ إن الحياة التي تحيي الكائن الإنساني قد اجتازت تجارب الممالك المعدنية والنباتية والحيوانية قبل دخولها المملكة الإنسانية. فإذا أخذنا في الاعتبار أن الحياة تنزل أو تبدأ في الحلول والانتشار من المستويات الإلهية وصولاً إلى المستوى المادي، قبل عودتها إلى الصعود إلى المستويات الإلهية من جديد، ندرك أن المملكة المعدنية توجد على النقطة الأخفض على القوس المنحني والأكثر بعدًا عن الألوهة. إذًا ماذا يحدث للحياة على الجزء الهابط من القوس المنحني، أي ما قبل المرحلة المعدنية؟

إن دفقًا من الحياة الإلهية، أو انبثاقًا من الروح الإلهية، أو موجة حياة تبدأ بالحلول والتوضع على نسيج الكون أو النظام الشمسي. ونحن لا نستطيع تخيل ما حدث على المستوى النيرفاني Nirvanic أو على المستوى الإشراقي Buddhic؛ ولكن موجة الحياة، عندما تصل إلى المستوى العقلي، أو الجوهر العنصري. موجة الحياة هذه تجتاز من حيث إنها جوهر عنصري، المستوى العقلي الأدنى والمستوى النوراني قبل الوصول إلى المستوى المادي لإحياء المملكة المعدنية.

إن أسماء المستويات السبعة في النظام الشمسي، هي من الأعلى إلى الأسفل:

1. مستوى أدي Adi.

2. مستوى أنوباداكا Anupadaka.

3. المستوى الأتمي Atmic.

4. المستوى الإشراقي Buddhic.

5. مستوى العقل Mental.

6. المستوى النوراني Astral.

7. المستوى المادي Physical.

ولكن عند بدء حلول موجة الحياة على النظام الشمسي يطلق على المستوى الأول إسم المستوى الإلهي، وعلى المستوى الثاني اسم المستوى المونادي Monadic، وعلى المستوى الثالث اسم المستوى النيرفاني Nirvanic؛ أما المستويات الباقية فتبقى لها نفس الأسماء. إذًا لم يتغير شيء في الموضوع. إذًا هذه الحياة الهابطة تُشبِع المستويات الشمسية من جوهرها. فالتطور، بالنسبة لموجة الحياة هذه، هو النزول والهبوط. أما بالنسبة للإنسان فالتطور هو العكس تمامًا، أي الصعود. لهذا السبب نلاحظ أن في أجسامنا المختلفة مقاومة للتنقية؛ ولهذا السبب أيضًا ينبغي على الإنسان بذل طاقة جبارة للارتقاء بعكس الطاقة الغريزية التي تجذب إلى الأسفل، الموجودة في النسيج الكوني. ونذكر أيضًا أن الجوهر العنصري أكثر قوة على المستوى النوراني منه على المستوى العقلي، لأن الجوهر العنصري على المستوى النوراني يكون أكثر نموًا وتطورًا. ولهذا السبب نلاحظ أن تهدئة الأفكار أكثر سهولة من تهدئة المشاعر والعواطف، ولا يعود السبب في ذلك إلى أن المقاومة في الجسم العقلي الأدنى، منبع الأفكار، هي أقل منها في الجسم النوراني، منبع المشاعر والعواطف، وإنما هي بسبب النزعة الموجودة فيه للاضطراب والإثارة، ولكون الجوهر العنصري العقلي ضبابي الشكل وأقل تنظيمًا واستقرارًا لأنه أقل نموًا وتطورًا من الجوهر العنصري النوراني، ولهذا السبب نحتاج إلى قوة أقل، ولكن أكثر تحديدًا وانتباهًا ويقظة، لنهدئ الجسم العقلي الأدنى.

فما هي وظائف الجسم العقلي الأدنى؟ الاهتزازات القادمة من المستوى المادي، بواسطة الحواس، تتحول إلى أحاسيس ومشاعر بواسطة الجسم النوراني. وبعد ذلك، يقوم الجسم العقلي الأدنى بتحويلها إلى إدراكات حسية؛ وبمعنى آخر، يحولها إلى صور: صور بصرية أو سمعية أو شمية أو ذوقية أو لمسية.

الوظيفة الثانية للجسم العقلي الأدنى هي تجميع هذه الصور المتنوعة في صورة كلية واحدة، تسمح، بعملية تخزينها في الذاكرة، بالتالي، بتصور “الكل” من رصد “الجزء”. فعطر ما، أو صوت ما، يتيح لنا تخيل شخص ما لا نراه. إذًا في عملية تجميع الصور، الجسم العقلي الأدنى يقيم علاقة مقارنة، واستدلال، وتخيل، وتحليل، إلخ.

الوظيفة الثالثة هي في التأثير على أعضاء الحواس لتقوم هذه الحواس بردود فعل نتيجة إدراك حسي ما. فعندما تلمس يدنا شيئًا ما (نارًا لاهبة مثلاً) فإنها تنسحب للوراء نتيجة الأمر الصادر عن العقل، بالرغم من أننا لا نعي ذلك بسبب سرعة رد الفعل وصيرورة الآلية الأوتوماتيكية.

ما يلفت بالأكثر انتباهنا هو الوظيفة الثانية للعقلي الأدنى، ألا وهي إقامة علاقة استدلالية–تحليلية في عملية جمع الصور؛ وهذه العلاقة هي ما ندعوه بـ”التفكير”. ونوعية التفكير لا تتوقف على كمية الصور المجمَّعة فقط، وإنما أيضًا على المهارة في جمعها وشبكها فيما بينها. فالعقل الأدنى هو عنصر التفكير العياني الملموس الذي يُجسِّم الموضوع المعنوي في صور مرئية أو صوتية إلخ، التفكير الذي يحدد الاختلافات بين الأشياء. ولنلاحظ أن الصور العقلية تشوِّه المواضيع (أو الأشياء) والإدراكات بسبب المحدودية الملازمة لحواسنا التي تعمل وكأنها مِصفاة. فالعقل الأدنى لا يعرف المواضيع أو الأشياء الخارجية على حقيقتها، إنما يعرف فقط انعكاساتها؛ وهذه الانعكاسات تتشكل في عقلنا الذي يقذفها بدوره خارجًا عنه. فنحن نعتقد أن ما نلاحظه موجود، حسب رصدنا له، موضوعيًا. لكن ما نراه في الحقيقة، هو الصورة العقلية المعنوية، التي تشكلت في داخلنا، أي الانعكاس. فالعالم الخارجي موجود حتمًا؛ لكننا لا نراه على حقيقته، بل نرى الانعكاس الذي يتشكل في داخلنا لا أكثر.

فلنحدد الآن الاختلاف الموجود بين العقل والفكر والجسم العقلي الأدنى: في كل مستويات التجلِّي، يوجد وعي وطاقة. فعلى المستوى العقلي، الوعي هو ما ندعوه الفكر أو العقل، والطاقة هي ما ندعوه “المادة” بالمعنى الواسع للفظ، أي الجسم العقلي الأدنى؛ وعلى المستوى النوراني، الوعي هو المشاعر والعواطف والأحاسيس، والطاقة هي الجسم النوراني.

فالوعي الروحي في الشخصية يعبِّر عن نفسه بالعقل والفكر على المستوى العقلي الأدنى، ويعبِّر عن نفسه بالعواطف والمشاعر على المستوى النوراني، ويعبِّر عن نفسه بالفعل والحركة الجسمية على المستوى المادي. ففي كل مستوى يستعمل الوعي أداة مختلفة ليعبِّر عن نفسه. فحتى يعبِّر عن نفسه كفكر فإنه يستعمل الجسم العقلي الأدنى، وحتى يعبِّر عن نفسه كعواطف وأحاسيس فإنه يستعمل الجسم النوراني، إلخ. فالأداة سواء كانت الجسم العقلي الأدنى أو الجسم النوراني أو غيرهما، تقوم بتحويل تعبيرات الوعي عن نفسه وتضع لها حدودًا. ولكن بالإمكان العمل على تقليص هذه الحدود والقيود، وتجنب إظلام الوعي شيئًا فشيئًا.

إن العمل الأول للإنجاز بالنسبة للجسم المادي والنوراني هو “مَوْضَعَة” هذه الأجسام، أي جعلها موضوعية. ولجعل الشيء موضوعيًا يجب أن نخطو خطوة إلى الوراء ونراه بشكل موضوعي، أي كشيء خارج عن الذات الحقيقية للإنسان. ذلك أن الإنسان المشروط بالشخصية الذي يعتبرها وكأنها “هو” لا يستطيع أن يخطو خطوة إلى الوراء لرؤية الجسم العقلي الأدنى على حقيقته. فالإنسان في وضعه التطوري الحالي هو نفسه الجسم العقلي الأدنى، أي أنه يتماهى مع هذا الجسم؛ “أنا أفكر، إذن أنا موجود”. فعند الإنسان، الجسم العقلي الأدنى والذات والفكر هي، للأسف، واحدة.

يوجد شيء مشترك بين معنى الذات والجسم العقلي الأدنى. فالذات أو الأنا الشخصية، بواسطة تعريفها المعارض هي التعبير الواضح عن الانفصالية. فحيثما توجد الذات يوجد “الآخر”، ويوجد الآخرون. والجسم العقلي الأدنى هو مجال ومنبع هذه الانفصالية. فمعرفة “المختلف” – وهي إحدى وظائف الجسم العقلي الأدنى – تستجر التعارض بين هذه المختلفات، أي الانفصالية، ما دام الإنسان يحيا متماهيًا مع شخصيته. ومن هنا الانجذاب الشديد بين الذات والجسم العقلي الأدنى؛ إذ إن كلاً منهما يشد من أزر الآخر، وكلاً منهما يجعل الوعي سجينًا للشخصية ومتماثلاً معها؛ مما ينتج عنه تعذر تنقية الجسم العقلي الأدنى وتطهيره.

فماذا يحدث عندما نعتقد أننا سيطرنا على الجسم العقلي الأدنى؟ يحاول جزء من الجسم العقلي الأدنى السيطرة على جزء آخر من الجسم نفسه، وجزء من الذات يحاول أن يستعبد جزءًا آخر من الذات نفسها. ويمكن لنا بسهولة إدراك أن هذا العمل سيؤول إلى الفشل الذريع؛ ومع ذلك هذا ما نفعله دائمًا، بكل النوايا الصالحة في العالم، بجهود متكررة وعقيمة. وهذه الجهود تؤدي إلى جعل الذات أقسى، أي إلى توسيع مدى الانفصالية التي نعيشها مع الآخرين وإغلاق الاتصال بين الذات العليا والذات الدنيا أو الشخصية. فللقيام بالسيطرة على الجسم العقلي الأدنى ينبغي الرسوخ بالوعي في ما وراء الذات، وللرسوخ في ما وراء الذات يجب التوقف عن التواحد مع الشخصية؛ وهذا يفترض أن الجسم العقلي الأدنى قد تمت السيطرة عليه! فكيف نحل هذه المعضلة؟ فلنحاول أن نفهم عمل الجسم العقلي الأدنى وآلية الذات: إن معنى الذات، الأنا، ضروري للتطور ولكن إلى حدود معينة. إن “الذات” Ego هي ما يساعدنا على التفرد، ويمنعنا من أن نصبح إلهيين. والأمر نفسه ينطبق على الجسم العقلي الأدنى؛ فهو ليس عقبة بحدِّ ذاته، ولكن وظيفته وآليته هما اللتان تمنعاننا من أن نصبح “إلهيين”.

العقل، برصده للاختلافات، يبت في الأمور، ويقيم المفاهيم، ويسمي الأشياء والأحداث والحالات النفسية؛ وعندئذٍ يظهر التفاف من جانب العقل الأدنى عندما تأخذ الأسماء والمفاهيم أهمية أكثر في حياتنا. إذًا فنحن لا نستقبل الحياة أو نعاينها كما هي الآن، وإنما نحكم عليها من خلال مفاهيم “مصنوعة” من قبل؛ وهذا، بالتالي، نوع من التعلق بالماضي يصير عائقًا أمام التطور الروحي.

التفكير الصحيح هو الرؤية الصحيحة للأشياء. فكيف يمكننا اكتساب القدرة على تلك الرؤية الصحيحة وذلك التفكير المستقيم؟ ضرورة الانتباه لكلِّ ما نقوم به. فالانتباه يلغي تدريجيًا أضغاث الأحلام والهروب العقلي اللذين يشغلان الوقت الأطول من حياة الناس. فهذا الانتباه “اللحظي”، الحاضر دائمًا، يجب أن يسبق التركيز والتأمل؛ وكل تأمل وتركيز سيكون بدون فائدة إذا لم نحوز على الانتباه للحظة الحاضرة، لأنها الخطوة الأولى على طريق تهدئة الأفكار التي تعيق كل تركيز؛ وهذا التركيز ليس إلا القدرة على الانتباه المتنامية تدريجيًا. يوجد تركيز عندما ينتفي كل حكم مسبق و/أو إشراط، وتنتفي بالتالي، كل الأحكام المسبقة، وكل تعلق بالمفاهيم “المعلََّبة”. ويبدأ التركيز الصحيح عندما يبدأ العقل بالرصد الموضوعي، أي يكون حاضرًا كليًا “الآن”، في اللحظة الراهنة؛ أي عندما لا يعود هناك رفض أو اضطراب. وعندئذٍ يبدأ التأمل بأخذ مكانه الشرعي. فالتأمل يبدأ عندما يصمت العقل الأدنى (الذات الشخصية). إذ ذاك تبدأ الطاقات الروحية بـ”تشريب” الأجسام الدنيا، وتكتمل تنقية الجسم العقلي الأدنى بحذف الاهتزازات العقلية المتدنية والغليظة التي لا يمكن لهذه الطاقات الروحية التواجد معها. فعملية تنقية الجسم العقلي الأدنى ليست من اختصاص الشخصية، وإنما هي عمل يتم على الشخصية من دفق الطاقات الروحية.

عندما نشرع في التأمل فإننا لا نصل في الحال للسكون العقلي؛ فالمهم هو الوصول إلى غياب الرفض والاختيار والحكم. فإذا كان هناك مجهود لحذف الأفكار فإن هذا المجهود سيقوِّي مقاومتها. إذًا من الأفضل محاولة رصد هذه الأفكار دون كبحها، ودون تشجيعها أيضًا؛ أي بمعنى آخر، رصدها بطريقة حيادية. عندئذ تبدأ الأفكار تتوارد مثل صور فيلم، كصور خارج الشاشة وخارج المشاهد لها. وإذا قمنا برصد هذه الأفكار على نفس منوال رصد الصور في الفيلم فهذا يعني بداية الخطو إلى الوراء عن الجسم العقلي الأدنى، وبداية الكف عن التماهي معه. ونحن نلاحظ أن الأفكار، مثل الصور في الفيلم، ليست متتابعة. فكل منا يعتقد أن ذاته صلبة وذات استمرارية؛ ولكن هذا غير صحيح، فأفكارنا عبارة عن صور متتابعة، منفصلة تمامًا بعضها عن بعض، فكل منها منفصل عن الآخر، ولكن سرعة عرض الفيلم توحي لنا بأنها متتابعة؛ ولكن هذه الاستمرارية أو التتابع ليس إلا ظاهريًا وحسب.

وبالفعل، ما هي الفكرة؟ أو ما هي الأفكار؟ الوعي الروحي يعبِّر عن نفسه على المستوى العقلي الأدنى بواسطة الجسم العقلي الأدنى، فيظهر وكأنه عقل أو تفكير أو مجموع الأفكار. فالوعي الواحد يظهر على شكل أفكار مختلفة ومتباينة. ولتوضيح ذلك سنعطي مثالاً صغيرًا عن الأمر: النور الأبيض الذي يجتاز الموشور يتفكك إلى ألوان متعددة (الألوان السبعة). فمن جهة، لدينا النور الأبيض، ومن جهة ثانية، لدينا تفرعات ملونة، ألوان مختلفة كانت موجودة كامنةً في النور الأبيض. هذه الألوان هي، إذن، انبثاقات من النور الأبيض. ويمكننا مقارنة الوعي النقي الروحي بالنور الأبيض، والجسم العقلي الأدنى بالموشور والألوان المختلفة الناتجة عنه. فعالم الأفكار هو عالم التفرعات، وعالم الوعي النقي هو عالم الوحدة. فإذا كان بالإمكان للوعي أن يصير عقلاً فإننا نستطيع تخيل حركة معكوسة ارتدادية، تعيد للعقل قدرته على أن يصبح وعيًا نقيًا غير متعيِن، أي غير مجزأ. بمعنى آخر، فإن التنوع والاختلاف ليس إلا الوحدة المُعايَنة من الجانب الآخر للموشور. كذلك نستطيع القول إن الزمن هو الأبدية منظورًا إليها من الجانب الآخر للموشور. من الممكن التحرر من التنوع، من الزمن، من النسبي، على الرغم من أننا نعيش في هذا العالم، أي الآن وفي اللحظة الآنية.

فرؤية الموضوع من وجهة نظر العقل الأدنى تعني أننا أرجأنا التحرر والانعتاق إلى الغد؛ والغد هو دائمًا اليوم التالي. أما لدى رؤية الموضوع من وجهة نظر الوعي النقي فإن الانعتاق يتم الآن والتحقيق يكون في هذه اللحظة. إنه توحيد ما كان مجزَّءًا. لكن رب قائل يقول إننا لا نستطيع المسير نحو الوعي الروحي لأننا دائمًا نقف على الجانب الآخر من الموشور. هذا صحيح؛ وفي كثير من الأحيان نكون “مقيدين” بالجانب الآخر. ومع ذلك فبإمكاننا “التحرر” إذا بدأنا نتبنى نظرة جديدة إلى التنوع والاختلاف، وبدأنا في تعليم العقل الأدنى بأن ينظر نظرة محايدة لمختلف أوْجُه التنوعات.

ولكن هناك صعوبة في النظر بحياد؛ وتعود هذه الصعوبة إلى ماضينا. فالذاكرة اللاواعية مليئة بالأحكام والرفض والتأسف والكبت التي نحملها في داخلنا والتي تمنعنا من الحياة في… الحاضر. وكم من أناس يجدون صعوبة في نسيان ذكريات الطفولة التعسة. ولكن لنحاول أن نرى ماضينا دون صبغه بكلمة “سعيد” أو “تعيس”؛ وهذا سيساعدنا على التحرر من الكثير من ردود الفعل العقلية التي يتراءى لنا أنها غير مسيطر عليها (ونحن نقول إنها “غريزية”)، ولكنها ليست سوى تجمعات من الأحكام في ذاكرتنا اللاواعية. وما دمنا نبحث عن الوحدة الكلِّية خارج التنوعات الظاهرية فإن من العبث أن ننجح في طريقنا الروحي، لأن التنوعات هي التعبير عن الوحدة في العوالم الدنيا، وهي إفصاح عن تناغم الحياة في تناقضاتها. والعقل الأدنى هو الأداة التي تسمح لهذا التعبير عن الوحدة بالتجلِّي في الشخصية. فإذا بقي الكائن الإنساني يتماهى مع جسمه العقلي الأدنى، متناسيًا علاقته وارتباطه مع الذات العليا، فإنه لن يرى سوى التناقضات والتعارضات والتنوعات في العالم؛ وهذا بالتالي، سيؤدي إلى الانفصالية بين هذا الإنسان والكون المحيط به. ولكن بامتلاكه للوعي، يتمكن الإنسان من السيطرة على العقل الأدنى بواسطة الذات العليا التي هي حقًا السيد الآمر على العقل الأدنى المضطرب.

ويجب أن ندرك ونعي أن دفق الطاقات الروحية محدود ومقيد بجبال هائلة من مشاعرنا وأحاسيسنا ورغباتنا وأفكارنا الجامحة. وعندما نعي ذلك بوضوح فإننا ندرك حتمًا أن هدفنا وعملنا الأول هو إزالة هذا الركام للوصول إلى الحقيقة الروحية. ولكن ماذا نفعل في الواقع؟ إننا نزيد الأمر سوءًا بإخفاء هذا الركام الداخلي وكبته وتجاهله، مما يزيد في الحيلولة دون النور الإلهي وإنارة دخيلتنا.

إن هدفنا ليس حيازة المعرفة بحدِّ ذاتها، وكأنها الهدف الأول والأخير المنشود؛ ولكن بدونها لا يوجد أمل لنا بالخلاص من سيطرة الذات الدنيا. وقد يعتقد بعضهم أن ذلك غير متاح إلا لقلة من الروحانيين؛ وهذا غير صحيح. إن بإمكاننا من خلال أجسامنا، رغم كل مشاكلنا الحياتية، السيطرة على الذات – ولكن شريطة أن تكون لدينا رغبة صادقة وشجاعة لا تلين في السير على الطريق الروحي، مهما اعترضنا من عوائق وأشواك ناتجة عن ماضينا.

دنيا

دنيا
الشيخ عمرو توفيق وعبدالكريم حشيش وعاطف الحملى ومجدى صالح

الاهل

الاهل
الدكتور عبدالعظيم حشيش وحسن احمد حشيش زوج اختى والمهندس محمد حجازى حشيش ابن اخى والدكتور عبدالله عبدالعظيم فى الاسماعيلة .

مقالة الإسلام والإيمان (1)

الدكتور محمد شحرور .................
......
منذ أحداث 11 إيلول (سبتمبر) تتعرض الثقافة العربية الإسلامية إلى هجوم خارجي
شرس، لذا كان لابد من وقفة من التراث والنظر إلى ثقافتنا من الداخل نظرة نقدية
لإعادة التقييم لأنه من المستحيل أن تكون الثقافة العربية الإسلامية التقليدية في
خير وعافية مع هذا المستوى الثقافي المتدني وخاصة فيما يتعلق بالأمور السياسية
وبأمور الدولة والمجتمع، وهل هناك فعلاً صحوة إسلامية، وهل هناك أشياء من أوليات
الثقافة العربية الإسلامية يجب إعادة النظر فيها، علماً أنه إلى الآن عدد المنادين
بإعادة تأصيل الأصول مازال قليلاً. فما هي هذه الأصول التي تلح على إعادة النظر
فيها .
مقدمة وتمهيد:
اعتدت في كتبي وفي محاضراتي وندواتي وفي أحاديثي ومقابلاتي أن ألح بالإشارة إلى
مسلَّمتين أنطلق منهما، ولاتقبلان عندي النقاش، ولاتحتاجان إلى إثبات أو برهان، هما
: أنني عربي مسلم، أؤمن بالله واليوم الآخر والعمل الصالح وهو إيمان التسليم .
أنني مؤمن بأن محمداً رسول الله، وبأن رسالته الوحي الخاتم مابين دفتي المصحف
المكمل لما سبقه من رسالات سماوية موحاة، وبأنها ضرورة لازمة لنقل الإنسان من
التشخيص إلى التجريد، إيذاناً ببدء اعتماد العقل في كشف أغوار الكون والوجود وهو
إيمان التصديق.
إن آيات التنزيل الحكيم تعتبر دليلاً إيمانياً (إيمان التصديق) ولايمكن أن تكون
دليلاً علمياً وعلى أتباع الرسالة المحمدية البرهان على مصداقيتها من خارجها
انطلاقاً من معرفة قوانين الوجود الكوني والوجود الاجتماعي الإنساني. لذا فإن تطور
المعارف الإنسانية وتطور التاريخ الإنساني ككل هما صاحبا الحق الوحيد في إظهار
مصداقية كلام الله في التنزيل الحكيم وليس من الضروري أن تظهر هذه المصداقية على
لسان صحابي أو تابعي أو فقيه.
ولقد وهم البعض في فهم إلحاحي على هذه المسألة، باعتبارها ثانويةً عند قسم منهم،
أو لاأهمية لها على الإطلاق عند قسم آخر. وأخطأ البعض الآخر في تحديد سبب إلحاحي،
فنسبه قسم منهم إلى غاية هنا، ونسبه قسم آخر منهم إلى مقصد هناك. والأمر برمته
لاغاية فيه ولا قصد، ولا محل فيه لوهم محللٍ ولا لخيال مؤول.
المسألة أن من يتأمل أسماء الذين يكتبون في الحداثة والمعاصرة، وفي الخطاب
الديني، ويبحثون عن نقطة ارتباط بين ذهن اليوم ورسالة الأمس في النص القرآني، يجدهم
أصنافاً شتى، فيهم المستغرب والمستشرق، وفيهم أساطين علم الأديان المقارن، وفيهم
المتحمس للدعوة إلى الإسلام كما قرأه عند الشافعي والنعمان وقتادة، وفيهم المترف
المحايد الذي ينظِّر للإسلام من خارج دائرة الإسلام، وفيهم المستعرب (العلمانوي)
الذي ولد بالصدفة من أبوين مسلمين، وراح يضع للنص القرآني إطاراً يرضي به أساتذته
وتلامذته في السوربون.
والمسألة ، أن من يتأمل ما كتبه هؤلاء، ولايجد مايعينه على فهم أفضل للنص
القرآني، ولايجد أجوبة على تساؤلات، وحلولاً لإشكالات طالما حار فيها قراء هذا النص
على مدى قرون، لسبب بسيط هو أنهم يقرؤونه بعين الطبري حيناً وبعين الطبرسي حيناً
وبعين السيوطي أحياناً، دون أن يخطر لأحدهم مرة واحدة أن يقرأه بعين نفسه وعصره.
وكان لا بد – لأخرج نفسي من هؤلاء جميعاً – أن أحدد هويتي للقارئ والسامع، وأرسم
معها منطلق وهدف ما أكتب وأقول، مشيراً بكل وضوح إلى أن ما أكتبه وما أقوله ليس
فقهاً.. وليس دعوة للملحدين إلى الإيمان.. ولا دعوة إلى القطيعة مع التراث .. ولا
نبذاً وإنكاراً للسنة النبوية الصحيحة .. وإنما هو تأصيل لفقه جديد، وهو دعوة إلى
القراءة بعين العصر وأرضيته العلمية وإشكالاته الاجتماعية والسياسية، في محاولة
لفهم ما يريد التنزيل الحكيم أن أفهمه، وما يريد منـزِّل هذا التنزيل أن ألتزم به
من خلال استعمال أدوات معرفية معاصرة وخاصة في علوم الألسنيات، حيث أن الإنسانية
تقدمت بكل أنواع العلوم بما فيها اللسانيات بالإضافة إلى تبني العقل الفلسفي عوضاً
عن العقل الشعري، علماً بأن أي قراءة لأي نص وخاصة النص الإلهي هي بالضرورة تحديد
لمطلقية النص ضمن الزمان والمكان والأدوات المعرفية، ومع تغير هذه الأدوات يتم
الانتقال من فضاء معرفي إلى فضاء معرفي آخر وكانت الخطوة الأولى هي:
إنكار الترادف:
كان القول بالترادف من أوائل ما استوقفني في الخطاب العربي السائد، سواء الديني
منه أم الأدبي أم السياسي أم الفكري، وكان إنكار الترادف أول ما قادني إلى التمييز
بين الكتاب والقرآن والنبي والرسول والنبوة والرسالة، تماماً مثلما ميز التنزيل
الحكيم بين المحكم والمتشابه في آياته المباركات.
يقول الإمام العسكري : “لكل لفظ صورة ترتسم في الذهن، فإذا اختلف اللفظ، تغيرت
الصورة، فارتفع الترادف” . وبما أن المعرفة الإنسانية تكتشف الجديد كل يوم ولابد
لكل جديد من لفظ يعرف به، لذا فإن للغات كائن قابل للتطور والنمو وخاصة في دلالات
الألفاظ. وأكثر ماتنطبق هذه الخاصية على دلالات ألفاظ التنزيل الحكيم نظراً
لصلاحيته لمختلف العصور ولمختلف نظم المعرفة، وضمن هذا المنطوق يمكن إعادة صياغة
الثقافة العربية الإسلامية برمتها من خلال إعادة النظر في المفاهيم والأدوات.
ويقول الإمام ابن تيميه: الترادف في لسان العرب قليل، أما في القرآن فنادر أو
معدوم. فإذا وجدت من يفسر قوله تعالى (ذلك الكتاب لاريب
فيه) بأنه “هذا القرآن لاشك فيه” فاعلم أنه من باب التقريب، لأن ” ذلك” غير
“هذا”، و “الكتاب” غير “القرآن” و “الريب” غير “الشك” .
وقد كان يمكن لمسألة القول بالترادف أو إنكاره أن تبقى مسألة مجمعية أكاديمية
بحتة، لولا أن القول بالترادف قاد إلى تجويز رواية الحديث النبوي بالمعنى، وإلى
اعتبار القياس في أصول الفقه من مصادر التشريع، وإلى تأليف معاجم تفسر الكذب
بالإفك، والإفك بالافتراء، والافتراء بالبهتان، والبهتان بالكذب، فلا يفهم أحد فرق
هذا عن ذاك إلا من رحم ربي، وإلى تأطير لقواعد اللغة العربية، كما فعل سيبويه
وتابعوه من بعده، انطلاقاً من أن ذهب ومضى وانطلق وبارح وغدا وراح كلها مترادفات
بمعنى واحد. وانطلاقاً من الحفاظ على الشكل اللفظي دون الدخول في المحتوى الدلالي
وهذه علة العقم في النحو العربي الذي يقود الناس إلى أوهام في فهم التنزيل الحكيم.
من هنا، كان لابد ، ونحن ندعو إلى قراءة معاصرة للتنزيل الحكيم، من أن ننكر
الترادف ونبحث عن الفرق مهما كان دقيقاً بين الأب والوالد، والشاهد والشهيد،
والعباد والعبيد، والتفسير والتأويل، والحرب والقتال، والشرك والكفر، والذنب
والسيئة، والدين والملة، والإسلام والإيمان، علماً بأن البحث عن الدقة في كل شيء هي
سمة هذا العصر. فالأولى أن نبحث عنها في قراءة التنزيل الحكيم لأن هذه الدقة
بالضرورة ستؤدي إلى تغيير في الأحكام والمفاهيم الفقهية والعقائدية.
والترادف عند القائلين به قسمان: ترادف ألفاظ على معنى واحد وأمثلته واضحة فيما
سلف، وترادف معانٍ على لفظ واحد، كالظن الذي يعني الشك واليقين، وكالجون الذي يعني
الأسود والأبيض، والبون والبين الذي يعني البعد والقرب. فقولنا: بان يعني ظهر وقرب،
ومنه البيان والتبيين والإبانة والبينة. ويعني اختفى وبعد. يقول تعالى (ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين) البقرة 168، 208.
والمبين هنا تحتمل الوجهين معاً، فالشيطان عدو الإنسان الظاهر والخفي، ونحن أميل
إلى اعتباره العدو الخفي في مصطلح المبين، تماماً كقول كعب بن زهير في لاميته: بانت
سعاد فقلبي اليوم متبول، فالذي أسقم الشاعر وذهب بعقله هو قرب سعاد منه وبعدها عنه
في آن معاً . وهذا النوع من الترادف الذي لايفسره إلا السياق أخطر على فهم التنزيل
الحكيم من سابقه، لأن قارئ التنزيل لايجيز لنفسه، ولايجيز التراثيون له، أن يخرج عن
المعنى الذي ذهب إليه المفسرون الأوائل ونضرب لذلك مثلاً.
فالترتيل عند جميع المفسرين في قوله تعالى (ورتل القرآن
ترتيلا) المزمل 4. هو حسن الصوت وإبانة مخارج الحروف والتمهل في القراءة.
وعلى هذا المعنى التراثي للترتيل بالذات استند الإمام الماوردي في كتابه “الحاوي”
لتجويز قراءة القرآن بالألحان الموسيقية. ومن هنا فنحن نجد اليوم في العالم
الإسلامي نقابات لقراء القرآن الكريم، يتقاضى العضو فيها عن قراءته في الأفراح
والأتراح أجراً يزيد في الليلة الواحدة عن راتب شهر لموظف في الدولة.
ونحن لن نستشهد بالفيروزأبادي ولا بالجواهري ولا بالزمخشري بحثاً عن المعاني
الأخرى للترتيل. سنعرض فقط ما يقوله ” المعجم المدرسي” الذي أصدرته وزارة التربية
السورية عام 1985: رتَلَ الثغرُ: انتظمت أسنانه وتناسقت . والرَّتـل : حسن التناسق
والانتظام، والجماعة من الجند أو الخيل أو السيارات يتبع بعضها بعضاً.
فإذا عدنا إلى سورة المزمل، وجدناه تعالى في الآيات الخمس الأولى يقوله لنبيه
الكريم المتلفف بالأغطية أن يقوم الليل ويرتل القرآن ويتأهب لما سيلقى عليه من وحي
وذكر ثقيل. ولا يعقل مطلقاً – إذا أخذنا بالمعنى التراثي للترتيل – أن يكون التغني
بالقرآن على الألحان بصوت حسن باباً من أبواب التأهب لتلقي الرسالة السماوية
بمسؤولياتها الجسام.
والأخطر من ذلك كله أن جميع ترجمات القرآن إلى الإنكليزية والفرنسية والألمانية
والروسية اعتمدت هذا المعنى التراثي تحديداً. أنظر مثلاً : ترجمة معاني القرآن إلى
الإنكليزية، مجمع الملك فهد بن عبد العزيز، المدينة المنورة، 1417 هـ. وانظر أيضاً:
ترجمة القرآن، ن . ج . داوود ، بنغوان ، بريطانيا، الطبعة الأولى 1956. وانظر أيضاً
: ترجمة معاني القرآن الكريم، عبد الله يوسف علي، مقدمة أبو الأعلى المودودي،
الطبعة الأولى 1934، دار العربية للطباعة والنشر، بيروت / لبنان.
وانطلاقاً من توخي الدقة في دلالات الألفاظ نأتي على موضوعنا مباشرة وهو :
الإسلام والإيمان:
تعتبر الأدبيات الإسلامية التراثية – ومعظم المعاصرة – أن المسلمين هم أتباع
محمد (ص). فالبخاري ومسلم في صحيحهما يعتبران الإيمان إسلاماً والإسلام إيماناً،
فيفتتحان باب الإيمان بحديث النبي (ص) : بني الإسلام على خمس. ونخلط نحن الآن باسم
الترادف بين المسلمين والمؤمنين وبين الكافرين والمشركين والمجرمين. لكننا رأينا
التنزيل الحكيم يفرق بكل دقة تليق بعظمة مؤلفه وصانعه بين هذه المصطلحات جميعاً.
ونقرأ قوله تعالى: (إن الدين عند الله الإسلام..) آل عمران
19. وقوله تعالى: (ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل
منه..) آل عمران 85. ونتساءل: ماهذا الدين الذي لايقبل الله من الخلق غيره،
وما تعريفه ومواصفاته .
1 – الإسلام:
نقرأ قوله تعالى:- (أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في
السموات والأرض طوعاً وكرهاً وإليه يرجعون) آل عمران 83- (إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات
..) الأحزاب 35. - (وجاوزنا ببني إسرائيل البحر
فأتبعهم فرعون وجنوده بغياً وعدوا حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا
الذي آمنت به بنوا إسرائيل وأنا من المسلمين) يونس 90.- (إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شيء وأمرت أن أكون
من المسلمين) النمل 91.- (فأخرجنا من كان فيها من
المؤمنين * فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين) الذاريات 35،36.- (وقال موسى ياقوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم
مسلمين) يونس 84.- (قالت رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع
سليمان لله رب العالمين) النمل 44.- (.. قال الحواريون
نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون) آل عمران 52.- (فاطر السموات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلماً وألحقني
بالصالحين) يوسف 101. - (قالوا نعبد إلهك وإله آبائك
إبراهيم وإسماعيل واسحق إلهاً واحداً ونحن له مسلمون) البقرة 133.
ونلاحظ في الآيات أعلاه أمرين: الأول أن نوحاً وإبراهيم ويعقوب وإسماعيل وإسحق
ويوسف وموسى وعيسى وسليمان كانوا مسلمين جميعاً . والثاني أن الإسلام يرتبط بالله
وحده فقط. ونفهم أن الإسلام يقوم على مسلّمة الإيمان بالله ووحدانيته وباليوم
الآخر. والمسلمة هي الأمر الذي لايمكن البرهان عليه ولايمكن دحضه علمياً. ففي مسلمة
الإيمان بالله واليوم الآخر يتساوى الراسخون بالعلم وعامة الناس. ثم ننطلق من هذا
الفهم لنفهم أمرين آخرين: 1 – أن الإسلام دين كوني، لايقتصر على أهل الأرض فقط،
بدليل قوله تعالى (وله أسلم من في السموات والأرض طوعاً
وكرهاً). وهذا يعني أنه إذا كانت هناك مخلوقات عاقلة في مجرة من مجرات هذا
الكون، فالتنزيل الحكيم يقول أنها سمعت بالله الواحد وأسلمت له طوعاً من باب
الألوهية وكرهاً من باب الربوبية، وأن الدين عندها هو الإسلام بمفهوم وجود الله
وواحديته وهو أمر في غاية المنطقية، لأن الله سبحانه وتعالى ربنا ورب السموات
والأرض ورب كل شيء في هذه السموات والأرض وما بينهما. 2 – إن نوحاً وإبراهيم
ويوسف ويعقوب وسليمان وموسى وعيسى كانوا مسلمين، ومع ذلك فهم لم يعاصروا محمداً (ص)
ولم يشهدوا برسالته ولم يصوموا رمضان، مما يجعلنا نجزم بأن الإسلام والمسلمين
لاعلاقة لهم بالرسالة المحمدية ولا بغيره من الرسل والأنبياء السابقين، بل ذلك
مرتبط حصراً بالله ووحدانيته. فكل من آمن بالله واليوم الآخر (وهي مسلمة) كان
مسلماً، بغض النظر عن الرسول الذي يتبعه، وعن التسمية التي نطلقها عليه. وهذا واضح
في قوله تعالى: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين
من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولاخوف عليهم ولاهم
يحزنون) البقرة 62. من هذه الآيات وغيرها كثير، نفهم أن الإسلام يقوم
على مسلمة بوجود الله، وباليوم الآخر. فإذا اقترنت هذه المسلمة بالإحسان والعمل
الصالح، كان صاحبه مسلماً، سواء أكان من أتباع محمد (ص) (الذين
آمنوا) أو من أتباع موسى (الذين هادوا) أو من أنصار
عيسى (النصارى) أو من أي ملة أخرى غير هذه الملل الثلاث
مهما كان اسمهم (الصابئين).
2 – أركان الإسلام:
بعد أن تعرفنا على الإسلام من واقع آيات التنزيل الحكيم، وفهمنا ماهو هذا الدين
الذي لايقبل الله من عباده غيره، وعرفنا أنه يقوم على ثلاث دعائم هي الإيمان بالله
واليوم الآخر والعمل الصالح، ووجدنا ذلك كله واضحاً في قوله تعالى: (ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من
المسلمين) فصلت 33. ننتقل لنتساءل: ماهو هذا العمل الصالح الذي يشكل قاسماً
مشتركاً بين جميع الأديان السماوية، والذي يستحق فاعله – أياً كان معتقده – اسم
المسلم إن اقترن بالإيمان بالله واليوم الآخر؟ وما هي التعاليم العامة الشاملة التي
جاءت في كل الكتب والرسالات، من نوح إلى محمد عليهما السلام، ناظمة ومبينة لهذا
العمل الصالح؟ ونجد الجواب تفصيلاً في قوله تعالى (شرع لكم من
الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به ابراهيم وموسى وعيسى أن
أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من
يشاء ويهدي إليه من ينيب) الشورى 13.
ونفهم أن هذه التعاليم التي بدأت بنوح هي وصايا (ما وصى به
نوحاً) وأن هذه الوصايا تنامت وتراكمت منتقلة من إبراهيم إلى موسى وعيسى،
وأنها لابد موجودة في الرسالة المحمدية الخاتم لقوله تعالى (والذي
أوحينا إليك) . وننظر في التنزيل الموحى، فنجد هذه الوصايا في سورة الأنعام
بقوله تعالى: (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم …ألا
تشركوا به شيئا .. وبالوالدين إحسانا..ولاتقتلوا أولادكم من إملاق نحن
نرزقكم وإياهم .. ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن .. ولا تقتلوا
النفس التي حرم الله إلا بالحق .. ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون) الأنعام
151(ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده
.. وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لانكلف نفساً إلا وسعها.. وإذا قلتم
فاعدلوا ولو كان ذا قربى .. وبعهد الله أوفوا .. ذلكم وصاكم به لعلكم
تذكرون) الأنعام 152. (وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه
ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله .. ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون) الأنعام
153 .
ونفهم أن هذه هي الوصايا العشر التي نزلت فرقاناً على موسى، وأنها الصراط
المستقيم الذي ندعو الله في كل صلاة أن يهدينا إليه، والذين يقعد الشيطان العدو
الظاهر والمخفي (المبين) عنده ليحول الناس عنه، وأنها الأركان الرئيسية للإسلام،
والقاسم المشترك للناس جميعاً، وأنها الكلمة السواء التي دعا الرسل أقوامهم إليها
وأنها خضعت للتراكم بدءاً من نوح وانتهاء بمحمد (ص) .
فإذا نظرنا في هذه التعاليم والوصايا، وجدنا أنها تمثل فعلاً المثل العليا
الإنسانية، والقانون الأخلاقي الذي لايستقيم مجتمع بدونه، وفهمنا أن الإسلام دين
عام يشمل كل أهل الأرض، يقوم على الإيمان بالله واليوم الآخر أولاً، وبان لنا مراده
تعالى في قوله (ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في
الآخرة من الخاسرين) إذ كيف يقبل الله ديناً هو غير موجود فيه، ويقوم على
المثل العليا والقيم الإنسانية ثانياً، هذه هي القيم التي يمكن الإضافة إليها تحت
باب الحكمة والتي لاتتوقف إلى يوم القيامة ولكن لايمكن إلغاؤها أو استبدالها، وتدخل
في السلوك الإنساني الاجتماعي والأسري والاقتصادي، ومن خلالها يظهر العمل الصالح،
وبدونها لايوجد عمل صالح أو مجتمع صالح.
ونفهم أخيراً أن الإسلام ليس دين الرسالة المحمدية فقط، بل دين جميع الرسالات
والرسل والأنبياء، وأن المسلمين ليسوا أتباع محمد (ص) حصراً، كما هو سائد اليوم، بل
هم كل من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً والتزم بصراط المثل العليا المستقيم،
هذه المثل والقيم التي تدخل ضمن فطرة الإنسان ولاتحتاج إلى برهان عليها وتكمن قوتها
أنها تحمل بيناتها في ذاتها وبنفس الوقت ليست قانوناً موضوعياً يفرض نفسه منفصلاً
عن الوجود الإنساني الاجتماعي الواعي.. ومن هنا نقول أن الإسلام دين الفطرة
الإنسانية طبقاً لدلالة قوله تعالى: (فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة
الله التي فطر الناس عليها لاتبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا
يعلمون). الروم 30. وهذا الدين الحنيف الذي فطر الله الناس عليه لاعلاقة له
بصوم رمضان أو بإقامة الصلاة حيث أن الإنسان يصوم رمضان ويقيم الصلاة بالتكليف لا
بالفطرة.
ثمة صفتان لهذه التعاليم والقيم والمثل العليا لابد من ايجازهما قبل ختم الحديث
عن الإسلام وأركانه. الأولى أنها كل واحد متماسك لايقبل التجزئة والتبعيض، وصراط
واحد لايقبل التقسيم، وهذا واضح في قوله تعالى (وأن هذا صراطي
مستقيماً فاتبعوه). والثانية أنها لاتخضع مفردة أو مجموعة للوسع والاستطاعة.
فليس هناك ايمان بالله على قدر الوسع، ولا امتناع عن قتل النفس ضمن الاستطاعة.
فالقضية في أركان الإسلام والوصايا أشبه ماتكون بما يقال في الرياضيات: إما الصفر
أو الواحد ولا توسط بينهما.
نقول هذا ونحن نقرأ قوله تعالى (ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله
حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون) آل عمران 102 . إي أنه في الإسلام
وأركانه المطلوب أن تتقي الله حق تقاته. فكل من يظن أن هذه الآية منسوخة فهو واهم.
3 – الإيمان:
وننتقل إلى مصطلح الإيمان والمؤمنون، ونبدأ بآياته تعالى: - (إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات…) الأحزاب 35 .-
(قالت الأعراب آمنا، قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل
الإيمان في قلوبكم..) الحجرات 14.- (يمنون عليك أن
أسلموا، قل لاتمنوا علي إسلامكم، بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم
صادقين) الحجرات 17.- (والذين آمنوا وعملوا الصالحات
وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم)
محمد 2 . - (ياأيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب
الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل..) النساء 136 .
نلاحظ من الآيات أعلاه، أن الإسلام متقدم على الإيمان وسابق له، وأنه لا إيمان
بلا إسلام. ولكن هل الإيمان نوع واحد، أم أن هناك نوعين من الإيمان، وهل التقوى نوع
واحد، أم أن ثمة أكثر من نوع .
قلنا في تعريف الإسلام إنه الإيمان والتسليم بالله (وجوداً ووحدانية) وباليوم
الآخر وتنفيذ أوامره في العمل الصالح، وهذا هو الإيمان الأول الذي لايقبل أي إيمان
آخر بدونه. ونجد هذا واضحاً في الآية 2 من سورة محمد: - (والذين آمنوا وعملوا الصالحات) الإيمان الأول بالله واليوم
الآخر والعمل الصالح. - (وآمنوا بما نزل على محمد)
الإيمان الثاني بمحمد ورسالته.
كما نجده واضحاً في الآية 136 من سورة النساء، فالله يطلب من الذين آمنوا بالله
واليوم الآخر أن يؤمنوا بالرسول وبكتاب رسالته، وبالكتاب الذي أنزل قبله.
الإيمان الأول – بالله واليوم الآخر – الإسلام – مسلمين.الإيمان الثاني –
بالرسول – الايمان – مؤمنين.
وبما أن كل إيمان يقابله كفر، فقد جاءت الآية بعدها مباشرة لتقول (إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفراً لم يكن
الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا) النساء 137.
فإذا فتحنا سورة الحديد الآية 28 نقرأ فيها (يا أيها الذين
آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نوراً تمشون به
ويغفر لكم ..) ياأيها الذين آمنوا – الإيمان الأول/ الإسلام – الكفل
الأول من الرحمة . اتقوا الله – التقوى الأولى / الإسلام – حق تقاته.
وآمنوا برسوله – الإيمان الثاني / الإيمان – الكفل الثاني من الرحمة.
أما في سورة القصص فنقرأ (وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه
الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين * أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما
صبروا..) 53،54. كانوا مسلمين مؤمنين بالله واليوم الآخر – الأجر في
المرة الأولى . آمنوا بالتنزيل الحكيم – الأجر في المرة الثانية.
وكما رأينا من استعراض مصطلح الإسلام والمسلمين في التنزيل الحكيم أن علاقته
دائماً بالله تعالى، نرى من استعراض مصطلح الإيمان والمؤمنين أن له علاقة بالرسل،
فكل من آمن برسول كان من أتباعه المؤمنين به. ويتضح ذلك في قوله تعالى: - (ولما جاء أمرنا نجينا هوداً والذين آمنوا معه برحمة منا..) هود
58. - (ولما جاء أمرنا نجينا صالحاً والذين آمنوا معه برحمة
منا..) هود 94. أما من آمن بموسى فقد سماهم التنزيل الحكيم الذين هادوا،
ومن آمن بعيسى سماهم النصارى إما لأنهم نصروه وكانوا من أنصاره أو لأنهم من بلدة
الناصرة، ومن آمن بمحمد سماهم المؤمنين. وذلك واضح في قوله تعالى: - (يا أيها النبي حسبك ومن اتبعك من المؤمنين ..) الأنفال 64.
- (ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله
ورسوله..) المائدة 22.- (إنما المؤمنون الذين آمنوا
بالله ورسوله ثم لم يرتابوا ..) الحجرات 15. فإذا وقفنا أمام قوله تعالى
(آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله
وملائكته وكتبه ورسله لانفرق بين أحد من رسله..) البقرة 285.
نفهم أن هناك إيماناً بالله وملائكته يضاف إلى إيمان ثان بالرسل والكتب، وبخاتم
أولئك الرسل وبآخر هذه الكتب.
4 – أركان الإيمان:
قلنا في تعريف أركان الإسلام، كما استقيناه من آيات التنزيل الحكيم، إنها
الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح، وأنها مجموعة في الصراط المستقيم
المتجسد في الوصايا والمثل العليا والقيم الأخلاقية، ونتابع هنا تعريف أركان
الإيمان بالرسل والكتب والرسالات.
يقول تعالى (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما
طعموا إذا مااتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله
يحب المحسنين) المائدة 93. ونفهم أن (الذين آمنوا وعملوا
الصالحات) هم المسلمون الذين آمنوا بالله واليوم الآخر وعملوا صالحا، وأن
التقوى الأولى في الآية هي تقوى الإسلام (حق تقاته) التي
تتجلى بالالتزام بالأعمال الصالحة، ونفهم أن الذين آمنوا في (ثم
اتقوا وآمنوا) هم المؤمنون الذين آمنوا بالرسول وبالكتاب المنزل عليه، وأن
التقوى الثانية في الآية هي تقوى الإيمان (ما استطعتم)
التي تتجلى بالالتزام بتكاليف الإيمان وأداء شعائره من صلاة وزكاة وصوم وحج. ثم
نفهم أخيراً أن هناك تقوى ثالثة في قوله (ثم اتقوا
وأحسنوا) هي تقوى الإحسان، الحاصلة من جمع تقوى الإيمان مع تقوى الإسلام. ثم
يختم تعالى هذا كله مشيراً إلى أن الظفر بمحبة الله مرتبط بتقوى الإحسان.
ومن هنا نفهم الفرق الأساسي في أن الإسلام فطرة (مثل عليا) لكل أهل الأرض وأن
الإيمان تكليف ضد الفطرة (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها)
وهو الذي يميز أتباع الرسالة المحمدية عن غيرهم، فأتباع محمد (ص) لايُميزوا ببر
الوالدين ولا بالوفاء بالكيل والميزان ولا بالامتناع عن شهادة الزور. فهي عامة
شاملة، بل يميزون بالصلاة الشعائرية والصوم. لذا حصل هذا الخلط من أن أركان الإيمان
أصبحت أركان الإسلام وهو من باب الأنانية ووقف الجنة على أتباع محمد (ص) .
لقد قلت أنني لم آت بجديد في لتمييز بين الإسلام والإيمان بعد أن ميز الذكر
الحكيم بينهما كما رأينا. وكما ميز بينهما العديد من الأئمة منذ القرون الهجرية
الأولى. وأن دوري اقتصر على إعادة ترتيب الأولويات التي يمكن في الختام أن نصوغها
على الشكل التالي:
- الأولوية الأولى:
وهي الإسلام والإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح (المثل العليا) التي
ننطلق منها ونرتكز على بنودها ووصاياها في التعامل مع كل أهل الأرض، لأن معظمهم
مسلمون، ولأن هذه المثل والقيم مقبولة عندهم لايرفضها أحد وعلينا ترسيخها في الدولة
والمجتمع، وتوضيح أن الإيمان بالرسل وإقامة شعائر الإيمان من صلاة وزكاة وصوم وحج،
لايكفي بل ولا يكون بدون هذه المثل والقيم أو بعيداً عنها. وعلينا أيضاً تعميق فهم
الناس لمصطلح الإسلام والمسلمين، وتوضيح أنهم ليسوا أتباع النبي العربي محمد (ص)
حصراً، بل هم جميع من أشار إليهم تعالى بقوله (لن يدخل الجنة إلا
من كان هوداً أو نصارى، تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين * بلى من أسلم
وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولاخوف عليهم ولا هم يحزنون) البقرة
111،112 .
وأخيراً علينا أن نؤكد في كل أدبياتنا ومجالسنا على أن العمل الصالح الحسن ركن
من أركان الإسلام، وأن كل أهل الأرض من المسلمين مطالبون به، وأنه وحده معيار الجرح
والتعديل وميزان التقييم بين الناس، وتوضيح أن أبواب العمل الصالح متعددة ومفتوحة
على مصراعيها ليوم القيامة، وأن الإبداع والتفنن فيها مطلوب ومأجور، لأن كل ماينفع
الخلق يدخل تحت عنوانها على مدى العصور والدهور.
- الأولوية الثانية:
وهي أن شعائر الإيمان (الصلاة والزكاة والصوم والحج) خاصة بالمؤمنين من أتباع
محمد (ص) ولامعنى لها بعيداً عن الإسلام لله والعمل الصالح، وأنها شعائر خاصة
لاتحمل الطابع العالمي ولا الطابع السياسي، وأنها تكاليف شعائرية لا إبداع فيها ولا
تفنن، بل لايجوز أن يكون فيها، لأن الإبداع فيها بدعة، سواء بالزيادة أو بالنقص،
فالإبداع في الإسلام حسن محمود، والابتداع في الإيمان قبيح مذموم.
لقد اختلطت عندنا الأولويات، فأخذ ثانويها مكان هامها، واحتل ثانيها محل أولها.
وتقدم فيها ما هو من الإيمان على ما هو من الإسلام، حتى صار إفطار يوم في رمضان
بالفكر السائد الشائع أخطر من الغش في المواصفات، والسهو عن صلاة بوقتها أكبر من
إخسار الكيل والميزان.
ولعل تتبع أسباب هذا الخلط في الأولويات، وتقسيمها إلى أبوابها، من تاريخية
ومذهبية وسلطوية، يفيد كثيراً في عملية إعادة ترتيب الأولويات ووضع النقاط على
الحروف، لولا أن لهذا مجالاً آخر، يقع تحت عنوان آخر، قد لايتسع له مقالنا هذا.
وأخيراً نسأل السؤال التالي: إن ما يقال عنه الآن صحوة إسلامية .. هل هو فعلاً
صحوة إسلامية ؟؟
والحمد لله رب العالمين.
مجلة روز اليوسف

تتمة بحث الإسلام والإيمان (2)


الدكتور شحرور ........



..............
لقد أنهينا مقالنا السابق بسؤال هو: هل ما يسمى بالصحوة الإسلامية هو فعلاً
كذلك؟ وقد أعطينا فكرة في المقال عن الإسلام والإيمان. ولنوضح مفهوم الصحوة نقول ما يلي:
أول مؤشرات الصحوة هو وعي أن حرية الاختيار بين الخير والشر والفجور والتقوى
والطاعة والمعصية هي كلمة الله التي سبقت لأهل الأرض جميعاً وقامت المساءلة طبقاً
لهذه الحرية.

فنحن نطيع الله بملء إرادتنا، ونعصيه بحرية اختيارنا. وإن الجهاد في سبيل حرية
الاختيار لأي إنسان على الأرض بغض النظر عن ملته وعقيدته هو الجهاد في سبيل الله،
وقد تأخذ شكل العنف في بعض الشروط الموضوعية، وتأخذ أشكال كثيرة أخرى غير العنف.

فالبلاد التي يساق فيها الناس إلى المساجد بالعصا وتُحَجَّب فيها النساء بالقوة فإن
كلمة الله فيها هي السفلى، والبلاد التي تمنع فيها الصلاة ويمنع فيها الحجاب
بالإكراه فإن كلمة الله فيها هي السفلى أيضاً. وكلما تقلصت مساحة حرية الاختيار عند
شعب من الشعوب ازداد قرباً من المملكة الحيوانية وازداد بعداً عن الله ، لأن الله
حر ونحن متحررون، والله عليم ونحن متعلمون، وهذا هو معنى قوله تعالى (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) أي يكونوا عباداً لي يطيعونني بملء إرادتهم ويعصونني بحرية اختيارهم. وهذه الآية لاعلاقة لها بصوم أو زكاة أو حج.


فالناس عباد الله وليسوا عبيد الله. فالعباد لهم حرية الاختيار ابتداء من الحرية
الشخصية وانتهاء بالحرية السياسية وما بينهما ، والعبيد ليس لهم حرية الاختيار.
ويعتبر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان خير تعبير عن إعلان أن كلمة الله هي العليا.
ومن هذه الحرية تنتج التعددية واختلاف وجهات النظر وتنتج جدلية المجتمعات قاطبة.
وعلينا ترسيخ قيمة الحرية في الضمير الإسلامي على أنها القيمة العليا وهي قبل
العدالة. فالأحرار (عباد الله) يستطيعون أن يقيموا العدالة، والعبيد لايقدرون على
شيء.

إن مفهوم العبودية على أنها لله الذي نسمعه صباح مساء رسَّخ في أنفسنا الذل
والضِّعَة والصِّغار. وأصبحت هذه الصفات ضمن عقليتنا وثقافتنا، فالله لم يطلب
العبودية من أحد وإنما هي العبادية. ونحن عباد الله في الدنيا، وعبيده يوم الحساب
لانتفاء الخيارات هناك. وإن ترسيخ ثقافة العبودية حوَّلَ الناس من مجتمعات إنسانية
إلى قطعان قابلة للإنقياد من قبل المستبدين الطغاة.
بما أن الإسلام دين الفطرة ويحمل الطابع العالمي الإنساني فنحن نحقق الصحوة
الإسلامية بالأمور التالية:
- في كل بلد دخل الفرد فيه مرتفع والبطالة فيها قليلة، فإن الإسلام بخير، وكل من
يعتقد أن أرزاق الإنسان مكتوبة سلفاً فهو واهم طبقاً لآيات التنزيل الحكيم. -
في كل بلد العناية الصحية فيه متوفرة من طب ومشافي بهدف إطالة عمر الإنسان ليعيش
بصحة جيدة فالإسلام بخير، وكل من يعتقد أن الأعمار مكتوبة على الناس سلفاً فهو واهم
، لأنه طبقاً للتنزيل الحكيم فالأعمار غير ثابتة. - في كل بلد القضاء فيه نزيه،
وشهادة الزور فيه قليلة ونادرة وعقوبة شهادة الزور والفساد والرشوة عالية فالإسلام
بخير . - في كل بلد يكون فيه الاعتناء بالمياتم والأيتام مهما كانت ملتهم
وأصلهم وفيه جمعيات خيرية كثيرة فالإسلام بخير. - في كل بلد مواصفات الإنتاج
متقدمة ودقيقة، ومخالفة المواصفات نادرة وعقوبة مخالفتها شديدة ، والمواد الغذائية
والمواد الترفيهية والرياضية متوفرة، فالإسلام بخير.- في كل بلد علاقات الحلال
فيه بين الذكر والأنثى متوفرة وسهلة، وانتقال الثروة بين الأفراد بالوصية لا بعلم
الفرائض المزعوم فالإسلام بخير.


وبكلمات مختصرة : إن أحسن وسيلة للتعبير عن الصحوة الإسلامية وقيم الإسلام هي
منظمات المجتمع المدني ابتداء من الجمعيات ومروراً بالنقابات وانتهاء بالأحزاب
السياسية. وقد فشل السادة العلماء الأفاضل في تقديم الإسلام والإيمان إلى العالم
بشكله العالمي والإنساني. بل أصروا على قيم العبودية والآخرة لأنه لايوجد عندهم ما
يقدموه للناس في هذه الدنيا. وكذلك فشلت الحركات الإسلامية السياسية في برامجها
.أما الصحوة الإيمانية فتتمثل بما يلي:
1 – إذا زاد عدد صائمي رمضان فالإيمان بخير. 2 – إذا زاد عدد دافعي الزكاة
وزادت قيمة الزكاة فالإيمان بخير، وبما أن الزكاة عمل اجتماعي له علاقة بالغير ليس
كالصلاة والصوم والحج فهناك زكاة الإسلام وزكاة الإيمان. 3 – إذا زاد عدد مقيمي
صلاة الجنازة فالإيمان بخير.4 – حب الرسول (ص) من الإيمان .
أي نختصر الإيمان والإسلام بالجملتين التاليتين:
كل فضيلة وعمل صالح وإيجابي ليس وقفاً على أتباع الرسالة المحمدية هو من
الإسلام، وهذه الفضائل لاعلاقة للسنة النبوية بها، لأن الناس عرفوها دون أن يؤمنوا
برسالة محمد (ص) ودون أن يدروا بهذه الرسالة، وعرفوها قبل ومع وبعد هذه الرسالة.

كل فضيلة وعمل صالح لا يقوم به إلا أتباع الرسالة المحمدية فهو من الإيمان.
والإيمان تابع للإسلام وبعده لا قبله. وإن الأطروحة التي تقول أن الإسلام يجبُّ ما
قبله غير صحيحة لأنه لايوجد شيء قبل الإسلام وإنما الصحيح هو (الإيمان يجبُّ ما
قبله) لذا قال في سورة محمد بأن الذين دخلوا في الإيمان برسالة محمد بعد الإيمان
بالله (كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم). وهنا نلاحظ أمراً
هاماً هو أن الإسلام بعد الإيمان بالله واليوم الآخر مجاله الدنيا حصراً، وهو طريق
الآخرة. أما الإيمان مع أركانه فلا علاقة له بالدولة وبالمنظمات المدنية، وإنما هو
مرتبط بالمجتمع فقط. وهنا نفهم معنى فصل الدين عن الدولة. وإن قال قائل: أين
الأحكام من عقوبات وإرث وزواج ؟ فأقول سأفصّلها في حينها.
فإذا أخذنا بلدا مثل مصر مثلاً، ووضعنا المقاييس المذكورة أعلاه وقارنا الأحوال
ما بين عام 1970 وعام 2004 فأننا نحكم بسهولة أن الإسلام تراجع وزادت الغفوة ، لاالصحوة ، وإنه في بلاد كثيرة من التي لاتسمي نفسها بلادا إسلامية الإسلام فيها بخير

أكثر مما هو عندنا بكثير .


أما الصحوة التي نراها فهي صحوة إيمانية وهي لاتسمن ولا تغني من جوع بالنسبة
لبناء الدول والحضارات، لأن الفائدة منها فردية أخروية. وهكذا نرى أن التركيز في
البرامج الدينية يتم على الشعائر والذكر والتلاوة والدعاء والجنة والنار والموت .
وأصبح الإنسان الذي يحب الحياة ويكره الموت يشعر أنه مذنب ويستغفر الله، وأصبحت
ثقافة الموت هي الشائعة عوضاً عن ثقافة الحياة. وكذلك التركيز على شعائر الإيمان
لايضر المستبدين في شيء ولا يهددهم مثقال ذرة.
- الإجرام والمجرمون
>إذا أردنا تعميق فهمنا للإسلام والمسلمين في التنزيل الحكيم، فما علينا
إلا أن ننظر في تعريف المصطلح المضاد للإسلام وهو الإجرام، والمصطلح المضاد
للمسلمين وهو المجرمين في قوله تعالى: (أفنجعل المسلمين
كالمجرمين * مالكم كيف تحكمون) القلم 35، 36.

لقد ورد الأصل “جرم” ومشتقاته 67 مرة في التنزيل الحكيم. وهو أصل واحد في اللسان العربي يعني القطع. ومنه سميت الأجرام السماوية أجراماً لأنها منفصلة مقطوع بعضها عن بعض. ومنه جاء قوله تعالى: (لا جرم أنهم في الآخرة هم
الخاسرون) النحل 109، أي أن خسارتهم في الآخرة أمر مقطوع ومبتوت به.
وإذا كان المصطلح القانوني المتداول اليوم، يسمي السارق والقاتل والغاصب
مجرماً، فإن الأصل في ذلك أن المجرم هو الذي قطع صلته بالمجتمع وقوانينه وانطلق
يجري على هواه. تماماً كالمجرم في التنزيل الحكيم، الذي قطع صلته بالله، فأنكر
وجوده، وكفر باليوم الآخر، وكذب بالبعث والحساب. وهو ما نطلق عليه بمصطلحنا المعاصر
اسم الملحد”.
ونقرأ قوله تعالى: - (.. ولا يسئل عن ذنوبهم
المجرمون) القصص 78. - (وامتازوا اليوم أيها
المجرمون) يس 59. - (ويوم تقوم الساعة يبلس
المجرمون) الروم 12. - (يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ
بالنواصي والأقدام * فبأي آلاء ربكما تكذبان * هذه جهنم التي يكذب بها
المجرمون) الرحمن 41، 42، 43. - (قل سيروا في الأرض
فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين) النمل 69.- (كذلك
نفعل بالمجرمين * ويل يؤمئذ للمكذبين) المرسلات 18، 19.
ونحن هنا مع الآيات أمام صور تصف مجرمين ينكرون البعث، ويكفرون بوجود الله،
ويكذبون باليوم الآخر، قاموا من أجداثهم بعد نفخة الصور الثانية، فرأوا رأي العين
ما كانوا يكذبون بوجوده، فبهتوا دهشة، وبان ذلك على وجوههم، إلى حد لا يحتاجون معهإلى سؤال وجواب، فهم يؤخذون بدلالة ما ارتسم على وجوههم، ليصلوا النار التي كانوابها يكذبون.

أما لماذا لا يسأل المجرمون عن ذنوبهم، فسببه واضح تماماً. أولاً لأن المجرم
إنسان ملحد لا يؤمن بوجود الله، وهذا وحده كاف لأن يعطيه تذكرة مرور إلى جهنم دونما
حاجة إلى ميزان أو حساب، إذ ليس له بالأصل أي كشف حساب مفتوح عند الله بحكم قطعه
لصلته به. ثانياً لأن الذنوب مع الله كترك الصلاة وإفطار رمضان وإخسار الكيل وتطفيف
الميزان، ذنوب قابلة للأخذ والرد والتكفير والمغفرة، لو أن صاحبها آمن مبدئياً
بالله واليوم الآخر. أما مع المجرم فلا حاجة للسؤال عن الذنوب، وقد تحقق الإجرام
بالله والتكذيب بيوم الدين، وقطع الصلة مع الله واليوم الآخر.
ومن هنا .. من قولنا بقطع الصلة .. نفهم قوله تعالى: - (إلا أصحاب اليمين * في جنات يتساءلون * عن المجرمين * ما سلككم في سقر
* قالوا لم نك من المصلين * ولم نك نطعم المسكين * وكنا نخوض مع الخائضين * وكنا نكذب بيوم الدين) المدثر 39-46.


الصورة هنا لأصحاب اليمين في الجنة، يسألون المجرمين ماذا أوصلكم إلى النار؟
فيجيب المجرمون: لأننا لم نعتنق الإسلام نظرياً وعملياً. لم نسلّم بوجود الله
فقطعنا صلتنا به (لم نك من المصلين) ولم نسلّم باليوم
الآخر (وكنا نكذب بيوم الدين)، ولم نقدم عملاً ينفع الخلق
(لم نك نطعم المسكين) بل عملنا ما يسيء ويضر (وكنا نخوض مع الخائضين)، إلى أن رأينا يقيناً كل ذلك حاضراً،فانتهينا إلى ما ترون.

ولقد ذهب بعض المفسرين إلى أن المصلين في الآية هم مقيمو الصلاة، إلا أننا حين
رجعنا إلى آيات التنزيل الحكيم، لم نجده يطلق اسم المصلين على القائمين بالصلاة هذا
من جهة، من جهة أخرى ترك الصلاة أو الصيام لا علاقة له بالإيمان بالله واليوم
الآخر، ومرتكبوها ليسوا مجرمين، بحيث ينطبق عليهم وصف التنزيل الحكيم. نقول هذا
ونحن نستذكر قوله تعالى: (أرأيت الذي يكذب بالدين * فذلك الذي
يدعّ اليتيم * ولا يحضّ على طعام المسكين * فويل للمصلين * الذين هم عن صلاتهم
ساهون * الذين هم يراؤون * ويمنعون الماعون) سورة الماعون.
فالشبه كبير بين سورة المدثر وسورة الماعون، لأن التكذيب بيوم الدين كالكفر
بوجود الله، يخرج الإنسان من دائرة الإسلام إلى دائرة الإجرام، ولهذا فنحن أميل إلى
أن المقصود في السورتين بالمصلين، هو الصلة وليس الصلوة، وأميل في فهم الآيات على النحو الذي أسلفناه، لأن لنا في المصلين ومقيمي الصلاة قولاً نفصله فيما
بعد.ونعود إلى سورة المدثر وإلى قوله تعالى: (قالوا لم نك من
المصلين).

لقد قلنا إننا نميل إلى اعتبار المصلين في الآية من الصلاة الصلة وليس من الصلوة
الركوع والسجود، وذلك بدلالة ما سلف قوله، مضافاً إليه أمرين: 1 – يقول تعالى

في سورة المدثر الآية 26: (سأصليه سقر). والمقصود هو
الوليد ابن المغيرة، الذي أدبر واستكبر حين سمع التنزيل الحكيم، وقال إنه سحر من
قول البشر. والوليد بن المغيرة بحسب المصطلح القرآني مجرم كافر بوجود الله منكر
ليوم القيامة مكذب بالبعث، والله سبحانه سيصليه سقر لهذا السبب. فحين يسأل أصحاب
اليمين المجرمين ما سلككم في سقر، فإننا نفهم بأن الوليد من بين هؤلاء المجرمين
الكافرين بوجود الله المكذبين بيوم الدين !! ونرى من السطحية بمكان أن يجيب الوليد
بأن سبب دخوله النار، هو أنه لم يكن من مقيمي الصلوة .. إذ لا تعد الصلوة بجانب
الإجرام شيئاً مذكوراً. 2- لا خلاف في أن سورة المدثر وسورة الماعون من السور
المكية، بينما نزلت الصلوة في المدينة المنورة (أو في المعراج كما يقولون (؟)) وحدث هذا في آخر المرحلة المكية بعد سورة المدثر. فكيف يعقل أن يعتبر الوليد نفسه تاركاًلأمر لم يعاصر التكليف به، بل والأكثر من ذلك، أن يعتبرها أحد أسباب دخوله النار.


علماً أنه في ذلك الوقت لم يكن الصحابة أنفسهم قد أقاموا الصلوة.
إن للمجرمين في التنزيل الحكيم صفات مميزة يعرفون بها: 1 – فهم لا يخفون
أنفسهم (يعرف المجرمون بسيماهم ..) الرحمن 41. 2 –
ويضحكون من المسلمين المؤمنين بالله واليوم الآخر ويستهزئون بهم (إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون) المطففين 29.
3- وقطعوا كل صلة لهم بالله، بدلالة تسميتهم مجرمين. 4 – ليس لهم وقفة أمام
الله في الآخرة، وليس لهم كشف حساب مفتوح عنده، إذ ليس مع الإجرام ذنب (.. ولا يسئل عن ذنوبهم المجرمون) القصص 78. 5- المجرمون
المكذبون المستهزئون حصة الله تعالى في الحياة الدنيا، لقوله: - (فذرني ومن يكذب بهذا الحديث، سنستدرجهم من حيث لا يعلمون) القلم
44. - (إنا كفيناك المستهزئين) الحجر 95.
وهذه الصفات التي اختاروها لأنفسهم، هي التي تدخل بهم إلى أعمق وديان جهنم،
وتميزهم عن المسلمين المؤمنين الذين شاب صلوتهم المكتوبة سهو أو غفلة لسبب أو لآخر.

وهكذا نرى أن قوله تعالى (فويل للمصلين * الذين هم عن صلاتهم
ساهون) تعني المسلم الذي انتقل من حالة الإسلام إلى حالة الإجرام، أي أنه
كان مسلماً فانتقل إلى الإلحاد، ولاتعني مطلقاً المتقاعس عن أداء الصلوات
الخمس.

ونختم مقالنا بقولنا إن الإسلام لا يتم إلا بالصلة بالله (الإيمان بالله واليوم
الآخر) وقد ورد ذلك في قوله تعالى: (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي
ومماتي لله رب العالمين * لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين)
الأنعام 162، 163.


نلاحظ في آيتي الأنعام أن الصلاة جاءت من الصلة وجاء في آخر الآية ذكر المسلمين.
أما قوله (.. وأنا أول المسلمين) فتعني أن الإسلام الذي
بدأ بنوح آل إلي ، أي انتهى بي ، وإلا فكيف يكون نوح من المسلمين وإبراهيم أبا
المسلمين ثم يصبح محمد أول المسلمين؟ هنا الأول بمعنى النهاية والمآل. وهذا ينطبق
مع قوله تعالى: وأنا أول المسلمين ===> اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم
نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا.وأنا أول المسلمين ==> ولكن رسول الله وخاتم
النبيين.كما ورد في سورة المعارج وهي مكية قوله تعالى: - (إن الإنسان خلق هلوعا * إذا مسه الشر جزوعا * وإذا مسه الخير منوعا * إلا المصلين * الذين هم على صلاتهم دائمون) المعارج 19-23. وكذلك قوله
تعالى: - (والذين هم بشهاداتهم قائمون والذين هم على صلاتهم
يحافظون * أولئك في جنات مكرمون) المعارج 33-35. ونلاحظ أن الصلاة جاءت في
الحالتين من الصلة وليس من الصلوة، لأن سورة المعارج من السور المكية.
المصلون ومقيمو الصلاة:
لقد رأينا أن من الضروري توضيح معنى الصلاة، جرياً وراء التوفيق ورفع اللبس بين
قوله تعالى في سورة الماعون (فويل للمصلين * الذين هم عن صلاتهم
ساهون) واعتبار هذا القول موجهاً للمتقاعس عن أداء الصلاة بأوقاتها، كما ترى
كتب التفسير، وبين قوله تعالى في سورة المرسلات (ويل يؤمئذ
للمكذبين * … * كذلك نفعل بالمجرمين).

واللبس يتلخص في أن الله سبحانه يتوعد المؤمن المتقاعس عن الصلاة بالويل (وهو
واد سحيق من وديان جهنم)، ويتوعد به في ذات الوقت المجرمين المكذبين. ومن المستحيل
أن يستوي في عدل الله سبحانه المسلم المؤمن المقصر في أداء الشعائر، والمكذب المجرم
الكافر بوجود الله والمنكر للبعث ولليوم الآخر، وهو الذي يقول في محكم تنزيله:
- (أفنجعل المسلمين كالمجرمين * ما لكم كيف تحكمون)
القلم 35، 36.

والحل في رأينا، يكمن في مفهوم الصلاة ذاتها.فقد وردت الصلاة في التنزيل الحكيم
بمعنيين محددين يختلف أحدهما عن الآخر في الشكل، ويلتقي معه في المضمون، فالصلاة في
الحالتين صلة بين العبد وربه أساسها الدعاء. ولكن هذه الصلة أخذت منذ إبراهيم شكلين هما:

1 – صلة بين العبد وربه قالبها الدعاء، لا تحتاج إلى إقامة وطقوس، يؤديها كل
إنسان له بالله صلة على طريقته الخاصة. (وقد وردت في التنزيل الحكيم “الصلاة”
بالألف). ومن يقوم بها هو من المصلين، إذ يكفي أن تقول (يا رب ساعدني) أو تقول
(سبحان الله وبحمده) حتى تكون من المصلين . 2 – صلة بين العبد وربه، لها طقوس
وحركات محددة خاصة بها، كالقيام والركوع والسجود والقراءة، وتحتاج إلى إقامة، أي
على الإنسان أن يقوم ليؤديها. (وقد وردت في التنزيل الحكيم “الصلوة” بالواو). وهي
من شعائر الإيمان. فإذا أردنا أن نفرق بين كل من هذين المعنيين في التنزيل
الحكيم، فما علينا إلا أن ننظر في قوله تعالى: - (رجال لا
تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلوة وإيتاء الزكاة، يخافون يوماً تتقلب
فيه القلوب والإبصار) النور 37. هنا الصلوة (بالواو). - وفي قوله تعالى:
- (ألم تر أن الله يسبح له من في السموات والأرض والطير صافات
كل قد علم صلاته وتسبيحه، والله عليم بما يفعلون) النور 41. هنا الصلاة
(بالألف).

ونلاحظ أن الصلوة وردت في الآية الأولى بالواو، وبعد فعل الإقامة، ونفهم هنا
أنها بمعنى القيام والركوع والسجود، أما في الآية الثانية، فقد وردت الصلاة بالألف
(صلاته)، والحديث فيها عن الطيور. ولما كنا نعلم أن الطيور لا تقيم الصلوة الطقسية
المحددة بالركوع والسجود والقيام والقعود، فإننا نفهم أنها هنا بمعنى الصلة مع
الله. وهي صلة تسبيح ودعاء يعلمها الطير ولا نعلمها نحن، لولا أن أخبرنا تعالى
بوجودها.
نخلص إلى أن التنزيل الحكيم قد ميز في النطق سماعاً من جبريل وفي الخط كتابة بعد
التدوين، بين الصلوة والصلاة. ليدلنا على وجوب تمييز المعنى المقصود من الأولى
وأنها القيام والقعود والركوع والسجود، والمعنى المقصود من الثانية وأنها صلة تسبيح
ودعاء تنبع من إقرار بوجود صلة بين العبد وربه. فإذا وقفنا أمام قوله تعالى:
(إن الله وملائكته يصلون على النبي، يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما) الأحزاب 56

وفهمنا أن فعل “يصلون” وفعل “صلوا” هو من الصلوة، يصير معنى الآية أن الله
وملائكته يقومون ويقعدون ويركعون ويسجدون على النبي، سبحانه وتعالى علواً كبيراً.
وأن على الذين آمنوا أن يركعوا ويسجدوا أيضاً على النبي.

ولكن الفعلين في الآية من الصلاة، أي الصلة، فيصبح معنى الآية أن هناك صلة بين
الله وملائكته من جهة، وبين النبي من جهة ثانية، وأن الله يطلب من المؤمنين أن
يقيموا صلة بينهم وبين النبي، قال بعضهم إنها الدعاء. وأنا أرى أنها أكثر من ذلك،
ففي أذان الصلوة ذكر لله والرسول، وفي القعود الأوسط والأخير ذكر للنبي ولإبراهيم.
ذكر النبي لأنه أبو المؤمنين، وذكر إبراهيم لأنه أبو المسلمين.


وأرى أن الله وملائكته يصلون على النبي، والمطلوب منا نحن أن نصلي عليه ونسلم.
ومن هنا فإن من الخطأ الفاحش أن نقول “اللهم صل وسلم على محمد” أو أن نقول “صلى الله عليه وسلم” لأن الله يصلي على النبي ولا يسلم، والمطلوب منا نحن أن نصلي ونسلم.
فالقاسم المشترك بين الله وملائكته من جهة، والمؤمنين من جهة أخرى هو الصلاة على النبي، إلا أن ثمة خصوصية للمؤمنين فقط هي التسليم، ولهذا قال (..
وسلموا تسليما) ولم يقل (وسلموا سلاما). أي أن علينا نحن المؤمنين أن نسلم
بوجود هذه الصلة بين الله وملائكته والنبي، وبيننا نحن وبين النبي فالتسليم هو
الإذعان والقبول بلا قيد ولا شرط، كما في قوله تعالى: (ياأيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً * وسبحوه بكرة وأصيلا * هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور، وكان بالمؤمنين رحيما)
الأحزاب 41، 42، 43.

الله وملائكته هنا يصلون على المؤمنين .. فهي ليست صلوة، بل صلة وصلاة عمودها
الهدى وقائمها الرحمة. ونتابع قوله تعالى:- (إن الله وملائكته
يصلون على النبي، يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما) الأحزاب
56.

الله وملائكته هنا يصلون على النبي، باعتبار النبي من المؤمنين الذين خاطبتهم
الآية 43، ثم يأتي أمر الله للذين آمنوا أن يصلوا هم أيضاً عليه ويسلموا تسليما.
ويقف المؤمنون حائرين .. لأن صلاة الله وملائكته على النبي هدى ورحمة، وهم لا
يملكون للنبي هدى ولا يملكون له رحمة .. فكيف يصلون عليه؟ .. وتنزل الآيتان بعدها
مباشرة: - (إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا
والآخرة وأعد لهم عذاباً مهينا * والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوه
فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبينا) الأحزاب 57، 58

هنا اتضحت الصورة وتلاشت الحيرة وانكشف اللبس. فالله وملائكته يصلون على
المؤمنين رحمة وهدى، ويصلون على النبي باعتباره من المؤمنين أيضاً رحمة وهدى، وهذا كله منسوباً إلى الله ومن زاويته. أما من زاوية المؤمنين، فهم مأمورون بالصلاة على النبي. لكن النبي بالنسبة إليهم رسول، وإذا ما أمرت الآية 58 بكف الأذى مطلقاً وبكل أنواعه عن المؤمنين والمؤمنات والنبي من بينهم، فإن الآية 57 تشير إلى أن إيذاءه كرسول أبلغ أثراً، وأشد عند الله عقاباً، فالذي يؤذي الرسول يطرد من الرحمة (التي وردت في الآية 43) في الدنيا والآخرة.


ويتعرض لما أعده الله له من عذاب مهين. أما لماذا أمرنا بالصلاة على النبي من
مقام النبوة وليس من مقام الرسالة، (أي لم يقل يصلون على الرسول) فهذا أمرٌ له بحث خاص.

وكذلك صلاتنا على النبي هو عدم تعريضه للأذى. وإيذاؤه يكون بالبهتان إلى ما
ينسب له من أقوال ، ونقول بأن أقواله هذه هي وحي، فهذا إيذاء لله وللرسول (ص)، ولا أرى أمة آذت الله ورسوله كأمتنا في القرن الأول الهجري بقدر ما انتحلوا عليه من
أقوال وكلها بهتان نسبوها له ولله سبحانه.

والذين انتحلوا عليه هم من أمته وقومه، ولم يأتوا من الصين أو من بلاد الفرنجة.
وقد ابتدع السادة العلماء الأفاضل علماً قائماً بذاته اسمه الجرح والتعديل وطبقات
الرجال، ولكن لم يقولوا لنا لماذا ابتدعوا هذا العلم الذي لم يسبق له مثيل بهذا
الحجم في التاريخ كله وهل هذا خير القرون؟

لقد ورد الأصل (صلو) ومشتقاته في التنزيل الحكيم 99 مرة، جاء لفظ (الصلوة)
بالواو في 67 موضعاً منها. ونلاحظ في هذه المواضع أن الصلاة ارتبطت بالإقامة حيناً
وبالزكاة حيناً أو دل سياق الآية بمعناها العام أن المقصود هو القيام والقعود
والركوع والسجود، وليس الصلة.

ونقرأ قوله تعالى: - (الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلوة
ومما رزقناهم ينفقون) البقرة 3. - (وجعلني مباركاً أينما كنت وأوصاني بالصلوة والزكاة ما دمت حيا) مريم 31. - (إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلوة فهل أنتم منتهون) المائدة 91. أما حين تأتي مضافة فنجدها حيناً بالواو وحيناً بالألف. - (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم، إن صلوتك سكن لهم، والله سميع عليم) التوبة 103. - (قل ادعوا الله وادعوا الرحمن، أيا ما تدعون فله الأسماء الحسنى، ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا) الإسراء 110. - لكنها في الحالتين لا تخرج عما ذكرنا. فالصلوة في التوبة، والصلاة في الإسراء هي الصلة بالدعاء، كما هو واضح. - وكما أن فعل الصلاة والصلوة واحد، صلى / يصلي / صل/ يصلون، فكذلك الجمع منهما واحد. فالصلوات
جمع الصلاة بمعنى الصلة، والصلوات جمع الصلوة بمعنى الركوع والسجود. يقول تعالى:
(أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة، وأولئك هم المهتدون) البقرة 157. - (ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول ..) التوبة 99. وهي هنا جمع الصلاة بمعنى الصلة. - (حافظوا على الصلوات والصلوة الوسطى وقوموا لله قانتين) البقرة 238.


وهي هنا جمع الصلوة وهي الركوع والسجود. ومن المفيد أن نشير استطراداً إلى أن
المقصود بالصلوة الوسطى في الآية، هي الصلوة المعتدلة الخاشعة المطمئنة التي تكاملت أركانها بلا إفراط ولا تفريط، وليست صلوة العصر كما يحلو لبعض المفسرين أن يزعموا. وإن مفهوم الوسطية هو أن نكون من أحسن الأمم ولا يعني كما يقال حالة بينَ بين .
فإذا سأل سائل عن قوله تعالى: - (قالوا يا شعيب أصلوتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا ..) هود 87.
- (الحمد لله الذي وهب لي على الكبر اسماعيل واسحق، إن ربي لسميع الدعاء * رب اجعلني مقيم الصلوة ومن ذريتي، ربنا وتقبل دعاء) إبراهيم
39، 40. - وهذا يعني أن الصلوة بركوعها وسجودها وقيامها وقعودها كانت معروفة
منذ إبراهيم .. فأين ضاعت هذه الصلوة ولم تصل إلى عهد النبي (ص)؟ نقول، لقد جاء
جواب ذلك في صورة مريم بقوله تعالى:- (أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا، إذ تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجداً وبكيا فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلوة واتبعوا الشهوات، فسوف يلقون غيا) مريم 58، 59. -

ونفهم هنا ان صلوة الركوع والسجود التي كانت عند إبراهيم واسماعيل وشعيب وعيسى وزكريا قد ضاعت عند الخلف من بعدهم، لكن صلاة الصلة بالله بقيت موجودة ولم تنقطع، بدليل قوله تعالى عن مشركي العرب: - (ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله ..) لقمان 25.

فالمشركون يعرفون أن الخالق هو الله، وعلى هذا فقد سماهم التنزيل مشركين ولم
يسمهم مجرمين، واعتبروا عبادتهم للأصنام نوعاً من الصلة مع الله في زعمهم، لقوله
تعالى: - (والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا
ليقربونا إلى الله زلفى ..) الزمر 3 .

وهكذا نستنتج أن المصلين هم المسلمون، فإذا أصبحوا مقيمي الصلوة فهم من
المؤمنين
.
والحمد لله رب العالمين …..
مجلة روز اليوسف

يااااااااااااااه

يااااااااااااااه
سبحان الله العظيم .سبحان الله وبحمده

قول في البشر والإنسان (1)

الدكتور محمد شحرور ................................


قال تعالى : (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ
الخلق) (العنكبوت 20)
هذه الآية فيها أمر واضح صريح من خالق الكون بأنه يمكن بالنظر معرفة بداية
الخلق، علماً بأننا لم نشهد بداية الخلق بالنسبة للكون، وبالنسبة للنظام الشمسي،
وبالنسبة للحياة والكائنات الحية (ما أشهدتهم خلق السموات والأرض
ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا) فإذا ربطنا هذه الآية مع الآية
السابقة (قل سيروا في الأرض..) يمكن أن نميز أننا لم نشهد
خلق السموات والأرض شهادة شهيد، ولكننا شهدناها شهادة شاهد، فالشهيد سميع بصير،
والشاهد خبير عليم. فنحن الآن شاهدو معركة بدر لأننا علمنا بها وبتفاصيلها.
أما شهداء معركة بدر فهم الذين حضروا المعركة من المؤمنين والمشركين، من قُتِلَ
ولم لم يُقتل أسوة بقول النبي (ص) (قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار). أما إطلاق
الشهادة على القتيل في المعركة فهذا مصطلح ليس له علاقة بالتنزيل الحكيم.
فالشهيد من شهد عقد البيع (ولا يضار كاتب ولا شهيد)
ونحن شهداء على الناس ، فهل نحن قتلى؟ علماً بأنه تعالى حين قال (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس) (البقرة143)
فإن هذا يعني أن الأمة المحمدية سيكون لها وجود إلى أن تقوم الساعة ولن تنقرض، وهذا
لايعني أنها أعلم وأحسن أمة. والشهيد من شهد واقعة الزنا. أقول هذا لأنه لايوجد أي
تناقض بين آية (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق)
وبين (ما أشهدتهم خلق السموات والأرض ..) .
فالرسول (ص) شهد على وحدانية الله شهادة شاهد، لاشهادة شهيد (يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيرا) (الأحزاب
45)، وكذلك فإن العلماء – وليس السادة العلماء الأفاضل – هم الشهداء وفي صدر الجنة.
فعالم الجيولوجيا شهد العينات من الأرض وبحث واستنتج العصور الجيولوجية ، فهو شهيد
العينات، شاهدُ العصور الجيولوجية . والصحفي شهيد الحدث، ومن جراء شهادته يصبح بقية
الناس شاهدين. فمهنة الصحفيين لاتقل عن مهنة كبار العلماء. (سنتحدث في مقال لاحق عن
الشاهد والشهيد بتفصيل أكثر).
نحن لسنا شهداء الانفجار الكوني، ولكننا شاهدو هذا الانفجار، ولسنا شهداء خلق
المجموعة الشمسية ولكننا شاهدو خلق هذه المجموعة. ولسنا شهداء بداية الحياة وتطورها
حتى الوصول إلى البشر ثم الإنسان، ولكننا شاهدو هذا الخلق. كل هذا بفضل العلماء
أمثال نيوتن وكبلر وكوبرنيك وإينشتاين وداروين ومئات آخرين ، لأنهم كلهم ساروا في
الأرض وتعبوا وأمضوا عمرهم في البحث عن بداية الخلق، ومشوا في الخط الصحيح للآية
(قل سيروا في الأرض) . ومع الأسف وصلنا إلى أن نكون شاهدين، ليس من كتب الأثر ولا
من تفسيرات ابن عباس ومجاهد وعكرمة.
وإني أسأل السادة العلماء الأفاضل الذين يتحدثون عن خلق الإنسان أن يخبروني من
مشى منهم متراً واحداً لينظروا كيف بدأ الخلق. مع الأسف غيرنا مشى في الأرض وحفر
وفحص واستنتج. ونحن في هذا نعيش عالة عليهم، وليس عندنا إلا ما ورد في كتب الأثر
بأن طول آدم ستون ذراعاً. علماً بأن التنقيبات وصلت إلى آثار بشر منذ أربع ملايين
سنة، ولم نعثر على أثر لهذا المخلوق. وأن آدم عاش ألف سنة وعندما مات غسلته
الملائكة وكفنته ودفنته. أي أن البشر منذ آدم كانت تعرف التغسيل والتكفين والدفن،
فكيف ابنا آدم الواردة قصتهم في سورة المائدة لم يعرفا ذلك؟
في هذا الموضوع أستطيع أن أستفيض وأكتب مئات الصفحات، ولكني فضلت هذا المدخل لكي
أقول أن ما ورد في الأثر عن خلق الكون والإنسان، وليس في التنزيل الحكيم، يجب أن
لاينظر إليه ولا يؤخذ على محمل الجد. وعلى هذا الأساس نستطيع أن ندخل على مدخل
بداية الحياة وتطورها، وظهور الكائنات الحية، وظهور البشر، ثم تحويل هذا البشر إلى
إنسان بنفخة الروح .
تبدأ الحياة على الأرض بوحيد الخلية الذي عاش مليارات السنين وهو يطلق الأوكسجين
ويتغذى على ثاني أوكسيد الكربون حتى تم إشباع مياه البحار بالأوكسجين، ثم انطلق
الأوكسجين في الجو حتى ارتفعت نسبة الأوكسجين من واحد بالمائة إلى واحد وعشرين
بالمائة. ومن هنا سمى الكائن الحي نفساً، لأن الكائن الحي يحتاج إلى أوكسجين.
والتنفس (استهلاك الأوكسجين) تبدأ من وحيد الخلية إلى البشر. لذا فالنفس والتنفس
تدل على الكائن الحي فقط وهذه النفس الحية هي التي تموت (ماكان
لنفس أن تموت إلا بإذن الله) و (وجاهدوا بأموالهم
وأنفسهم) و (الذي خلق الموت والحياة) فالحياة
والموت لهما وجود موضوعي (Objective) ولا علاقة له بنا ولا علاقة لهم بالقوانين
الذاتية (Subjective) .
فانتماؤنا نحن إلى الكائنات الحية ضمن فصيلة هي البشر. والبشر هو تباشير
الإنسان. ويجب أن نميز بين البشر والإنسان انطلاقاً مما قلنا سابقاً بأن التنزيل
الحكيم خالٍ تماماً من الترادف والحشوية والعبث .
البشر والإنسان:
لقد ورد مصطلح البشر في الكتاب ليعبر عن الوجود الفيزيولوجي لكائن حي له صفة
الحياة كبقية المخلوقات الحية وقد نمت الحياة وتطورت عن طريق البث الذي يحتوي على
الطفرات الحياتية التي أدت إلى ظهور البشر وقد تميز البشر في الظهور ككائن حي مستقل
في الفترة التي ظهرت فيها الأنعام (خلقكم من نفسٍ واحدةٍ ثم جعل
منها زوجها وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقاً من بعد
خلقٍ في ظلمات ثلاثٍ ذلكم الله ربكم له الملك لا إله إلا هو فأنى تصرفون).
(الزمر6).
ففي هذه الآية نلاحظ أن وجود الإنسان البشري قد تزامن مع ظهور الأنعام. وكيف أن
الإنسان في رحم الأم يمر بكل مراحل التطور التي مر بها وهي الظلمات الثلاث وهي
المرحلة الحيوانية البحرية والمرحلة الحيوانية البحرية البرية والمرحلة الحيوانية
البرية. وعندما شرح الكتاب إحدى مراحل خلق الإنسان بالمعنى العام وذلك بالمقارنة مع
الجان قال: (ولقد خلقنا الإنسان من صلصالٍ من حمأ مسنون) (الحجر 26). هنا نلاحظ
أيضاً أنه استعمل الإنزال للأنعام وليس التنزيل، وكذلك استعمل الإنزال للحديد
واللباس. وعلى الباحثين أن يدققوا هذا جيداً وخاصة بالنسبة للحديد.
وعندما أعطى التفصيل أتبعها بقوله: (وإذ قال ربك للملائكة إني
خالق بشراً من صلصالٍ من حمأ مسنون) (الحجر 28) . (فإذا
سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين) (الحجر 29). وبعد نفخة الروح أمر
الله إبليس بالسجود فأجاب: (قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال
من حمأ مسنون) (الحجر 33). وفي سورة “ص” قال: (إذ قال ربك
للملائكة إني خالق بشراً من طين) (ص71). (فإذا سويته ونفخت
فيه من روحي فقعوا له ساجدين) (ص72).
وقد قلنا: إن الخلق هو التقدير قبل التنفيذ. لذا فعندما قال للملائكة: (إني خالق بشراً) فهذا يعني أن البشر لم يظهر بعدُ لذا اتبعها
بقوله: (فإذا سويته). ثم اتبعها بقوله (ونفخت فيه من روحي) وبين الخلق والتسوية توجد الأداة “إذا” وهي
ظرف لما يستقبل من الزمن. لذا قال (هو الذي خلقكم من طين ثم قضى
أجلاً وأجل مسمى عنده ثم أنتم تمترون) (الأنعام 2). ثم استعمل أداتين معاً
وهما “ثم وإذا” في قوله: (ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم
بشر تنتشرون) (الروم 20) وقد استعمل هاتين الأداتين معاً بسبب الفارق الزمني
الطويل بين التراب “المواد غير العضوية” وبين البشر هذه المرحلة التي أخذت مئات
الملايين من السنين. وقد بين أن الانتشار في الأرض حصل في مرحلة البشر قبل نفخة
الروح وأن البشر كان منتشراً قبل مرحلة الأنسنة. وأن البشر هو الشكل المادي الحيوي
الفيزيولوجي الظاهري للإنسان حيث أن الإنسان هو كائن بشري مستأنس غير مستوحش
“اجتماعي”.
وقد أجمل خلق الإنسان في بداية التنزيل في قوله: (خلق الإنسان
من علق) (العلق 2). والعلق جاء من “علق” وفي اللسان العربي علق به و علقه:
نشب به، كقول جرير يصف شجاعاً:
إذا علقت مخالبهُ بقرنٍ * أصاب القلب أو هتك الحجابا
وفي ابن فارس العين واللام والقاف أصل كبير صحيح يرجع إلى معنى واحد وهو أن يناط
الشيء بالشيء ثم يتسع الكلام فيه .لقد فهم المفسرون العلق على أنه الدم الجامد
وهو تأويل لا يتطابق تمام التطابق مع الحقيقة وذلك لجهلهم بوجود الخلية المنوية
والبويضة واللقاح الخلوي.
فالعلق هو أن يعلق شيء بشيء آخر ومفردها “علقة” لذا قال: (من نطفةٍ ثم من علقةٍ)
فوضع العلقة بعد النطفة وهي مفرد وتعني دخول الحيوان المنوي إلى البويضة “تعلق شيء
بشيء آخر” وهذا ما نسميه اللقاح وهو ما نقول عنه الآن في المصطلح الحديث “علاقة”
فالعلق جمع علقة “أي علاقات” وقوله: (خلق الإنسان من علقٍ). أي أن الإنسان مخلوق من
مجموعة من العلاقات هذه العلاقات التي نقول عنها في المصطلح الحديث علاقات فيزيائية
وكيميائية معدنية وعضوية وبيولوجية الخ.
ثم لنلاحظ أن قوله (خلق الإنسان من علق). قد جاءت في بداية الوحي للتنويه بأن
الوجود المادي هو مجموعة كبيرة من العلاقات المتداخلة بعضها ببعض، ومن هذه العلاقات
لا من خارجها تم خلق الإنسان. وذلك للدلالة على أن الوجود المادي خارج الوعي
الإنساني هو مجموعة من العلاقات.
1 – الآيات التي ذكر فيها البشر تعني الوجود الفيزيولوجي المادي للإنسان وذلك
للدلالة على جنسه كبشر وليس ملكاً أو من جنس آخر:
- (قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر) (آل عمران
47).- (قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك
بغياً) (مريم 20).- (فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها
بشراً سوياً) (مريم 17).إن هذه الآيات تبين أن مريم قد رأت روح الله في
صورة بشرٍ بحت لا في صورة ملكٍ أو جن ولذلك قال: “سويا”.
2 – (ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول
للناس كونوا عباداً لي من دون الله) (آل عمران 79) .(وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً
فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم) (الشورى 51).هنا يؤكد طريقة الوحي
للجنس البشري لأنه لو كان جنساً آخر لكان من الممكن أن تكون طريقة الوحي غير الذي
ذكر فمثلاً في الوحي للنحل، والنحل ليس بشراً كقوله: (وأوحى ربك
إلى النحل) (النحل 68) فهذا يعني أن طريقة وحي الله للنحل غير طريقة وحي
الله للبشر. ولكي يؤكد أن المسيح بشر والبشر إذا أوحي إليه من الله لا يقول للناس
كونوا عباداً لي. فإذا حصل أن قال أحد من البشر للناس كونوا عباداً لي فهذا يعني
أنه دجال ولم يوح إليه شيء.
3 – (ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر) (النحل
103).(إن هذا إلا قول البشر) (المدثر 25).
هنا أكد أن الذي يكلم النبي (ص) ليس من البشر أي ليس من جنس النبي (ص) وإنما
يعلمه الله عن طريق الوحي وهو ليس من البشر. وقول الوليد بن المغيرة إن الذي يوحى
إلى محمد هو من قول البشر أي من قول مخلوق من جنسنا.
4- (ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه) (المؤمنون 33). هنا أكد أن
الطعام من صفات البشر وأن الرسل الذين أرسلهم الله كانوا من البشر يأكلون كما تأكل
بقية الناس.
5 – (بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذبُ من
يشاء) (المائدة 18). (وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما
أنزل الله على بشرٍ من شيء) (الأنعام 91)، والآية (إبراهيم 10)، والآية
(إبراهيم 11). والآية (الكهف 110). والآية (المؤمنون 24)، والآية (الشعراء 186).
والآية (هود 27)، والآية (يوسف 31)، والآية (الإسراء 94)، والآية (المؤمنون 34) ،
والآية (القمر 24) ، والآية (المؤمنون 47) . هنا نلاحظ في تلك الآيات السابقة
ذكر البشر في مجال الجنس الفيزيولوجي المادي أي أنه كبقية الناس لهم أيدٍ ومعدة
ووجه وباقي الأعضاء ويأكلون كبقية الناس ولكن يتميزون عنهم فقط بالوحي لذا قال (بشر
مثلنا)، (لبشرين مثلنا). وقد قارن البشر كجنس بأنه ليس ملائكة بقوله في مجال
المقارنة مع البشر. (ولو شاء الله لأنزل ملائكةً).
(المؤمنون 24) والملائكة ليسوا من جنس البشر وذلك أن الناس تعودوا بأن ينزل الله
ملائكة رسلاً قبل أن يبعث الله رسلاً منهم بصفة بشرية ولذا كان هذا الاستغراب
الكبير.
6 – (سأصليه سقر * وما أدراك ما سقر * لا تبقي ولا تذر *
لواحةٌ للبشر * عليها تسعة عشر) (المدثر 26، 30).هنا بين أن العذاب جسدي
فيزيولوجي بحت قال عن سقر بأنها (لواحة للبشر) ولكي يبين أن إيراد ذكر سقر في
الكتاب هو لهذا الجنس الذي هو البشر.
7 – الآيات التي جاء فيها الإنسان “الناس″ تعني الكائن العاقل:لقد ورد
الإنسان والناس في عدة آيات بمعنى الكائن العاقل ولكن يجب أن نميز بين أصل إنسان
وهو من “أنسن” وتعني في اللسان العربي ظهور الشيء وكل شيء خالف طريقة التوحش ومنه
الإنس أي أنس الإنسان بالشيء إذا لم يستوحش منه ويقال إنسان وإنسانان
وأناسي.فالإنسان هو البشر المستأنس غير المتوحش، أي له علاقة اجتماعية وصلة مع
غيره، أما الناس فقد جاءت من “نوس″ وهو في اللسان العربي أصل يدل على اضطراب وتذبذب
فعندما اجتمع الإنسان مع أخيه الإنسان تولد عن هذا الاجتماع اضطراب وتذبذب في
الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، أي لم تسر الحياة بشكل رتيب كما عند بقية
المخلوقات كالنحل وأصبحوا ينوسون أي ينتقلون من مكان إلى آخر بشكل واع. وكلما ازداد
الإنسان في تقدمه الإنساني زاد النوسان.
فإذا تصفحنا آيات الكتاب التي تحتوي على لفظة الإنسان والناس نراها تدور حول
المواضيع التالية:1 – (ومن الناس من يقول ..) (البقرة
8)، (وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس .. الآية). (البقرة
13)، (يا أيها الناس اعبدوا ربكم .. الآية). (البقرة 21)،
والآية (البقرة 83)، والآية (البقرة 44)، والآية (البقرة 96)، والآية (البقرة 142)،
والآية (البقرة 164)، والآية (الروم 41)، والآية (البقرة 185)، والآية (النساء
174)، والآية (المائدة 44)، والآية (المائدة 49)، والآية (الناس 5)، والآية (سبأ
28)، والآية (البقرة 188)، والآية (هود 103)، والآية (يوسف 103).نلاحظ أن هذه
الصيغة كلها صيغ للعاقل ودائماً يوجه الخطاب في الكتاب في قوله (يا أيها الناس).
ولم يقل أبداً يا أيها البشر.2 – (إن الإنسان لظلوم
كفار). (إبراهيم 34)، (ويدع الإنسان بالشر دعاءه
بالخير) (الإسراء 11)، (إن الإنسان لكفور مبين)
(الزخرف 15)، (إن الإنسان خلق هلوعاً). (المعارج 19)،
(يقول الإنسان يومئذٍ أين المفر) (القيامة 10)، (ووصينا الإنسان بوالديه إحساناً) (الأحقاف 15). هذه الصفات كلها
للمخلوق العاقل.3 – عندما ذكر خلق الإنسان أعطاه في جملة كقوله (خلق الإنسان من علق). وعندما أعطى التفاصيل وطريقة الخلق ذكر
البشر كقوله (إني خالق بشراً).
نلاحظ الفرق الواضح بين البشر والإنسان فالبشر هو الوجود الفيزيولوجي المادي
للإنسان ككائن حي ضمن مجموعة مخلوقات حية. إن القردة كائنات حية والأنعام كائنات
حية لذا عندما ندرس جسم الإنسان في الجامعة ككائن حي فقط نقول” كلية الطب البشري”
ولا نقول كلية الطب الإنساني. فالبشر هو تباشير الإنسان أوله حيث تباشير كل شيء
أوائله. وعندما نقول العلوم الإنسانية فإننا نقصد علوم اللغات والتاريخ والفلسفة
والحقوق والشريعة والسياسة والاقتصاد وعلم النفس والفنون بأنواعها.
أي العلوم التي تتعلق بالإنسان ككائن حي عاقل له سلوك واع. والعلم الوحيد الذي
يجمع البشر والإنسان هو علم النفس الذي يجمع البشرية والإنسانية، وهو يدرس في كلية
الطب، وفي علوم الاجتماع والسياسة. وآدم هو أبو الإنسان وليس والد البشر، ولو ميز
السادة العلماء الأفاضل بين الأب والوالد لعرفوا ذلك. فالوالد والوالدة لهما مفهوم
بيولوجي، والأب والأم له مفهوم إنساني. وإن النسب للأب والأم وليس للوالد والوالدة،
لأن الحيوانات لها والدان ولا أنساب لها. ويجب أن نعلم أن الله نفخ الروح في آدم
فتأنسن ، ولم ينفخ الروح في بقية المخلوقات (كالقردة وغيرها) لذلك لم تتأنسن هذه
المخلوقات. أي أن نفخة الروح هي الحلقة المفقودة في نظرية النشوء والارتقاء .
أي أن لدينا المعادلة التالية :
بشر + روح = إنسان ، وهذا يعني أن البشر هو (النفس) ، والروح هي (المعرفة
والتشريع) . وبما أن الوحي عبارة عن مجموعة من التشريعات والمعلومات فقد سماه روح.
بشر = وجود موضوعي ، روح = ذاتي ، إنسان = الذات والموضوع.
على ضوء ما سلف لنناقش قوله تعالى (إن مثل عيسى عند الله كمثل
آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون) (آل عمران 59) نقول ما يلي: بما أن
الله سبحانه وتعالى لاتنطبق عليه معادلة الزمكان (الزمان والمكان) لذا فالثانية عند
الله والمليون سنة سيان. فإذا خلق الله عيسى خلال ثانية أو دقيقة أو تسعة أشهر، وتم
خلق آدم وتسويته خلال مئات ملايين السنين، فالفترة الزمنية لعيسى وآدم عند الله
سيان يكون عند عيسى ثوانٍ أو دقائق أو أشهر، ويكون عند آدم مئات الملايين من
السنين. أما بالنسبة لنا، ونحن نعيش على محور الزمن ولسنا خارجه، فإن عيسى وآدم
عندنا ليسا متماثلين لأننا لسنا آلهة. والدقيقة عندنا تختلف عن المليون سنة.
ومن جهة أخرى، وقعنا في حبائل الشيطان عندما افترضنا أن الله سبحانه وتعالى عنده
احتمال واحد في الخلق واحتمال واحد في المعرفة، فإذا تم خلق الإنسان كما ورد في كتب
الأثر، فهذا يعني أن الله خلقه وأن الله له علاقة بهذا الخلق. وإن قلنا أنه تم بغير
ذلك فيفهمونه كما لو أن الله لا علاقة له بذلك. ولماذا لا نقول أنه منذ أن تم خلق
وحيد الخلية على الأرض منذ ملايين السنين، والإنسان مبرمج ليظهر على سلم التطور
والارتقاء. وكل هذا بتدبير من الله عز وجل. فنحن لانسأل عند خلق الإنسان عن قدرة
الله في الخلق، ولكننا نسأل كيف تمت إرادة الله في خلق الإنسان. وهنا يدخل العلم
والمنهج العلمي والسير في الأرض، لا قراءة كتب الأثر . (لمزيد من التفاصيل حول هذا
الموضوع راجع كتابنا الأول (الكتاب والقرآن – قراءة معاصرة) الصادر عام 1990).
وسنبحث موضوع آدم ونشأة الإنسان في مقال آخر إن شاء الله. والحمد لله رب
العالمين .
مجلة روز اليوسف

حول نشأة آدم ونشأة الإنسان (2)

الدكتور شحرور ..............................

قلنا في المقال الأول أن الوجود الفيزيولوجي للإنسان كبشر بدأ قبل ملايين
السنين، وأن عملية الأنسنة تمت بنفخة الروح. فآدم أبو الإنسان وأبو التاريخ
الإنساني، وليس والد الوجود الفيزيولوجي البشري، وأن الحياة والموت خلق لاعلاقة
لهما بالروح (الذي خلق الموت والحياة) . وأن الحيوانات ليس لها روح وإنما هي أنفس.
وهنا تكمن ما يسمى بالحلقة المفقودة في نظرية النشوء والارتقاء، وهي نفخة الروح،
وهي تمثل الجانب الذاتي للإنسان، ومنها نشأت النفس التي تتوفى (الأنا الإنسانية)
وهذه النفس منها المطمئنة، ومنها اللوامة، ومنها الأمارة بالسوء. ولا يمكن أن تكون
هذه النفس إلا بكائن عاقل مدرك، عنده معارف وعنده تشريعات (قيم عليا)، وهذا من نتاج
نفخة الروح. أما الحمل ونبض القلب والدورة الدموية وكل هذه الأمور فلا علاقة للروح
بها وهي تؤلف النفس التي تموت، وهذا ما يبين تهافت كتب الأثر حول نشأة الحياة
والإنسان.
والآن ندخل في ظاهرة نفخة الروح وما نشأ عنها وكيف أن البشر بلغ مرحلة كان
جاهزاً فيها لنفخة الروح، وهي ما يعبر عنها بنشأة الإنسان، مع ترافق هذه النشأة
بنشأة الكلام الإنساني وهو النتاج الأول لنفخة الروح.
عندما بلغ البشر مرحلة متقدمة من التطور العضوي والنضج، أصبح مؤهلاً لنفخة الروح
وهذا التأهيل كان في ظاهرتين رئيسيتين هما: 1 – انتصاب الإنسان على قدميه
وتحرير اليدين وذلك في قوله تعالى: (يا أيها الإنسان ما غرك بربك
الكريم * الذي خلقك فسويك فعدلك * في أي صورة ما شاء ركبك) (الانفطار 6، 7،
8). فهنا نرى لفظة عدلك جاءت بعد التسوية، وعدل في اللسان العربي لها أصلان صحيحان
لكنهما متقابلان كالمتضادين أحدهما يدل على الاستواء والآخر على الاعوجاج. ونرى هنا
معنى عدلك هو معنى فيزيائي وليس اجتماعياً لأنه جاء في آية واحدة مع الخلق
والتسوية، والخلق والتسوية هنا لهما معان مادية وليست اجتماعية بمعنى العدل ضد
الظلم. ونرى هنا أن المعنى الأول هو الصحيح وهو الاستواء على قدمين، لأن
الإنسان الآن مستو على قدميه ومتحرر اليدين. هذه الظاهرة في الاستواء على القدمين
أعطت للإنسان بعداً إضافياً وهو تحرير اليدين من أجل ظاهرة العمل الواعي، فإذا
نظرنا إلى اليدين في الإنسان رأيناهما من أروع آلات العمل، تمتلكان قدرة هائلة على
المناورة في الحركات. وهنا بدأت مرحلة البشر المنتصب، وخير مثال عليها (لوسي) التي
وجدت بقاياها في أثيوبيا وذات العمر أكثر من أربعة ملايين سنة. 2 – نضوج جهاز
صوتي خاص به، وهذا الجهاز قادر على إصدار نغمات مختلفة بعكس بقية المخلوقات التي
تصدر نغمة صوتية واحدة. هذا الجهاز الصوتي عبر عنه في سورة الرحمن: (الرحمن * علم القرآن * خلق الإنسان * علمه البيان) فقوله: (علمه البيان) عن الرحمن فهذا يعني أنه تعلم اللغة بواسطة قوانين
مادية موضوعية وليس وحياً أو إلهاماً. وأول هذه القوانين هو وجود الجهاز الصوتي،
لاحظ أنه قال “الرحمن” ولم يقل “الله”.
أولاً: آدم وبداية نشأة الكلام الإنساني
لا يمكن للكلام أن يسمى كلاماً إنسانياً إلا إذا كان مقطعاً إلى مقاطع صوتية
متميزة بعضها عن بعض يصدرها الإنسان بشكل واعٍ.عندما أصبح البشر جاهزاً من
الناحية الفيزيولوجية لعملية نفخة الروح “الأنسنة”، وذلك بانتصابه على قدميه وتحرير
اليدين وبوجود جهاز صوتي قادر على إصدار النغمات المختلفة. وللدلالة على أنه أصبح
جاهزاً قال: (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفةً
قالوا أتجعل فيها من يُفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني
أعلم ما لا تعلمون) . (البقرة 30) .
نلاحظ في هذه الآية قوله: (إني جاعل). والجعل هو عملية
التغير في الصيرورة كقوله لإبراهيم (إني جاعلك للناس
إماماً). إذ لم يكن إبراهيم إماماً للناس فأصبح إماماً. واستعمال اسم الفاعل
في قوله: (إني جاعل) فيه دلالة على استمرار العملية كقوله:
(إني خالق بشراً من طين) (ص 71) ففي مراحل الخلق المختلفة
استعمل (إني خالق) فعندما قال (إني
جاعل) للدلالة على وجود البشر الذي تمت تسويته وأصبح جاهزاً لتغير في
الصيرورة ليصبح خليفة الله في الأرض أي لم يكن خليفة فأصبح ولكنه موجود مادياً.
لذا سأله الملائكة: (أتجعل فيها من يُفسد فيها ويسفك
الدماء) لنقارن هذا القول مع قوله: (إني خالق بشراً من
طين) فعندما قال: (خالق بشراً). لم يذكر احتجاج
الملائكة لأنه لم يستو بعد ولم يكن الإنسان موجوداً في شكله الجاهز لنفخة الروح لذا
أتبعها بقوله (فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له
ساجدين) (ص72). ومع ذلك لم تقل الملائكة: (أتجعل فيها من
يفسد فيها ويسفك الدماء). ولكن عندما قال: (إني جاعل في
الأرض خليفةً) جاء الاحتجاج، وكان الاحتجاج طبقاً لمعلومات مشاهدة، أي عندما
قال (إني جاعل في الأرض خليفةً) كان البشر ما يزال في
المملكة الحيوانية قبل الأنسنة، ولكنه قائم على رجليه وله جهاز صوتي قادر على
التنغيم المختلف وكان تصرفه كالبهائم أي يأكل اللحوم (ويسفك
الدماء) للدلالة على التخريب غير الواعي في الغابات كما تفعل بعض فصائل
القردة من قطع أغصان الأشجار، وهنا يجب أن لا نفهم (يفسد
فيها) على أنه سلوك لا أخلاقي أي مخالفة تعليمات الله سبحانه وتعالى فهذا
يسمى فسوقاً لا فساداً.
فعندما يصبح الطعام غير صالح للأكل نقول: فسد الطعام ولا نقول فسق الطعام.
فالفساد هو التخريب كقوله تعالى: (إنما جزاء الذين يحاربون الله
ورسوله ويسعون في الأرض فساداً ..) (المائدة 33). هنا (يسعون في الأرض فساداً) تعني قطع الشجر وتخريب الطرق والجسور
وهدم البيوت والمنشآت.
وكقوله: (ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها). (الأعراف
85) وقوله: (ولا تعثوا في الأرض مفسدين). (البقرة 60) (هود
85) (الشعراء 183)
وهنا نلاحظ الخطأ في القول بأن (يُفسد فيها ويسفك
الدماء) تعني أنه كان هناك مخلوقات عاقلة قبل آدم فسدت وسفكت الدماء فأهلكها
الله سبحانه وتعالى، أو علمت الملائكة أن هذا المخلوق سيفسد في الأرض ويسفك الدماء،
فالقولان فيهما نظر، والصحيح عندنا أن الملائكة قالت ما شهدت فعلاً عند قوله: (إني جاعل في الأرض خليفةً). ومن هنا فعلينا أن نعيد النظر في
القول الذي يقول إن الله خلق آدم ووضعه في الجنة ثم خلق بعده حواء ثم طردا من الجنة
هما وإبليس ونزلا إلى الأرض، وذلك للأسباب التالية:
إن وصف الجنة التي وصفها لآدم لا يشبه وصف جنة المتقين، حيث أن الآيات الواردة
في التنزيل الحكيم حول الساعة والصور واليوم الآخر تبين بأن الجنة والنار لم توجدا
بعد وإنما ستقومان على أنقاض هذا الكون بقوانين مادية جديدة، وأن من صفات جنة
المتقين الخلود واختفاء ظاهرة الموت. فكيف يمكن إغراء إنسان بشيء لا يعرفه وغير
موجود؟ وقد تم إغراء آدم بقوله: (هل أدلك على شجرة الخلد وملكٍ لا
يبلى) (طه 120). وقوله: (ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة
إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين) (الأعراف 20).
فلولا أن آدم يعرف الموت وأن الأشياء تبلى لما تغرر بذلك القول وهذه الآية تنوه
أيضاً بأن غريزة البقاء هي أقوى غريزة لدى المخلوقات كلها. ثم تأتي بعدها غريزة
التملك وبقاء الممتلكات بقوله (وملكٍ لا يبلى). وهذه
الغريزة انتقلت من المملكة البهيمية إلى الإنسانية، أي أن هاتين الغريزتين دخلتا
الوعي الإنساني، وهنا ظهر مفهوم الشيطان بأنه عدو للإنسان (إن
الشيطان كان للإنسان عدو مبين) والبهائم ليس شياطين أو وساوس، وأضيف إلى هذه
الغرائز الشهوات، حيث الشهوات مفهوم إنساني بحت له أرضية معرفية. ثم إن وصف جنة
آدم بعيد جداً عن وصف جنة الخلد وذلك في قوله: (إن لك ألا تجوع
فيها ولا تعرى) (طه 118). (وأنك لا تظمأ فيها ولا
تضحى) (طه 119).
هنا نلاحظ أنه يصف جنة أرضية تشبه الغابة التي فيها ثمار طبيعية بحيث يأكل بدون
أن يعمل. و”تعرى” هنا من العراء أي الخروج من الغابة إلى الصحراء كقوله: (فنبذناه بالعراء وهو سقيم) (الصافات 145) فإذا خرج إلى العراء
فإنه يحتاج إلى ظاهرة العمل ليكسب عيشه لذا قال (فلا يخرجنكما من
الجنة فتشقى) (طه 117).
وكذلك يوجد في الغابات التي عاش فيها الإنسان المياه (لا تظمأ
فيها)، وفيها أيضاً الظل (ولا تضحى) حيث “تضحى”
جاءت من فعل “ضحى” وهو في اللسان العربي أصل صحيح يدل على بروز الشيء ويقال ضحى
الرجل يضحي، إذا تعرض للشمس، ويقال أضح يا زيد أي أبرز للشمس، ومنه سميت الأضحية
لأنها تذبح عند إشراق الشمس، وضاحية كل بلد ناحيتها البارزة.
إن هذا الوصف بعيد جداً عن وصف جنة الخلد الذي جاء في القرآن ومن أول مواصفاتها
اختفاء ظاهرة الموت.
من هنا نستنتج آ – أن البشر وجد على الأرض نتيجة تطور استمر ملايين السنين
“البث” حيث أن المخلوقات الحية بث بعضها من بعض، وتكيفت مع الطبيعة وبعضها مع بعض
وقد وجد البشر وانتشر في مناطق حارة مغطاة بالغابات حيث يوجد في هذه الغابات
مخلوقات حية أخرى كان يفترسها البشر (يسفك الدماء) وكان
يسلك سلوك الحيوانات الأخرى أي كان كائناً غير عاقلٍ إذ لم تظهر فيه ظاهرة العمل
الواعي وهو بشر. وإلى اليوم نرى أن الإنسان كبشر هو كائن نباتي لاحم له أنياب .
ب – يجب علينا أن نفهم قوله: (اهبطوا منها). على أنه
انتقال من مرحلةٍ إلى مرحلة أخرى، وليس المعنى “انزلوا منها” ونحن نقول: إن الله
أنزل ونزل القرآن ولا نقول أهبط وهبَّط القرآن وقد استعمل الكتاب فعل هبط في مجال
الانتقال المكاني أو الكيفي؛ في مجال الانتقال المكاني أي من مكان إلى آخر على
الأرض (هود 48). ومع نوح (ع) والكيفي مع بني إسرائيل (البقرة 61).فهنا يجب أن
نفهم (اهبطوا منها) انتقال كيفي أو مكاني أو الاثنين معاً،
وكل ذلك حصل على الأرض، وجنة الخلد ليس لها أية علاقة بذلك لأنها أصلاً لم توجد
بعد.ج – مفهوم آدم: لقد جاء آدم “من “آدم” وهذا الفعل في اللسان العربي له أصل
واحد وهو الموافقة والملاءمة، ومنها جاءت الأدمة وهي باطن الجلد لأن الأدمة أحسن
ملاءمة للحم من البشرة ولذلك سمي آدم عليه السلام لأنه أخذ من أدمة الأرض.هنا
جاء في لفظة آدم المصطلحان معاً فالبشر مؤلف عضوياً من عناصر موجودة في الأرض وبعد
انتصابه ووجود الجهاز الصوتي المناسب أصبح موافقاً وملائماً لعملية الأنسنة، أي أن
آدم هو المخلوق المتكيف الملائم للأنسنة، وهو أكثر المخلوقات على الأرض تكيفاً مع
الظروف البيئية والمعاشية. ومن الخطأ الفاحش أن نقول أن آدم اسم أعجمي بل هو مصطلح
عربي صرف وإذا مدحنا إنساناً وقلنا إنه آدمي فهذا يعني أنه دمث متكيف مع الظروف
التي يعيشها.وهنا أيضاً يجب أن نفهم أن آدم ليس شخصاً واحداً وإنما هو جنس نقول
عنه الجنس الآدمي.لذا فعندما قال (يا بني آدم). فإنه
يخاطب الجنس الآدمي وقوله: (واتل عليهم نبأ ابني آدم
بالحق). فإنه يذكر إحدى مراحل تطور الجنس الآدمي وذلك بعد خروجه من المملكة
الحيوانية وهذه الحلقة هي تعليمه دفن الموتى. وفي التنزيل الحكيم لايوجد قابيل
وهابيل.د – شرح قوله تعالى “الذي علم بالقلم”: “قلم” في اللسان العربي أصل صحيح
يدل على تسوية شيء عند بريه وإصلاحه، من ذلك قلمت الظفر ومن هذا الباب سمي القلم
قلماً.لقد جاء قوله تعالى (الذي علم بالقلم). في بداية
الوحي، وقد شرحنا قوله: (خلق الإنسان من علق) وعندما قال:
(الذي علم بالقلم). أتبعها بقوله: (علم
الإنسان ما لم يعلم). ونلاحظ أيضاً أنهما آيتان منفصلتان بينهما “نجمة”،
وكان من الممكن أن يقول “الذي علم الإنسان بالقلم”.
ولقد جاء فصل الآيتين للدلالة على أن التعليم بالقلم مطلق للإنسان ولغيره، ومن
جملة المخلوقات التي تم تعليمها بالقلم الإنسان. لقد قال المفسرون عن قوله تعالى:
(الذي علم بالقلم). هي كناية عن تعليم الكتابة لأن آلة
الكتابة هي القلم. فإذا سلمنا جدلاً بأن هذا الكلام صحيح، فماذا نقول عن قوله تعالى
(وعلم آدم الأسماء كلها). وقد قال بشكل مطلق أن التعليم لا
يكون إلا بالقلم “كما زعموا” فهل كان عند آدم كتابة وقرطاسية وسبورة وطباشير؟
إننا نعلم أن الكتابة “الأبجدية” ظهرت في عهد غير بعيد نسبياً. فإذا كان الأمر
كذلك، فما هو القلم الذي علم الله به كل المخلوقات بدون استثناء ومن ضمنها الإنسان؟
إذا نظرنا للأصل اللغوي وهو التسوية والإصلاح والتهذيب. فعندما نقصُّ أغصان
الشجر فإننا نقلمها، وعندما نقص ونهذب طرف العود الصغير فنسميها قلماً. فالقلم هو
قص الأشياء بعضها عن بعض وتهذيبها، وهذا ما نقول عنه اليوم التمييز “التعريف”
(Identification).
وفي مكتب تسجيل السيارات هناك القلم أي فيه إضبارة كل سيارة، نوعها، سنة
الإنتاج، اللون، الرقم، المالك، كل هذه المعلومات هي لتمييز كل سيارة على حدة.
وكذلك هناك في القوات المسلحة “قلم اللواء” أي فيه الأوراق الصادرة والواردة تميز
وتوزع حسب العائدية.
فالتقليم هو تمييز الأشياء بعضها عن بعض وهذه العملية هي العمود الفقري للمعرفة
الإنسانية، وبدونها لا تتم أية معرفة.فإذا كان الأمر كذلك فلماذا وضعها بشكل
مطلق (الذي علم بالقلم). ثم علق الإنسان بها بقوله (علم الإنسان ما لم يعلم) أقول لأن التقليم ليس من صفات الإنسان
فقط حتى المعرفة الغريزية تقليم. فنرى أن القطة تميز أولادها، والبقرة تميز وليدها،
فإذا جاء غير وليدها ليرضع منها فإنها تصده، أي أن البقرة لها جهاز ما أو مؤشر ما
يتناسب مع بنيتها تستطيع أن تميز به وليدها من غيره، وكذلك النحلة تميز خليتها عن
باقي الخلايا، والخيل تميز اللحم من الحشائش فلا تأكل اللحم.
والملائكة أيضاً لا تعلم من العلم إلا المعلومات التي تدخل بجهاز التقليم الخاص
بها، فهناك ملائكة تسبح فقط لأن قلمها قائم على التسبيح فقط لأنها لا تميز شيئاً
آخر. لذا فما دخل في قلمنا هو ضمن معلوماتنا “الشهادة” وما لم يدخل في قلمنا فهو
خارج معلوماتنا “الغيب”.
وقد خلق الله للتقليم أنواعاً كثيرة وإمكانيات مختلفة حسب الظروف التي يعيشها كل
كائن حي. فالأسماك لها قلم، والوطواط له قلم .. وهكذا دواليك.
فإذا أخذنا الحواس مثلاً، نرى أن العين تقلم الألوان والأبعاد والأشكال التي
تدخل ضمن إمكانياتها البصرية، والأذن تقلم الأصوات التي تدخل في إمكانياتها
السمعية، واللسان يقلم المذاق حسب إمكانياته، والشم يقلم الروائح، والجلد يقلم
الحرارة والملمس. ولولا هذا التقليم الذي هو صفة الحواس لما كان هناك علم حيث أن
الحواس تقلم وهي نفسها مقلمة إلى خمس حواس.
ثم عندما تنتقل صورة الأشياء عن طريق الحواس يعمل الفكر أيضاً على التقليم حيث
يحلل “يقلم” ظاهرة ما إلى عناصرها الأساسية ثم بعد ذلك يركب “يعقل” ويصدر
حكماً.
فإذا أخذنا تقدم المعارف الإنسانية رأينا أن التقليم هو أساسها. فعندما اكتشفت
الكهرباء في القرن الماضي كانت عبارة عن علم بسيط واحد ثم تطورت بالتقليم فأصبح
هناك محطات توليد طاقة، خطوط نقل طاقة، محركات كهربائية، دارات إلكترونية، حتى
أصبحت كلية قائمة بذاتها تتألف من عدة مواد منفصلة “مقلمة”. وكذلك الطب كان هناك
جسم الإنسان وطب عام ثم قلمناه بالتطور فأصبح هناك طب عظام وطب عيون وطب أنف وأذن
وحنجرة وطب نفساني وطب عصبي، وجراحة، وجهاز هضم، وهكذا دواليك. وعندما اكتشف
الإنسان الخارطة الجينية، فهذا زيادة في التقليم حيث قلَّم وظيفة كل جينة في ذاتها.
ثم لنأخذ القلم في معناه المجازي كأداة كتابة للأبجدية فلا يمكن أن نقول إننا
نخط رسالة بحبر أبيض على ورق أبيض، فالعين بذلك لا تميز شيئاً، ولكننا نكتب مثلاً
بلون أزرق على ورق أبيض، هذا هو التمييز الأول. ثم هناك التميز الثاني للأبجدية،
فنرمز لصوت النون بالرمز “ن” ولصوت اللام بالرمز “ل”. بما أن النون واللام صوتان
مميزان بعضهما عن بعض رمزنا لهما برمزين مختلفين لتبيان التمييز.
وإذا أخذنا مثلاً الأمراض فنرى أن مرض السرطان موجود موضوعياً فنستطيع أن نقلم
“نميز″ الخلية السرطانية غير المخلقة عن الخلية العادية “المخلقة” ولكننا لم نستطع
أن نقلم إلى اليوم الأسباب الحقيقية للسرطنة، لذا فإن مرض السرطان مقلم كظاهرة
مرضية وغير مقلم كأسباب حقيقية لهذه الظاهرة، علماً بأنه قد تم تقليم بعض الأسباب
المساعدة على السرطنة وهذا يسمى باللغة الإنجليزية (Identification).
ومبدأ الهوية الشخصية يقوم على التقليم بالاسم والكنية واسم الأب والأم والصورة
وتاريخ ومكان الميلاد والعلامات المميزة وذلك لتقليم صاحب الهوية عن غيره.
فإذا رجعنا الآن إلى تعريف الكلام الإنساني قلنا إنه يتألف من أصوات مقطعة
متميزة، أي أن الكلام الإنساني يقوم على تقليم الأصوات. وهكذا فإن المعرفة
الإنسانية صاعدة إلى الأعلى كماً ونوعاً، ومحورها الذي لاتخرج عنه هو القلم. وبما
أن الوسيلة الوحيدة بالنسبة لكل المخلوقات هي القلم، فالله سبحانه وتعالى واحد في
كَمّه (إنما إلهكم إله واحد) أحادي في كيفه (قل هو الله أحد) ومن أجل أن نتعرف عليه قلَّمَ أسماءه الحسنى
لنا فهو الخالق البارئ المصور … الخ.
وإذا أخذنا الآن قوله تعالى: (خلق الإنسان من علق).
وقوله: (الذي علم بالقلم). وجدنا أن بداية الوحي لمحمد (ص)
هي بداية المعرفة حيث بدأ بفعل الأمر “اقرأ” والقراءة هي العملية التعليمية فجاءه
بعدها العمودان الفقريان للمعرفة، الأول أن الوجود خارج الوعي الإنساني مؤلف من
علاقات متداخلة بعضها مع بعض ومنها خلق الإنسان والثاني أن وعي هذه العلاقات من قبل
الإنسان لا يمكن أن يتم إلا بالتقليم أي تمييز هذه العلاقات بعضها عن بعض، والحواس
هي الأدوات المادية للتقليم المشخص المباشر (الإدراك الفؤادي) .
نستنتج من هذا التعريف للعلاقات المتداخلة ولتقليمها أساس البحث العلمي والنشاط
الاقتصادي والإنتاجي. فإذا أردنا أن نقوم ببحث علمي لظاهرة ما، فما علينا إلا أن
نعلم أن هذه الظاهرة يجب أن تكون مؤلفة من علاقات متداخلة ببعضها، وبالتالي فإذا
أردنا أن نعرفها فالبحث العلمي يقلمها إلى العناصر الأساسية المركبة لهذه العلاقات.
وكذلك في النشاط الإنتاجي الناجح فإنه يجري تقليم العملية الإنتاجية إلى مجموعة من
العمليات الأولية وناتج هذا التقليم هو ما يسمى بالخط الإنتاجي. وهكذا فإن النشاط
الإنساني المعرفي والإنتاجي قائم على العلاقات وتقليم هذه العلاقات. وهكذا نرى
أن بداية الوحي للرسول (ص) هو المدخل الأساسي إلى نظرية المعرفة الإنسانية، وبواسطة
هذا المدخل نستطيع أن ندخل إلى كل العلوم الكونية والإنسانية.
في الحلقة التالية سنبحث كيف عبَّر القرآن عن نشأة الكلام الإنساني ونفخة الروح
التي بدأت بقوله تعالى (وعلم آدم الأسماء كلها).
والحمد لله رب العالمين .
مجلة روز اليوسف

من الحياة

من الحياة
صور تعكس حركة الحياة بكل الوانها

كتاب : المنقذ من الضلال

المؤلف : أبو حامد الغزالي


بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، الذي يفتتح بحمده كل رسالة ومقالة، والصلاة على محمد المصطفى، صاحب النبوة والرسالة، وعلى آله وأصحابه الهادين من الضلالة.

أما بعد:
فقد سألتني أيها الأخ في الدين، أن أبثّ إليك غاية العلوم وأسرارها، وغائلة المذاهب وأغوارها، وأحكي لك ما قاسيته في استخلاص الحق من بين اضطراب الفرق مع تباين المسالك والطرقِ، وما استجرأت عليه من الارتفاع عن حضيض التقليد، إلى يفاعٍ الاستبصار، وما استفدته، أولاً من علم الكلام، وما اجتويته، ثانياً من طرق أهل التعليم، القاصرين لدرك الحق على تقليد الإمام وما ازدريته، ثالثاً من طرق التفلسف وما ارتخيته، آخراً من طريقة التصوف ...

وما انجلى لي في تضاعيف تفتيشي عن أقاويل الخلق، من لباب الحق، وما صرفني عن نشر العلم ببغداد مع كثرة الطلبة وما ردني إلى معاودتي بنيسابور بعد طول المدة، فابتدرت لإجابتك إلى مطلبك، بعد الوقوف على صدق رغبتك، وقلت مستعيناً بالله ومتوكلاً عليه، ومستوفقاً منه، وملتجئاً إليه:


اعلموا - أحسن الله تعالى إرشادكم، وألان للحق قيادكم - أن اختلاف الخلق في الأديان والملل، ثم اختلاف الأمة في المذاهب على كثرة بالفرق، وتباين الطرق، بحر عميق غرق فيه الأكثرون، وما نجا منه إلا الأقلون، وكل فريق يزعم أنه الناجي، " وكل حزبٍ بما لديهم فرحون " .

وهو الذي وعدنا به سيد المرسلين صلوات الله عليه، وهوا لصادق المصدوق
حيث قال:

" ستفترق أمتي ثلاثاً وسبعين فرقة، الناجية منها واحدة " فقد كان ما وعد أن يكون ولم أزل في عنفوان شبابي - منذ راهقت البلوغ، قبل بلوغ العشرين إلى الآن، وقد أناف السن على الخمسين - أقتحم لجة هذا البحر العميق، وأخوض غمرته خوض الجسور، لا خوض الجبان الحذور، وأتوغل في كل مظلمة، وأتهجّم على كل مشكلة، وأتقحم كل ورطة، وأتفحص عن عقيدة كل فرقة، وأستكشف أسرار مذهب كل طائفة، لأميز بين محق ومبطل، ومتسنن ومبتدع ... لا أغادر باطنياً إلا وأحب أن أطلع على باطنيته، ولا ظاهرياً إلا وأريد أن أعلم حاصل ظاهريته، ولا فلسفياً إلا وأقصد الوقوف على كنه فلسفته، ولا متكلماً إلا وأجتهد في الإطلاع على غاية كلامه ومجادلته ... ولا صوفياً إلا وأحرص على العثور على سر صفوته، ولا متعبداً إلا وأترصد ما يرجع إليه حاصل عبادته، ولا زنديقاً معطلاً إلا وأتحسس وراءه للتنبه لأسباب جرأته في تعطيله وزندقته.

وقد كان التعطش إلى درك حقائق الأمور دأبي وديني، من أول أمري، وريعان عمري، غريزة وفطرة من الله وضعها في جبلتي لا باختياري وحيلتي، وحتى انحلت عني رابطة التقليد، وانكسرت علي العقائد الموروثة على قرب عهد سن الصبا، إذ رأيت: صبيان النصارى لا يكون لهم نشوء إلا على التنصُر، وصبيان اليهود لا نشوء لهم إلا على التهود، وصبيان المسلمين لا نشوء لهم إلا على الإسلام.

وسمعت الحديث المروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: " كل مولودٍ يولدُ على الفطرةِ فأبواهُ يُهودانهِ، وينُصرانهِ، ويُمجِّسَانِهِ " فتحرك باطني إلى طلب حقيقة الفطرة الأصلية، وحقيقة العقائد العارضة بتقليد الوالدين والأستاذين، والتمييز بين هذه التقليدات، وأوائلها تلقينات، وفي تمييز الحق منها عن الباطل اختلافات فقلت في نفسي:

أولاً إنما مطلوبي العلم بحقائق الأمور، فلا بد من طلب حقيقة العلم ما هي؟
فظهر لي: أن العلم اليقيني هو الذي ينكشف فيه المعلوم انكشافاً لا يبقى معه ريب ، ولا يفارقه إمكان الغلط والوهم، ولا يتسع القلب لتقدير ذلك، بل الأمان من الخطأ ينبغي أنا يكون مقارناً لليقين، مقارنة لو تحدى بإظهار بطلانه - مثلاً - من يقلب الحجر ذهباً والعصا ثعباناً، لم يروث ذلك شكاً وإنكاراً، فإني إذا علمت

: أن العشرة أكثر من الثلاثة، فلو قال لي قائل: لا بل الثلاثة أكثر، بدليل أني أقلب هذه العصا ثعباناً، وقلبها، وشاهدت ذلك منه، لم أشك بسببه في معرفتي ، ولم يحصل لي منه إلا التعجب من كيفية قدرته عليه!

فأما الشك بسببه فيما علمته فلا ثم علمت أن كل ما لا أعلمه على هذا الوجه ولا أتيقنه هذا النوع من اليقين، فهو علم لا ثقة به ولا أمان معه، وكل علم لا أمان معه فليس بعلم يقيني ... مدخل السفسطة وجحد العلوم ثم فتشت عن علومي، فوجدت نفسي عاطلاً من علم موصوف بهذه الصفة، إلا في الحسيات، والضروريات، فقلت الآن بعد حصول اليأس لا مطمع في اقتباس المشكلات إلا من الجليات وهي الحسيات والضروريات فلا بد من إحكامها أولاً لأتيقن أن ثقتي بالمحسوسات، وأماني من الغلط في الضروريات من جنس أماني الذي كان من قبل في التقليدات، ومن جنس أمان أكثر الخلق في النظريات، أم هو أمان محقق لا غدر فيه، ولا غائلة له.

فأقبلت بجد بليغ، أتأمل المحسوسات والضروريات، وأنظر هل يمكنني أن أشكك نفسي فيها؟ فانتهي بي طول التشكيك إلى أن لم تسمح نفسي بتسليم الأمان في المحسوسات أيضاً، وأخذ يتسع فيها ويقول: من أين الثقة بالحواس؟ ... وأقواها حاسة البصر وهي تنظر إلى الظل فتراه واقفاً غير متحرك، وتحكم بنفي الحركة، ثم بالتجربة والمشاهدة - بعد ساعة - تعرف أنه متحرك، وأنه لم يتحرك دفعة واحدة بغتة، بل بالتدريج ذرة، ذرة، حتى لم يكن له حالة وقوف.

وتنظر إلى الكوكب، فتراه صغيراً في مقدار دينار، ثم الأدلة الهندسية تدل على أنه أكبر من الأرض في المقدار. هذا، وأمثاله من المحسوسات يحكم فيها حاكم الحس، بأحكامه ويكذبه حاكم العقل ويخونه تكذيباً لا سبيل إلى مدافعته فقلت:

قد بطلت الثقة بالمحسوسات أيضاً، فلعله لا ثقة إلا بالعقليات التي هي من الأوليات، كقولنا: العشرة أكثر من الثلاثة والنفي والإثبات لا يجتمعان في الشيء الواحد

والشيء الواحد لا يكون قديماً، موجوداً معدوماً، واجباً محالاً.

فقالت الحواس: بم تأمن أن تكون ثقتك بالعقليات كثقتك بالمحسوسات وقد كنت واثقاً بي، فجاء حاكم العقل فكذبني، ولولا حاكم العقل لكنت تستمر على تصديقي، فلعل وراء إدراك العقل حاكماً آخر، إذا تجلى كذب العقل في حكمه، كما تجلى حاكم العقل فكذب الحس في حكمه، وعدم تجلي ذلك الإدراك لا يدل على استحالة!!

فتوقفت النفس في جواب ذلك قليلاً وأيدت إشكالها بالمنام، وقالت: أما تراك تعتقد في النوم أموراً، وتتخيل أحوالاً، وتعتقد لها ثباتاً، واستقراراً، ولا تشكل في تلك الحالة فيها، وثم تستيقظ فتعلم: أنه لم يكن لجميع متخيلاتك ومعتقداتك أصل وطائل.

فبم تأمن أن يكون جميع ما تعتقده في يقظتك، بحس أو عقل هو حق
بالإضافة إلى حالتك التي أنت فيها، لكن يمكن أن تطرأ عليك حالة تكون نسبتها إلى يقظتك، كنسبة يقظتك إلى منامك، وتكون يقظتك نوماً بالإضافة إليها!

فإذا وردت تلك الحالة، تيقنت أن جميع ما توهمت بعقلك خيالات لا الحاصل لها.
ولعل تلك الحالة، ما تدعيه الصوفية أنها حالتهم، إذ يزعمون أنهم يشاهدون في أحوالهم التي لهم إذا غاصوا في أنفسهم، وغابوا عن حواسهم أحوالاً لا توافق هذه المعقولات، ولعل تلك الحالة هي الموت، إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: " الناسُ نيامٌ فإذا ماتوا انتبهُوا " .
فلعل الحياة الدنيا نوم بالإضافة إلى الآخرة، فإذا مات ظهرت له الأشياء على خلاف ما يشاهده الآن ويقال له عند ذلك: " فكشفنا عنكَ غطاءكَ فبصرُكَ اليومَ حديدٌ " .

فلما خطر لي هذه الخواطر، وانقدحت في النفس حاولت لذلك علاجاً فلم يتيسر، إذ لم يكن دفعه إلا بالدليل، ولم يمكن نصب دليل إلا من تركيب العلوم الأولية.
فإذا لم تكن مسلمة لم يمكن تركيب الدليل. فأعضل الداء، ودام قريباً من شهرين، أنا فيهما على مذهب السفسطة بحكم الحال، لا بحكم النطق والمقال.
حتى شفى الله تعالى من ذلك المرض، وعادت النفس إلى الصحة والاعتدال، ورجعت الضروريات العقلية مقبولة موثوقاً بها على أمن ويقين، ولم يكن ذلك بنظم دليل وترتيب كلام، بل بنور قذفه الله تعالى في الصدر وذلك النور هو مفتاح أكثر المعارف، فمن ظن أن الكشف موقوف على الأدلة المحررة فقد ضيق رحمة الله تعالى الواسعة.

ولما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلّم، على " الشرح " ومعناه في قوله تعالى: " فمن يرد الله أن يهديهُ يشرح صدرهُ للإسلام " قال: " هو نور يقذفهُ الله تعالى في القلبِ " .فقيل: وما علامته؟
قال: " التجافي عن دار الغُرُورِ، والإنابة إلى دارِ الخُلُود " .

وهو الذي قال صلى الله عليه وسلم فيه:" إن الله تعالى خلق الخلقَ في ظُلْمةٍ، ثم رشَّ عليهمْ من نُورهِ " فمن ذلك النور ينبغي أن يطلب الكشف، وذلك النور ينبجس من الجود الإلهي في بعض الأحاديين، ويجب الترصد له كما قال صلى الله عليه وسلّم: " إن لربكم في أيامِ دهركم نفحاتٌ، ألا فتعرضُوا لها " والمقصود من هذه الحكايات أن يعمل كمال الجد في الطلب، حتى ينتهي إلى طلب ما لا يطلب.

فإن الأوليات ليست مطلوبة، فإنها حاضرة، والحاضر إذا طلب نفر واختفى، ومن طلب ما لا يطلب فلا يتهم بالتقصير في طلب ما يطلب. .. أصناف الطالبين ولما شفاني الله من هذا المرض بفضله وسعة جوده، أحضرت أصناف الطالبين عندي في أربع فرق:

1 - المتكلمون: وهم يدعون أنهم أهل الرأي والنظر.
2 - الباطنية: وهم يزعمون أنهم أصحاب التعليم، والمخصوصون بالاقتباس من الإمام المعصوم.
3- الفلاسفة: وهم يزعمون أنهم أهل المنطق والبرهان.
4 - الصوفية: وهم يدعون أنهم خواص الحضرة، وأهل المشاهدة والمكاشفة فقلت في نفسي: الحق لا يعدو هذه الأصناف الأربعة، فهؤلاء هم السالكون سبل طلب الحق، فإن شذَّ الحق عنهم، فلا يبقى في درك الحق مطمع، إذ لا مطمع في الرجوع إلى التقليد بعد مفارقته، إذ من شرط بالمقلد أن لا يعلم أنه مقلد، فإذا علم ذلك انكسرت زجاجة تقليده، وهو شعب لا يرأب وشعث لا يلم بالتلفيق والتأليف، إلا أن يذاب بالنار، ويستأنف له صنعة أخرى مستجدة.

فابتدرت لسلوك هذه الطرق، واستقصاء ما عند هذه الفرق. مبتدئاً بعلم الكلام. ومثنياً بطريق الفلسفة، ومثلثاً بتعلم الباطنية، ومربعاً بطريق الصوفية.

علم الكلام مقصوده وحاصله ثم إني ابتدأت بعلم الكلام، فحصَّلته، وعقلته، وطالعت كتب المحققين منهم، وصنفت فيه ما أردت أن أصنف فصادفته علماً وافياً بمقصوده، غير واف بمقصودي، وإنما مقصوده حفظ عقيدة أهل السنة، وحراستها عن تشويش أهل البدعة، فقد ألقى الله تعالى، إلى عباده على لسان رسوله عقيدة هي الحق. على ما فيه صلاح دينهم ودنياهم، كما نطق بمعرفته القرآن والأخبار.

ثم ألقى الشيطان في وساوس المبتدعة أموراً مخالفة للسنة، فلهجوا بها وكادوا يشوشون عقيدة الحق على أهلها.
فأنشأ الله تعالى، طائفة المتكلمين، وحرك دواعيهم لنصرة السنة بكلام مرتب، يكشف عن تلبيسات أهل البدع المحدثة، على خلاف السنة المأثورة، فمنه نشأ علم الكلام وأهله، فلقد قام طائفة منهم بما ندبهم الله تعالى إليه، فأحسنوا الذب عن السنة، والنضال عن العقيدة المتلقاة بالقبول من النبوة، والتغيير في وجه ما أحدث من البدعة، ولكنهم اعتمدوا في ذلك على مقدمات تسلموها من خصومهم، واضطرهم إلى تسليمها، إما التقليد، أو إجماع الأمة، أو مجرد القبول من القرآن والأخبار وكان أكثر خوضهم في استخراج تناقضات الخصوم، ومؤاخذتهم بلوازم مسلماتهم، وهذا قليل النفع في حق من لا يسلم سوى الضروريات شيئاً أصلاً، فلم يكن الكلام في حقي كافياً، ولا لدائي الذي كنت أشكوه شافياً.

نعم لما نشأت صنعة الكلام، وكثر الخوض فيه، وطالت المدة، تشوق المتكلمون إلى محاولة الذب عن السنة بالبحث عن حقائق الأمور وخاضوا في البحث عن الجواهر والأعراض وأحكامها.

ولكن لم يكن ذلك مقصود علمهم، لم يبلغ كلامهم فيه الغاية القصوى، فلم يحصل منه ما يمحو بالكلية ظلمات الحيرة في اختلافات الخلق. ولا أبعدُ أن يكون قد حصل ذلك لغيري، بل لست أشك في حصول ذلك لطائفة، ولكن حصولاً مشوباً بالتقليد في بعض الأمور التي ليست من الأوليات، والغرض الآن: حكاية حالي، لا الإنكار على من استشفى به، فإن أدوية الشفاء تختلف باختلاف الداء، وكم من دواء ينتفع به مريض ويستضر به آخر.

الفلسفةأحاصيلها
، ما يذم منها وما لا يذم، وما يكفر فيه قائلة، وما لا يكفر، وما يبدع فيه وما لا يبدع، وبيان ما سرقوه من كلام أهل الحق، وما مزجوه بكلامهم لترويج باطلهم في درج ذلك، وكيفية حصول نفرة النفوس من ذلك الحق - وكيفية استخلاص صراف الحقائق الحق الخالص من الزيف والبهرج من جملة كلامهم. ثم إني ابتدأت - بعد الفراغ من علم الكلام - بعلم الفلسفة، وعلمت يقيناً: أنه لا يقف على فساد نوع من العلوم، من لا يقف على منتهى ذلك العلم، حتى يساوي أعلمهم في أصل ذلك العلم، ثم يزيد عليه، ويجاوز درجته فيطلع على ما لم يطلع عليه صاحب العلم، من غوره وغائله، وإذا ذاك يمكن أن يكون ما يدعيه من فساده حقاً.

ولم أر أحداً من علماء الإسلام صرف عنايته وهمته إلى ذلك، ولم يكن في كتب المتكلمين من كلامهم - حيث اشتغلوا بالرد عليهم - إلا كلمات معقدة مبددة ظاهرة التناقض والفساد، لا يظن الاغترار بها بعاقل عامي، فضلاً عمن يدعي دقائق العلم، فعلمت أن رد المذهب قبل فهمه والإطلاع على كنه رمى في عماية.

فشمرت عن ساق الجد في تحصيل ذلك العلم من الكتب، بمجرد المطالعة من غير استعانة بأستاذ، وأقبلت على ذلك في أوقات فراغي من التصنيف والتدريس في العلوم الشرعية، وأنا ممنو بالتدريس والإفادة لثلاثمائة نفس من الطلبة ببغداد.

فأطلعني الله سبحانه وتعالى بمجرد المطالعة في هذه الأوقات المختلسة، على منتهى علومهم في أقل من سنتين، ثم لم أزل أواظب على التفكر فيه بعد فهمه قريباً من سنة أعاوده وأردده وأتفقد غوائله وأغواره، حتى اطَّلعت على ما فيه من خداع، وتلبيس وتحقيق وتخييل، واطلاعاً لم أشك فيه.

فاسمع الآن حكايته، وحكاية حاصل علومهم، فإني رأيتهم أصنافاً، ورأيت علومهم أقساماً وهم - على كثرة أصنافهم - يلزمهم وصمة الكفر والإلحاد، وإن كان بين القدماء منهم والأقدمين، وبين الأواخر منهم والأوائل، تفاوت عظيم ، في البعد عن الحق والقرب منه.

أصناف الفلاسفة وشمول وصمة الكفر كافتهم اعلم أنهم - على كثرة فرقهم، واختلاف مذاهبهم - ينقسمون إلى ثلاثة أقسام:
الدهريون، والطبيعيون، والإلهيون.

الصنف الأول الدهريون وهم طائفة من الأقدمين جحدوا الصانع المدبر، العالم القادر، وزعموا: أن العالم لم يزل موجوداً كذلك بنفسه ، وبلا صانع، ولم يزل الحيوان من النطفة، والنطفة من الحيوان، كذلك كان، وكذلك يكون أبداً وهؤلاء هم الزنادقة.

والصنف الثاني الطبيعيون وهم قوم أكثروا بحثهم عن عالم الطبيعة وعن عجائب الحيوان والنبات، وأكثروا الخوض في علم تشريح أعضاء الحيوانات. فرأوا فيها من عجائب صنع الله تعالى، وبدائع حكمته، مما اضطروا معه إلى الاعتراف بفاطر حكيم، مطلع على غايات الأمور ومقاصدها، ولا يطالع التشريح، وعجائب منافع الأعضاء مطالع إلا ويحصل له هذا العلم الضروري بكمال تدبير الباني لبنية الحيوان، لا سيما بنية الإنسان..!
إلا أن هؤلاء لكثرة بحثهم عن الطبيعة ظهر عندهم - لاعتدال المزاج - تأثير عظيم في قوام قوى الحيوان به، فظنوا أن القوة العاقلة من الإنسان تابعة لمزاجه أيضاً، وأنها تبطل ببطلان مزاجه فينعدم، ثم إذا انعدم فلا يعقل إعادة المعدوم، كما زعموا، فذهبوا إلى أن النفس تموت ولا تعود فجحدوا الآخرة، وأنكروا الجنة والنار، والحشر والنشر، والقيامة، والحساب، فلم يبق عندهم للطاعة ثواب، ولا للمعصية عقاب، فانحل عنهم اللجام، وانهمكوا إنهماك الأنعام. وهؤلاء أيضاً زنادقة، لأن أصل الإيمان هو: الإيمان بالله واليوم الآخر، وهؤلاء جحدوا اليوم الآخر، وإن آمنوا بالله وصفاته،.

والصنف الثالث الإلهيون وهم المتأخرون منهم مثل سقراط وهو أستاذ أفلاطون وأفلاطون أستاذ أرسطاطاليس وأرسطاطاليس هو الذي رتب لهم المنطق، وهذَّب لهم العلوم، وحرر لهم ما لم يكن محرراً من قبل، وأنضج لهم ما كان فجاً من علومهم، وهم بجملتهم، ردوا على الصنفين الأولين من الدهرية، والطبيعية، وأوردوا في الكشف عن فضائحهم ما أغنوا به غيرهم " وكفى الله المؤمنين القتال " بتقاتلهم.

ثم رد أرسطاطاليس على أفلاطون وسقراط ومن كان قبلهم من الإلهيين، رداً لم يقصر فيه حتى تبرأ عن جميعهم، إلا أنه استبقى من رذاذ كفرهم، وبدعتهم، بقايا لم يوفق للنزوع عنها، فوجب تكفيرهم وتكفير شيعتهم من المتفلسفة الإسلاميين. كابن سينا والفارابي وأمثالهما. على أنه لم يقم بنقل علم أرسطاطاليس أحد من متلفسفة الإسلاميين كقيام هذين الرجلين، وما نقله غيرهما ليس يخلو من تخبيط وتخليط، يتشوش فيه قلب المطالع، حتى لا يفهم، وما لا يُفهم كيف يرد أو يقبل؟
ومجموع ما صح عندنا من فلسفة أرسطاطاليس، بحسب نقل هذين الرجلين ينحصر في ثلاثة أقسام: 1 - قسم يجب التفكير به.2 - وقسم يجب التبديع به.3 - وقسم لا يجب إنكاره أصلاً، فلنفصله.
أقسام علومهم أعلم: أن علومهم - بالنسبة إلى الغرض الذي نطلبه - ستة أقسام رياضية، ومنطقية، وطبيعية، وإلهية، وسياسية، وخلقية.

أما الرياضية: فتتعلق بعلم الحساب والهندسة وعلم هيئة العالم، وليس يتعلق منه شيء بالأمور الدينية نفياً وإثباتاًِ، بل هي أمور برهانية لا سبيل إلى مجاحدتهم بعد فهمها ومعرفتها.
وقد تولدت منها آفتان: الأولى: من ينظر فيها يتعجب من دقائقها ومن ظهور براهينها، فيحسن بسبب ذلك اعتقاده في الفلاسفة، فيحسب أن جميع علومهم في الوضوح وفي وثاقة البرهان كهذا العلم.
ثم يكون قد سمع من كفرهم وتعطيلهم وتهاونهم بالشرع ما تناولته الألسنة فيكفر بالتقليد المحض ويقول: لو كان الدين حقاً لما اختفى على هؤلاء مع تدقيقهم في هذا العلم!
فإذا عرف بالتسامع كفرهم وجورهم استدل على أن الحق هو الجحد والإنكار للدين، وكم رأيت من يضل عن الحق بهذا العذر ولا مستند له سواه.
وإذا قيل له: الحاذق في صناعة واحدة ليس يلزم أن يكون حاذقاً في كل صناعة، فلا يلزم أن يكون الحاذق في الفقه والكلام حاذقاً في الطب، ولا أن يكون الجاهل بالعقليات جاهلاً بالنحو، بل لكل صناعة أهل بلغوا فيها رتبة البراعة والسبق، وإن كان الحمق والجهل يلزمهم في غيرها، فكلام الأوائل في الرياضيات برهاني وفي الإلهيات تخميني، لا يعرف ذلك من جربه وخاض فيه.
فهذا إذا قرر على هذا الذي ألحد بالتقليد، ولم يقع منه موقع القبول، بل تحمله غلبة الهوى، والشهوة الباطلة، وحب التكايس على أن يصر على تحسين الظن بهم في العلوم كلها. فهذه آفة عظيمة لأجلها يجب زجر كل من يخوض في تلك العلوم، فإنها وإن لم تتعلق بأمر الدين، ولكن لما كانت من مبادئ علومهم سرى إليه شرهم وشؤمهم، فقل من يخوض فيها إلا وينخلع من الدين وينحل عن رأسه لجام التقوى.

الآفة الثانية:
نشأت من صديق للإسلام جاهل، ظن أن الدين ينبغي أن ينصر بإنكار كل علم منسوب إليهم... فأنكر جميع علومهم وادعى جهلهم فيها حتى أنكر قولهم في الكسوف والخسوف، وزعم أن ما قالوه على خلاف الشرع فلما قرع ذلك سمع من عرف ذلك بالبرهان القاطع، لم يشك في برهانه ولكن اعتقد أن الإسلام مبني على الجهل وإنكار البرهان القاطع، فازداد للفلسفة حباً وللإسلام بغضاً، ولقد عظم على الدين جناية من ظن أن الإسلام ينصر بإنكار هذه العلوم، وليس في الشرع تعرض لهذه العلوم بالنفي والإثبات، ولا في هذه العلوم تعرض للأمور الدينية.

وقوله صلى الله عليه وسلّم: " إن الشمس والقمر آيتان من آياتِ الله تعالى لا ينخسفانِ لموتِ أحدٍ ولا لحياته، فإذا رأيتم فافزعوا إلى ذكر الله تعالى وإلى الصلاة " .

وليس في هذا ما يوجب إنكار علم الحساب المعروف بمسير الشمس والقمر، واجتماعهما أو مقابلهما على وجه مخصوص، أما قوله عليه السلام: " لكن الله إذا تجلى لشيءْ خضع لهُ " فليس توجد هذه الزيادة في الصحيح أصلاً.

فهذا حكم الرياضيات وآفتها. وأما المنطقيات: فلا يتعلق شيء منها بالدين نفياً وإثباتاً، بل هي النظر في طرق الأدلة والمقاييس، وشروط مقدمات البرهان، وكيفية تركيبها، وشروط الحد الصحيح وكيفية ترتيبه.

وأن العلم إما تصور وسبيل معرفته الحد، وإما تصديق وسبيل معرفته البرهان، وليس في هذا ما ينبغي أن ينكر، بل هو من جنس ما ذكره المتكلمون وأهل النظر في الأدلة، وإنما يفارقونهم بالعبارات والاصطلاحات بزيادة الاستقصاء في التعريفات والتشعيبات، ومثال كلامهم فيها قولهم: إذا ثبت أن كل " أ " " ب " لزم أن بعض " ب " " أ " " ي " إذا ثبت أن كل إنسان حيوان لزم أن بعض الحيوان إنسان، ويعبرون عن هذه بأنه الموجبة الكلية تنعكس موجبة جزئية.

وأي تعلق لهذا بمهمات الدين حتى يجحد وينكر؟ فإذا أنكر لم يحصل من إنكاره عند أهل المنطق إلا سوء الاعتقاد في عقل المنكر، بل في دينه الذي يزعم أنه موقوف على مثل هذا الإنكار، نعم لهم نوع من الظلم في هذا العلم، وهو أنهم يجمعون للبرهان شروطاً يعلم أنها تورث اليقين لا محالة، لكنهم عند الانتهاء إلى المقاصد الدينية ما أمكنهم الوفاء بتلك الشروط، بل تساهلوا غاية التساهل، وربما ينظر في المنطق أيضاً من يستحسنه ويراه واضحاً، فيظن أن ما ينقل عنهم من الكفريات مؤيد بمثل تلك البراهين، فيستعجل بالكفر قبل الانتهاء إلى العلوم الإلهية. فهذه الآفة أيضاً متطرقة إليه

.3 - وأما علم الطبيعيات: فهو بحث عن عالم السماوات وكواكبها وما تحتها من الأجسام المفردة: كالماء والهواء والتراب والنار.
وعن الأجسام المركبة، كالحيوان والنبات والمعادن، وعن أسباب تغيرها وامتزاجها، وكذلك يضاهي بحث الطب عن جسم الإنسان، وأعضائهم الرئيسية والخادمة، وأسباب استحالة مزاجه وكما ليس من شرط الدين إنكار علم الطب، فليس من شرطه أيضاً إنكار ذلك العلم، إلا في مسائل معينة، وذكرناها في كتاب تهافت الفلاسفة وما عداها مما يجب المخالفة فيها، فعند التأمل يتبين أنها مندرجة تحتها، وأصل جملتها: أن تعلم أن الطبيعة مسخرة لله تعالى، لا تعمل بنفسها، بل هي مستعملة من جهة فاطرها.
والشمس والقمر والنجوم والطبائع مسخرات بأمره لا فعل لشيء منها بذاته عن ذاته.

4 - وأما الإلهيات: ففيها أكثر أغاليطهم، فما قدروا على الوفاء بالبراهين على ما شرطوه في المنطق، ولذلك كثر الاختلاف بينهم فيه ولقد قرب مذهب أرسطاطاليس فيها من مذاهب الإسلاميين، على ما نقله الفارابي وابن سينا.
ولكن مجموع ما غلطوا فيه يرجع إلى عشرين أصلاً، يجب تكفيرهم في ثلاثة منها، وتبديعهم في سبعة عشر.
ولإبطال مذهبهم في هذه المسائل العشرين صنفنا كتاب التهافت أما المسائل الثلاث، فقد خالفوا فيها كافة المسلمين وذلك في قولهم:
1 - إن الأجساد لا تحشر، وإنما المثاب والمعاقب هي الأرواح المجردة، والمثوبات والعقوبات روحانية لا جسمانية.
ولقد صدقوا في إثبات الروحانية: فإنها كائنة أيضاً، ولكن كذبوا في إنكار الجسمانية
، وكفروا بالشريعة فيما نطقوا به.

2 - ومن ذلك قولهم: " إن الله تعالى يعلم الكليات دون الجزئيات "
، فهو أيضاً كفر صريح، بل الحق أنه: " لا يعزب عنه مثقال ذرةٍ في السمواتِ ولا في الأرضِ "

.3 - ومن ذلك قولهم: يقدم العالم وأزليته،
ولم يذهب أحد من المسلمين إلى شيء من هذه المسائل.

وأما ما وراء ذلك من نفيهم الصفات، وقولهم: إنه عليم بالذات، ولا يعلم زائد على الذات وما يجري مجراه، فمذهبهم فيها قريب من مذهب المعتزلة، ولا يجب تكفير المعتزلة بمثل ذلك.

وقد ذكرنا في كتاب فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة ما يتبين به فساد رأي من يتسارع إلى التكفير في كل ما يخالف مذهبه.
5 - وأما السياسيات: فجميع كلامهم فيها يرجع إلى الحكم المصلحية المتعلقة بالأمور الدنيوية، والإيالة السلطانية، وإنما أخذوه من كتب الله المنزلة على الأنبياء، ومن الحكم المأثورة عن سلف الأنبياء عليهم السلام

.6 - وأما الخلقية: فجميع كلامهم فيها يرجع إلى حصر صفات النفس وأخلاقها، وذكر أجناسها وأنواعها وكيفية معالجتها ومجاهدتها، وإنما أخذوها من كلام الصوفية، وهم المتألهون المواظبون على ذكر الله تعالى، وعلى مخالفة الهوى وسلوك الطريق إلى الله تعالى بالإعراض عن ملاذ الدنيا، وقد انكشف لهم في مجاهدتهم من أخلاق الناس وعيوبها، وآفات أعمالها ما صرحوا بها، فأخذها الفلاسفة ومزجوها بكلامهم توسلاً بالتجمل بها إلى ترويج باطلهم. ولقد كان في عصرهم بل في كل عصر جماعة من المتأهلين لا يخلي الله سبحانه العالم عنهم، فإنهم أوتاد الأرض، ببركاتهم تنزل الرحمة على أهل الأرض كما ورد في الخبر حيث قال صلى الله عليه وسلّم: " بهم تمطرون، وبهم ترزقون " ومنهم كان أصحاب الكهف وكانوا في سالف الأزمنة، على ما نطق به القرآن، فتولد من مزجهم كلام النبوة وكلام الصوفية بكتبهم آفتان: آفة في حق القابل، وآفة في حق الراد.

1 - أما الآفة التي في حق الراد فعظيمة: إذ ظنت طائفة من الضعفاء أن ذلك الكلام إذا كان مدوناً في كتبهم، وممزوجاً بباطلهم، ينبغي أن يهجر ولا يذكر بل ينكر على كل من يذكره إذ لم يسمعوه أولاً منهم، فسبق إلى عقولهم الضعيفة أنه باطل، لأن قائله مبطل، كالذي يسمع من النصراني قوله: " لا إله إلا الله، عيسى رسول الله " فينكره ويقول: " هذا كلام النصارى " ، ولا يتوقف ربما يتأمل أن النصراني كافر باعتبار هذا القول، أو باعتبار إنكاره نبوة محمد عليه الصلاة والسلام.

فإن لم يكن كافراً إلا باعتبار إنكاره، ينبغي أن يخالف في غير ما هو به كافر مما هو حق في نفسه، وإن كان أيضاً حقاً عنده.
وهذه عادة ضعفاء العقول، يعرفون الحق بالرجال، لا الرجال بالحق.

والعاقل يقتدي بقول أمير المؤمنين " علي بن أبي طالب " رضي الله عنه، حيث قال: لا تعرف الحق بالرجال بل اعرف الحق تعرف أهله، والعارف العاقل يعرف الحق، ثم ينظر في نفس القول: فإن كان حقاً قبله سواء كان قائله مبطلاً أو محقاً، بل ربما يحرص على انتزاع الحق من تضاعيف كلام أهل الضلال، عالماً بأن معدن الذهب الرغام.

ولا بأس على الصراف إن أدخل يده في كيس القلاب وانتزع الإبريز الخالص من الزيف والبهرج. مهما كان واثقاً ببصيرته، ويمنع - من ساحل البحر - الأخرقُ، دون السباح الحاذق، ويصد عن مس الحية الصبي دون المعزم البارع. ولعمري! لما غلب على أكثر الخلق ظنهم بأنفسهم الحذاقة والبراعة وكمال العقل، وتمام الآلة في تمييز الحق عن الباطل والهدى عن الضلال وجب حسم الباب في زجر الكافة عن مطالعة كتب أهل الضلال ما أمكن، إذ لا يسلمون عن الآفة الثانية التي سنذكرها أصلاً، وإن سلموا عن هذه الآفة التي ذكرناها. ولقد اعترض - على بعض الكلمات المبثوثة في تصانيفنا في أسرار علوم الدين - طائفة من الذين لم تستحكم في العلوم سرائرهم، ولم تنفتح إلى أقصى غايات المذاهب بصائرهم، وزعمت أن تلك الكلمات من كلام الأوائل، مع أن بعضها من مولدات الخواطر، ولا يبعد أن يقع الحافر على الحافر، وبعضها يوجد في الكتب الشرعية، وأكثرها موجود معناه في كتب الصوفية، وهب أنها لم توجد إلا في كتبهم، فإذا كان ذلك الكلام معقولاً في نفسه، مؤيداً بالبرهان ولم يكن على مخالفة الكتاب والسنة، فلم ينبغي أن يهجر ويترك؟!

فلو فتحنا هذا الباب، وتطرقنا إلى أن يهجر كل حق سبق إليه خاطر مبطل، للزمنا أن نهجر كثيراً من الحق، ولزمنا أن نهجر جملة آيات من آيات القرآن وأخبار الرسول صلى الله عليه وسلّم وحكايات السلف، وكلمات الحكماء والصوفية لأن صاحب إخوان الصفا أوردها في كتابه مستشهداً بها ومستدرجاً قلوب الحمقى بواسطتها إلى باطل، ويتداعى ذلك إلى أن يستخرج المبطلون الحق من أيدينا بإيداعهم إياه كتبهم.

وأقل درجات العالم: أن يتميز عن العامي الغمر.فلا يعاف العسل، وإن وجده في محجمة الحجَّام، ويتحقق أن المحجمة لا تغير ذات العسل، فإن نفرة الطبع عنه مبنية على جهل عامي منشؤه أن المحجمة إنما صنعت للدم المستقذر، فيظن أن الدم مستقذر لكونه في المحجمة، ولا يدري أنه مستقذر لصفة في ذاته، فإذا عدمت هذه الصفة في العسل، فكونه في ظرفه لا يكسبه تلك الصفة، فلا ينبغي أن يوجب له الاستقذار، وهذا وهم باطل، وهو غالب على أكثر الخلق.

فإذا نسبت الكلام وأسندته إلى قائل حسن فيه اعتقادهم، قبلوه وإن كان باطلاً، وإن أسندته إلى من ساء فيه اعتقادهم ردوه وإن كان حقاً، فأبداً يعرفون الحق بالرجال ولا يعرفون الرجال بالحق، وهو غاية الضلال! هذه آفة الرد.

2 - والآفة الثانية آفة القبول: فإن من نظر في كتبهم كإخوان الصفا وغيره، فرأى ما مزجوه بكلامهم من الحكم النبوية، والكلمات الصوفية، ربما استحسنها وقبلها، وحسن اعتقاده فيها، فيسارع إلى قبول باطلهم الممزوج به لحسن ظنه مما رآه استحسنه، وذلك نوع استدراج إلى الباطل.

ولأجل هذه الآفة يجب الزجر عن مطالعة كتبهم لما فيها من الغدر والخطر. وكما يجب صون من لا يحسن السباحة على مزالق الشطوط، يجب صون الخلق عن مطالعة تلك الكتب. وكما يجب صون الصبيان عن مس الحيَّات، يجب صون الأسماع عن مختلط الكلمات، وكما يجب على المعزّم أن لا يمس الحية بين يدي ولده الطفل، إذا علم أن سيقتدي به ويظن أنه مثله، بل يجب عليه أن يحذّره منه، بأن يحذر هو في نفسه ولا يمسها بين يديه، فكذلك يجب على العالم الراسخ مثله، وكما أن المعزّم الحاذق إذا أخذ الحية وميز بني الترياق والسم، واستخرج منها الترياق وأبطل السم، فليس له أن يشح بالترياق على المحتاج إليه.


وكذا الصراف الناقد البصير إذا أدخل يده في كيس القلاب، وأخرج منه الإبريز الخالص، وطرح الزيف والبهرج، فليس له أن يشح بالجيد المرضي على من يحتاج إليه، فكذلك العالم. وكما أن المحتاج إلى الترياق، إذا اشمأزت نفسه منه، حيث علم أنه مستخرج من الحية التي هي مركز السم وجب تعريفه، والفقير المضطر إلى المال، إذا نفر عن قبول الذهب المستخرج من كيس القلاب، وجب تنبيهه على أن نفرته جهل محض، هو سبب حرمانه الفائدة التي هي مطلبه، وتحتم تعريفه أن قرب الجوار بين الزيف والجيد لا يجعل الجيد زيفاً، كما لا يجعل الزيف جيداً، فكذلك قرب الجوار بين الحق الباطل، لا يجعل الحق باطلاً، كما لا يجعل الباطل حقاً، فهذا مقدار ما أردنا ذكره من آفة الفلسفة وغائلتها.
***
مذهب التعليم وغائلتهثم إني لما فرغت من علم الفلسفة وتحصيله وتفهمه وتزييف ما يزيف منه، علمت أن ذلك أيضاً غير واف بكمال الغرض، وأن العقل ليس مستقلاً بالإحاطة بجميع المطالب، ولا كاشفاً للغطاء عن جميع المعضلات، وكان قد نبغت نابغة التعليمية، وشاع بني الخلق تحدثهم بمعرفة معنى الأمور من جهة الإمام المعصوم القائم بالحق، فعنّ لي أن أبحث في مقالاتهم، لأطّلع على ما في كنانتهم. ثم اتفق أن ورد علي أمر جازم من حضرة الخلافة، بتصنيف كتاب يكشف عن حقيقة مذهبهم. فلم يسعني مدافعته، وصار ذلك مستحثاً من خارج، ضميمة للباعث من الباطن، فابتدأت بطلب كتبهم وجمع مقالاتهم. وكذلك قد بلغني بعض كلماتهم المستحدثة التي ولدتها خواطر أهل العصر، لا على المنهاج المعهود من سلفهم.

فجمعت تلك الكلمات، ورتبتها ترتيباً محكماً مقارناً للتحقيق، واستوفيت الجواب عنها، حتى أنكر بعض أهل الحق مبالغتي في تقرير حجتهم، فقال: هذا سعي لهم، فإنهم كانوا يعجزون عن نصرة مذهبهم بمثل هذه الشبهات لولا تحقيقك لها، وترتيبك إياها.

وهذا الإنكار من وجه حق،
فقد أنكر أحمد بن حنبل على الحارث المحاسبي رحمهما الله تصنيفه في الرد على المعتزلة، فقال الحارث: الرد على البدعة فرض فقال أحمد: نعم، ولكن حكيت شبهتهم أولاً ثم أجبت عنها، فيم تأمن أن يطالع الشبهة من يعلق ذلك بفهمه، ولا يلتفت إلى الجواب أو ينظر في الجواب ولا يفهم كنه؟

وما ذكره أحمد بن حنبل حق، ولكن في شبهة لم تنتشر ولم تشتهر فأما إذا انتشرت، فالجواب عنها واجب ولا يمكن الجواب عنها إلا بعد الحكاية
.
نعم، ينبغي أن لا يتكلف لهم شبهة لم يتكلفوها، ولم أتكلف أنا ذلك، بل كنت قد سمعت تلك الشبهة من واحد من أصحابي المختلفين إلي، بعد أن كان قد التحق بهم، وانتحل مذهبهم، وحكى أنهم يضحكون على تصانيف المصنفين في الرد عليهم، بأنهم لم يفهموا بعد حجتهم، ثم ذكر تلك الحجة وحكاها عنهم، فلم أرض لنفسي أن يظن في الغفلة عن اصل حجتهم، فلذلك أوردتها، ولا أن يظن بي أني - وإن سمعتها - لم أفهمها، فلذلك قررتها.والمقصود، أني قررت شبهتهم إلى أقصى الإمكان ثم أظهرت فسادها بغاية البرهان.

والحاصل: أنه لا حاصل عند هؤلاء ولا طائل لكلامهم، ولولا سوء نصرة الصديق الجاهل، لما انتهت تلك البدعة - مع ضعفها - إلى هذه الدرجة، ولكن شدة التعصب دعت الذابين عن الحق إلى تطويل النزاع معهم في مقدمات كلامهم، وإلى مجاحدتهم في كل ما نطقوا به، فجاحدوهم في دعواهم: الحاجة إلى التعليم والمعلم، وفي دعواهم أنه: لا يصلح كل معلم، بل لا بد من معلم معصوم وظهرت حجتهم في إظهار الحاجة إلى التعليم والمعلم، وضعف قول المنكرين في مقابلته، فاغتر بذلك جماعة وظنوا أن ذلك من قوة مذهبهم وضعف مذهب المخالفين، ولم يفهموا أن ذلك لضعف ناصر الحق وجعله بطريقه، بل الصواب الاعتراف بالحاجة إلى المعلم، وأنه لا بد وأن يكون المعلم معصوماً، ولكن معلمنا المعصوم هو محمد صلى الله عليه وسلّم فإذا قالوا: هو ميت فنقول: ومعلمكم غائب فإذا قالوا: معلمنا قد علم الدعاة وبثهم في البلاد، وهو ينتظر مراجعتهم إن اختلفوا أو أشكل عليهم مشكل فنقول : ومعلمنا قد علم الدعاة وبثهم في البلاد وأكمل التعليم إذ قال الله تعالى: " اليوم أكملتُ لكم دينكم وأتممتُ عليكمْ نعمتي " ، وبعد كمال التعليم لا يضر موت المعلم كما لا يضر غيبته.

فبقي قولهم: كيف تحكمون فيما لم تسمعوه؟ أبالنص ولم تسمعوه، أم بالإجتهاد والرأي وهو مظنة الخلاف؟ فنقول: نفعل ما فعله معاذ إذ بعثه رسول الله عليه الصلاة والسلام إلى اليمن. أن نحكم بالنص عند وجود النص، وبالإجتهاد عند عدمه.

بل كما يفعله دعاتهم إذا بعدوا عن الإمام إلى أقاصي البلاد إذ لا يمكنه أن يحكم بالنص، فإن النصوص المتناهية لا تستوعب الوقائع الغير المتناهية، ولا يمكنه الرجوع في كل واقعة إلى بلدة الإمام، وأن يقطع المسافة ويرجع فيكون المستفتي قد مات، وفات الانتفاع بالرجوع، فمن أشكلت عليه القبلة ليس له طريق إلا أن يصلي بالاجتهاد، إذ لو سافر إلى بلدة الإمام لمعرفة القبلة، فيفوت وقت الصلاة.

فإذن، جازت الصلاة إلى غير القبلة بناء على الظن. ويقال: إن المخطيء في الاجتهاد له أجرٌ واحدٌ وللمُصيبِ أجران فكذلك في جميع المجتهدات، وكذلك أمر صرف الزكاة إلى الفقير، فربما يظنه فقيراً باجتهاده وهو غني باطناً بإخفائه ماله، فلا يكون مؤاخذاً به وإن أخطأ، لأنه لم يؤاخذ إلا بموجب ظنه. فإن قال: ظن مخالفهِ كظنه فأقول: هو مأمور باتباع ظن نفسه، كالمجتهد في القبلة يتبع ظنه وإن خالفه غيره

فإن قال: فالمقلد يتبع أبا حنيفة والشافعي رحمهما الله أم غيرهما؟ فأقول: فالمقلد في القبلة عند الاشتباه في معرفة الأفضل الأعلم بدلائل القبلة، فيتبع ذلك الاجتهاد، فكذلك في المذاهب فرد الخلق إلى الاجتهاد - ضرورة - الأنبياءُ والأئمة مع العلم بأنهم قد يخطئون، بل قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم:" أنا أحكم بالظاهر والله يتولى السرائر
" . أي أنا أحكم بغالب الظن الحاصل من قول الشهود، وربما أخطأوا فيه. ولا سبيل إلى الأمن من الخطأ للأنبياء في مثل هذه المجتهدات فيكف يطمع في ذلك؟.

ولهم ها هنا سؤالان: أحدهما قولهم: هذا وإن صح في المجتهدات فلا يصح في قواعد العقائد، إذ المخطئ فيه غير معذور، فكيف السبيل إليه؟ فأقول: قواعد العقائد يشتمل عليها الكتاب والسنة، وما وراء ذلك من التفصيل، والمتنازع فيه، يعرف الحق فيه بالقسطاس المستقيم.
وهي الموازين التي ذكرها الله تعالى في كتابه، وهي خمسة ذكرتها في كتاب القسطاس المستقيم " فإن قال: خصومك يخالفونك في ذلك الميزان فأقول: ولا يتصور أن يفهم ذلك الميزان ثم يخالف فيه، إذ لا يخالف فيه أهل التعليم، لأني استخرجته من القرآن وتعلمته منه، ولا يخالف فيه أهل المنطق، لأنه موافق لما شرطوه في المنطق وغير مخالف له، ولا يخالف فيه المتكلم لأنه موافق لما يذكره في أدلة النظريات، وبه يعرف الحق في الكلاميات. فإن قال: فإن كان في يدك مثل هذا الميزان فلم لا ترفع الخلاف بين الخلق؟، فأقول: لو أصغوا إلي لرفعت الخلاف بينهم، وذكرت طريق رفع الخلاف في كتاب القسطاس المستقيم فتأمله لتعلم أنه حق وأنه يرفع الخلاف قطعاً لو أصغوا ولا يصغون إليه بأجمعهم!

بل قد أصغى إلي طائفة، فرفعت الخلاف بينهم.وإمامك يريد رفع الخلاف بينهم مع عدم إصغائهم، فلم لم يرفع إلى الآن؟ ولم لم يرفع علي رضي الله عنه وهو رأس الأئمة؟
أو يدعي أنه يقدر على حمل كافتهم على الإصغاء قهراً، فلم لم يحملهم إلى الآن؟
ولأي يوم أجله؟ وهل حصل بين الخلق بسبب دعوته إلا زيادة خلاف وزيادة مخالف؟

نعم! كان يخشى من الخلاف نوع الضرر لا ينتهي إلى سفك الدماء، وتخريب البلاد وأيتام الأولاد، وقطع الطرق، والإغارة على الأموال. وقد حدث في العالم من بركات رفعكم الخلاف من الخلاف ما لم يكن بمثله عهد.

فإن قال: ادعيت أنك ترفع الخلاف بين الخلق ولكن المتحير بين المذاهب المتعارضة، والاختلافات المتقابلة، لم يلزمه الإصغاء إليك دون خصمك وأكثر الخصوم يخالفونك، ولا فرق بينك وبينهم وهذا هو سؤالهم الثاني،
فأقول: وهذا أولاً ينقلب عليك، فإنك إذا دعوت هذا المتحير إلى نفسك فيقول المتحير: بما صرت أولى من مخالفيك، وأكثر أهل العلم يخالفونك؟ فليت شعري! بماذا تجيب؟ أتجيب بأن تقول: إمامي منصوص عليه، فمن يصدقك في دعوى النص، وهو لم يسمع النص من الرسول؟ وإنما يسمع دعواك مع تطابق أهل العلم على اختراعك وتكذيبك.

ثم هب أنه سلم لك النص
، فإن كان متحيراً في أصل النبوة، فقال: هب أن إمامك يدلي بمعجزة عيسى عليه السلام فيقول: الدليل على صدقي أني أحيي أباك، فأحياه، فناطقني بأنه محق، فبماذا أعلم صدقه؟ ولم يعلم كافة الخلق صدق عيسى عليه السلام بهذه المعجزة، بل عليه من الأسئلة المشكلة ما لا يدفع إلا بدقيق النظر العقلي، والنظر العقلي لا يوثق به عندك، ولا يعرف دلالة المعجزة على الصدق ما لم يعرف السحر والتمييز بينه وبين المعجزة.

وما لم يعرف أن الله لا يضل عباده.
وسؤال الإضلال وعسر تحرير الجواب عنه مشهور فبماذا تدفع جميع ذلك؟ ولم يكن إمامك أولى بالمتابعة من مخالفه! فيرجع إلى الأدلة النظرية التي ينكرها، وخصمه يدلي بمثل تلك الأدلة وأوضح منها وهذا السؤال قد انقلب عليهم انقلاباً عظيماً لو اجتمع أولهم وآخرهم على أن يجيبوا عنه جواباً لم يقدروا عليه. وإنما نشأ الفساد من جماعة من الضعفة ناظروهم، فلم يشتغلوا بالقلب بل بالجواب.

وذلك مما يطول فيه الكلام، وما لا يسبق سريعاً إلى الإفهام، فلا يصلح للإفحام.

فإن قال قائل: فهذا هو القلب، فهل عنه جواب؟ فأقول: نعم! جوابه أن المتحير لو قال: أنا متحير ولم يعين المسألة التي هو متحير فيها، يقال له: أنت كمريض، يقول: أنا مريض ولا يعين مرضه ويطلب علاجه فيقال له: ليس في الوجود علاج للمرض المطلق، بل لمرض معين. من صداع أو إسهال أو غيرهما فكذلك المتحير ينبغي أن يعين ما هو متحير فيه، فإن عين المسألة عرفته الحق فيها بالوزن بالموازين الخمسة، التي لا يفهمها أحد إلا ويعترف بأنه الميزان الحق، ويفهم منه أيضاً صحة الوزن، كما يفهم متعلم علم الحساب، نفس الحساب، وكون المحاسب المعلم عالماً بالحساب وصادقاً فيه. وقد أوضحت ذلك في كتاب القسطاس المستقيم في مقدار عشرين ورقة، فليتأمل.

وليس المقصود الآن بيان فساد مذهبهم، فقد ذكرت ذلك في كتاب المستظهري أولاً، وفي كتاب حجة الحق ثانياً، وهو جواب كلام لهم عرض علي ببغداد، وفي كتاب مفصل الخلاف الذي هو اثنا عشر فصلاً ثالثاً، وهو جواب كلام عرض علي بهمدان، وفي كتاب الدرجة المرقوم بالجداول رابعاً، وهو من ركيك كلامهم الذي عرض علي بطوس، وفي كتاب القسطاس المستقيم خامساً، وهو كتاب مستقل مقصوده أن هؤلاء، ليس معهم شيء من الشفاء المنجي من ظلمات الآراء، بل هم مع عجزهم عن إقامة البرهان على تعيين الإمام، طالما جربناهم فصدقناهم في
الحاجة إلى التعليم، وإلى المعلم المعصوم وعرضنا عليهم إشكالات فلم يفهموها، فضلاً عن القيام بحلّها! فلما عجزوا أحالوا على الإمام الغائب، وقالوا: إنه لا بد من السفر إليه والعجب أنهم ضيعوا عمرهم في طلب المعلم وفي التبجح بالظفر به، ولم يتعلموا منه شيئاً أصلاً، كالمتضمخ بالنجاسة، يتعب في طلب الماء حتى إذا وجده لم يستعمله، وبقي متضمخاً بالخبائث. ومنهم من ادعى شيئاً من علمهم، فكان حاصل ما ذكره شيئاً من ركيك فلسفة فيثاغورس وهو رجل من قدماء الأوائل، ومذهبه أرك مذهب الفلسفة، وقد رد عليه أرسطاطاليس، بل استدرك كلامه واسترذله، وهو المحكي في كتاب إخوان الصفا وهو على التحقيق حشو الفلسفة.فالعجب ممن يتعب طول العمر في تحصيل العلم ثم يقنع بمثل ذلك العلم الركيك المستغيث، ويظن بأنه ظفر بأقصى مقاصد العلوم!

فهؤلاء أيضاً جربناهم وسبرنا ظاهرهم وباطنهم، في رجع حاصلهم إلى استدراج العوام، وضعفاء العقول ببيان الحاجة إلى المعلم، ومجادلتهم في إنكارهم الحاجة إلى التعليم بكلام قوي مفحم، حتى إذا ساعدهم على الحاجة إلى المعلم مساعد وقال: هات علمه وأفدنا من تعليمه! وقف وقال: الآن إذا سلمت لي هذا فاطلبه، فإنما غرضي هذا القدر فقط. إذ علم أنه لو زاد على ذلك لافتضح ولعجز عن حل أدنى الإشكالات، بل عجز عن فهمه، فضلاً عن جوابه.
فهذه حقيقة حالهم فأخبرهم تقلهم فلما جربناهم نفضنا اليد عنهم أيضاً.

طرق الصوفية

ثم إني لما فرغت من هذه العلوم أقبلت بهمتي على طريق الصوفية، وعلمت أن طريقتهم إنا تتم بعلم وعمل، وكان حاصل علومهم قطع عقبات النفس، والتنزه عن أخلاقها المذمومة وصفاتها الخبيثة، حتى يتوصل بها إلى تخلية القلب عن غير الله تعالى وتحليته بذكر الله.

وكان العلم أيسر علي من العمل، فابتدأت بتحصيل علمهم من مطالعة كتبهم مثل:
قوت القلوب لأبي طالب المكي رحمه الله، وكتب الحارث المحاسبي، والمتفرقات المأثورة عن الجنيد والشبلي وأبي يزيد البسطامي قدس الله أرواحهم وغيرهم من المشايخ، حتى اطلعت على كنه مقاصدهم العلمية، وحصلت ما يمكن أن يحصل من طريقهم بالتعلم والسماع.
فظهر لي أن أخص خواصهم، ما لا يمكن الوصول إليه بالتعلم بل بالذوق والحال وتبدل الصفات.
وكم من الفرق أن تعلم حد الصحة وحد الشبع وأسبابهما وشروطهما، وبين أن تكون صحيحاً وشبعان؟ وبين أن تعرف حد السكر، وأنه عبارة عن حالة تحصل من استيلاء أبخرة تتصاعد من المعدة على معادن الفكر، وبين أن تكون سكران!

بل السكران لا يعرف حد السكر، وعلمه وهو سكران وما معه من علمه شيء. الطبيب في حالة المرض يعرف حد الصحة وأسبابها وأدويتها، وهو فاقد الصحة.
فكذلك فرق بين أن تعرف حقيقة الزهد وشروطه وأسبابه، وبين أن تكون حالك الزهد، وعزوف النفس عن الدنيا!.فعلمت يقيناً أنهم أرباب الأحوال، لا أصحاب الأقوال.
وأن ما يمكن تحصيله بطريق العلم فقد حصلته، ولم يبق إلا ما لا سبيل إليه بالسماع والتعلم، بل بالذوق والسلوك. وكان قد حصل معي - من العلوم التي مارستها والمسالك التي سلكتها، في التفتيش عن صنفي العلوم الشرعية والعقلية إيمان يقيني بالله تعالى، وبالنبوة، وباليوم الآخر.
فهذه الأصول الثلاثة من الإيمان كانت قد رسخت في نفسي، لا بدليل معين مجرد، بل بأسباب وقرائن وتجارب لا تدخل تحت الحصر تفاصيلها.
وكان قد ظهر عندي أنه لا مطمع لي في سعادة الآخرة إلا بالتقوى، وكف النفس عن الهوى، وأن رأس ذلك كله، قطع علاقة القلب عن الدنيا، بالتجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والإقبال بكنه الهمة على الله تعالى. وأن ذلك لا يتم إلا بالإعراض عن الجاه والمال، والهرب من الشواغل والعلائق.

ثم لاحظت أحوالي
، فإذا أنا منغمس في العلائق، وقد أحدقت بي من الجوانب، ولاحظت أعمالي - وأحسنها التدريس والتعليم - فإذا أنا فيها مقبل على علوم غير مهمة، ولا نافعة في طريق الآخرة.ثم تفكرت في نيتي في التدريس، فإذا هي غير خالصة لوجه الله تعالى، بل باعثها ومحركها طلب الجاه وانتشار الصيت، فتيقنت أني على شفا جرف هار، وأني قد أشفيت على النار، إن لم أشتغل بتلافي الأحوال.

فلم أزل أتفكر فيه مدة
، وأنا بعد على مقام الاختيار، أصمم العزم على الخروج من بغداد ومفارقة تلك الأحوال يوماً، وأحل العزم يوماً، وأقدم فيه رجلا وأؤخر عنه أخرى.

لا تصدق لي رغبة في طلب الآخرة بكرة، إلا ويحمل عليها جلد الشهوة حملة فيفترها عشية، فصارت شهوات الدنيا تجاذبني بسلاسلها إلى المقام، ومنادي الإيمان ينادي: الرحيل الرحيل!
فلم يبق من العمر إلا قليل، وبين يديك السفر الطويل، وجميع ما أنت فيه من العلم والعمل رياء وتخييل! فإن لم تستعد الآن للآخرة، فمتى تستعد؟ وإن لم تقطع الآن هذه العلائق فمتى تقطع؟ فعند ذلك تنبعث الداعية، وينجزم العزم على الهرب والفرار! ثم يعود الشيطان ويقول: هذه حال عارضة، إياك أن تطاوعها، فإنها سريعة الزوال، فإن أذعنت لها وتركت هذا الجاه العريض، والشأن المنظوم الخالي عن التكدير والتنغيص، والأمر المسلم الصافي عن منازعة الخصوم، ربما التفتت إليه نفسك، ولا يتيسر لك المعاودة.

فلم أزل أتردد بين تجاذب شهوات الدنيا، ودواعي الآخرة، قريباً من ستة أشهر أولها رجب سنة ثمان وثمانين وأربع مئة، وفي هذا الشهر جاوز الأمر حد الاختيار إلى الاضطرار، إذ أقفل الله على لساني حتى اعتقل عن التدريس، فكنت أجاهد نفسي أن أدرس يوماً واحداً تطييباً لقلوب المختلفة إلي، فكان لا ينطلق لساني بكلمة واحدة ولا أستطيعها البتة، حتى أورثت هذه العقلة في اللسان حزناً في القلب، بطلت معه قوة الهضم ومراءة الطعام والشراب، فكان لا ينساغ لي ثريد، ولا تنهضم لي لقمة، وتعدى إلى ضعف القوى، حتى قطع الأطباء طمعهم من العلاج وقالوا: هذا أمر نزل بالقلب، ومنه سرى إلى المزاج، فلا سبيل إليه بالعلاج، إلا بأن يتروح السر عن الهم الملم.


ثم لما أحسست بعجزي، وسقط بالكلية اختياري، التجأت إلى الله تعالى التجاء المضطر الذي لا حيلة له، فأجابني الذي يجبي المضطر إذا دعاه وسهل على قلبي الإعراض عن الجاه والمال والأهل والولد والأصحاب، وأظهرت عزم الخروج إلى مكة وأنا أدبر في نفسي سفر الشام حذراً أن يطلع الخليفة وجملة الأصحاب على عزمي على المقام في الشام، فتلطفت بلطائف الحيل في الخروج من بغداد على عزم أن لا أعاودها أبداً.

واستهدفت لأئمة أهل العراق كافة، إذ لم يكن فيهم من يجوز أن يكون للإعراض عما كنت فيه سبب ديني، إذ ظنوا أن ذلك هو المنصب الأعلى في الدين، وكان ذلك مبلغهم من العلم، ثم ارتبك الناس في الاستنباطات، وظن من بعد عن العراق، أن ذلك كان لاستشعار من جهة الولاة، وأما من قرب من الولاة كان يشاهد إلحاحهم في التعلق بي والانكباب علي، وإعراضي عنهم، وعن الالتفات إلى قولهم، فيقولون: هذا أمر سماوي، وليس له سبب إلا عين أصابت أهل الإسلام وزمرة أهل العلم.

ففارقت بغداد، وفرقت ما كان معي من المال، ولم أدخر إلا قدر الكفاف، وقوت الأطفال،
وترخصاً بأن مال العراق مرصد للمصالح، ولكونه وقفاً على المسلمين.
فلم أر في العالم مالاً يأخذه العالم لعياله أصلح منه. ثم دخلت الشام، وأقمت به قريباً من سنتين اشغل الشغل لي إلا العزلة والخلوة، والرياضة والمجاهدة، اشتغالاً بتزكية النفس، وتهذيب الأخلاق، وتصفية القلب لذكر الله تعالى، كما كنت حصلته من كتب الصوفية.

فكنت أعتكف مدة في مسجد دمشق، أصعد منارة المسجد طول النهار، وأغلق بابها على نفسي، وثم رحلت منها إلى بيت المقدس، أدخل كل يوم الصخرة، وأغلق بابها على نفسي . ثم تحركت في داعية فريضة الحج، والاستمداد من بركات مكة والمدينة وزيارة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الفراغ من زيارة الخليل صلوات الله وسلامه عليه.


فسرت إلى الحجاز، ثم جذبتني الهمم، ودعوات الأطفال إلى الوطن، فعاودته بعد أن كنت أبعد الخلق عن الرجوع إليه، فآثرت العزلة به أيضاً حرصاً على الخلوة، وتصفية القلب للذكر.وكانت حوادث الزمان، ومهمات العيال، وضرورات المعيشة، تغير في وجه المراد، وتشوش صفوة الخلوة، وكان لا يصفو لي الحال إلا في أقوات متفرقة.

لكني مع ذلك لا أقطع طمعي منها، فتدفعني عنها العوائق، وأعود إليها.

ودمت على ذلك مقدار عشر سنين، وانكشفت لي في أثناء هذه الخلوات أمور لا يمكن إحصاؤها واستقصاؤها، والقدر الذي أذكره لينتفع به.


الصوفية

-----------------------
إني علمت يقيناً أن الصوفية هم السالكون لطريق الله تعالى خاصة وأن سيرتهم أحسن السير، وطريقهم أصوب الطرق، وأخلاقهم أزكى الأخلاق، بل لو جمع عقل العقلاء، وحكمة الحكماء، وعلم الواقفين على أسرار الشرع من العلماء، ليغيروا شيئاً من سيرهم وأخلاقهم، ويبدلوه بما هو خير منه، لم يجدوا إليه سبيلاً.

..........

فإن جميع حركاتهم وسكناتهم، في ظاهرهم وباطنهم، مقتبسة من نور مشكاة النبوة، وليس وراء نور النبوة على وجه الأرض نور يستضاء به.

وبالجملة، فماذا يقول القائلون في طريقة، طهارتها - وهي أول شروطها - تطهير القلب بالكلية عما سوى الله تعالى، ومفتاحها الجاري منها مجرى التحريم من الصلاة، استغراق القلب بالكلية بذكر الله، وآخرها الفناء بالكلية في الله؟!


وهذا آخرها بالإضافة إلى ما يكاد يدخل تحت الاختيار والكسب من أوائلها.
وهي على التحقيق أول الطريقة، وما قبل ذلك كالدهليز للسالك إليه.

... ومن أول الطريقة تبتدئ المكاشفات والمشاهدات، حتى أنهم في يقظتهم يشاهدون الملائكة، وأرواح الأنبياء ويسمعون أصواتاً ويقتبسون منهم فوائد.
ثم يترقى الحال من مشاهدة الصور والأمثال، إلى درجات يضيق عنها النطق، فلا يحاول معبر أن يعبر عنها إلا اشتمل لفظه على خطأ صريح لا يمكنه الاحتراز عنه.

... وعلى الجملة، ينتهي الأمر إلى قرب، يكاد يتخيل منه طائفة الحلول، وطائفة الاتحاد، وطائفة الوصول، وكل ذلك خطأ.

وقد بينا وجه الخطأ فيه في كتاب المقصد الأسنى.
بل الذي لابسته تلك الحالة لا ينبغي أن يزيد على أن يقول:وكان ما كان مما لستُ أذكرهُ ... فظنَّ خيراً ولا تسأل عن الخبرِ ... وبالجملة فمن لم يرزق منه شيئاً بالذوق، فليس يدرك من حقيقة النبوة إلا الاسم.
وكرامات الأولياء، هي على التحقيق، بدايات الأنبياء. وكان ذلك أول حال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أقبل إلى جبل حراء حيث كان يخلو فيه بربه ويتعبد، حتى قالت العرب: إن محمداً عشق ربه.

وهذه الحالة، يتحققها بالذوق من يسلك سبيلها. فمن لم يرزق الذوق، فيتيقنها بالتجربة والتسامع، وإن أكثر الصحبة، حتى يفهم ذلك بقرائن الأحوال يقيناً.

ومن جالسهم، استفاد منهم هذا الإيمان فهم القوم لا يشقى جليسهم.
ومن لم يرزق صحبتهم فليعلم إمكان ذلك يقيناً بشواهد البرهان، على ما ذكرناه في كتاب عجائب القلب من كتب إحياء علوم الدين. والتحقيق بالبرهان علم، وملابسة عين تلك الحالة ذوق، والقبول من التسامح والتجربة بحسن الظن إيمان.

فهذه ثلاث درجات: " يرفع الله الذين أمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجاتٌ " .
... ووراء هؤلاء قوم جهال، هم المنكرون لأصل ذلك، المتعجبون من هذا الكلام، ويستمعون ويسخرون، ويقولون: العجب! إنهم كيف يهذون! وفهيم قال الله تعالى: " ومنهم من يسمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفاً أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم فأصمهُم وأعمى أبصارهم " .

... ومما بان لي بالضرورة من ممارسة طريقتهم، حقيقة النبوة وخاصيتها ولا بد من التنويه على أصلها لشدة مسيس الحاجة إليها.
حقيقة النبوة واضطرار كافة الخلق إليها اعلم: أن جوهر الإنسان في أصل الفطرة، خلق خالياً ساذجاً لا خير معه من عوالم الله تعالى، والعوالم كثيرة لا يحصيها إلا الله تعالى، كما قال: " وما يعلم جنودُ ربك إلا هو " وإنما خبره من العوالم بواسطة الإدراك وكل إدراك من الإدراكات خلق ليطلع الإنسان به على عالم من الموجودات، ونعني بالعوالم، أجناس الموجودات.فأول ما يخلق في الإنسان حاسة اللمس، فيدرك بها أجناساً من الموجودات: كالحرارة، والبرودة، والرطوبة، واليبوسة، واللين، والخشونة، وغيرها.
... واللمس قاصر عن الألوان والأصوات قطعاً، بل هلي كالمعدوم في حس اللمس.
ثم تخلق له حاسة البصر، فيدرك بها الألوان والأشكال، وهو أوسع عالم المحسوسات. ثم ينفتح له السمع، فيسمع الأصوات والنغمات، ثم يخلق له الذوق.
وكذلك إلى أن يجاوز عالم المحسوسات، فيخلق فيه التمييز، وهو قريب من سبع سنين، وهو طور آخر من أطور وجوده.
فيدرك فيه أموراً زائدة على عالم المحسوسات، ولا يوجد منها شيء في عالم الحس. ثم يترقى إلى طول آخر، فيخلق له العقل، فيدرك الواجبات والجائزات والمستحيلات، وأموراً لا توجد في الأطوار التي قبله.
ووراء العقل طور آخر تفتح فيه عين أخرى يبصر بها الغيب وما سيكون في المستقبل، وأموراً أخر، العقل معزول عنها كعزل قوة التمييز. من إدراك المعقولات، وكعزل قوة الحس عن مدركات التمييز، وكما أن المميز لو عرضت عليه مدركات العقل لأباها واستبعدها، فكذلك بعض العقلاء أبوا مدركات النبوة واستبعدوها، وذلك عين الجهل:

إذ لا مستند لهم إلا أنه طور لم يبلغه ولم يوجد في حقه،
فيظن أنه غير موجود في نفسه. والأكمه لو لم يعلم بالتواتر والتسامع الألوان والأشكال، وحكي له ذلك ابتداء، لم يفهمها ولم يقربها.
وقد قرب الله تعالى على خلقه بأن أعطاهم نموذجاً من خاصية النبوة، وهو النوم، إذ النائم يدرك ما سيكون من الغيب، إما صريحاً وإما في كسوة مثال يكشف عنه التعبير.

وهذا لو لم يجربه الإنسان من نفسه - وقيل له: إن من الناس من يسقط مغشياً عليه كالميت، ويزول عنه إحساسه وسمعه وبصره فيدرك الغيب - لأنكره، وأقام البرهان على استحالته وقال: القوى الحساسة أسباب الإدراك فمن لا يدرك الأشياء مع وجودها وحضورها، فبأن لا يدرك مع ركودها أولى وأحق. وهذا نوع قياسي يكذبه الوجود والمشاهدة فكما أن العقل طور من أطوار الآدمي، يحصل فيه عين يبصر بها أنواعاً من المعقولات، والحواس معزولة عنها ... فالنبوة أيضاً عبارة عن طور يحصل فيه عين لها نور يظهر في نورها الغيب، وأمور لا يدركها العقل.

والشك في النبوة، وإما أن يقع في مكانها، وأو في وجودها ووقوعها، وأو في حصولها لشخص معين.ودليل إمكانها ووجودها. ودليل وجودها وجود معارف في العالم لا يتصور أن تنال بالعقل، كعلم الطب والنجوم، فإن من بحث عنها علم بالضرورة أنها لا تدرك إلا بإلهام إلهي، وتوفيق من جهة الله تعالى، ولا سبيل إليها بالتجربة فمن الأحكام النجومية ما لا يقع إلا في كل ألف سنة مرة، فكيف ينال ذلك بالتجربة؟

وكذلك خواص الأدوية فتبين بهذا البر هان، أن في الإمكان وجود طريق لإدراك هذه الأمور التي لا يدركها العقل، وهو المراد بالنبوة، لا أن النبوة عبارة عنها فقط، بل إدراك هذا الجنس الخارج عن مدركات العقل إحدى خواص النبوة، ولها خواص كثيرة سواها. وما ذكرنا فقطرة من بحرها، إنما ذكرناها لأن معك نموذجاً منها، وهو مدركاتك في النوم، ومعك علوم من جنسها في الطب والنجوم، وهي معجزات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ولا سبيل إليها للعقلاء ببضاعة العقل أصلاً.

وأما ما عدا هذا من خواص النبوة، فإنما يدرك بالذوق، من سلوك طريق التصوف، لأن هذا إنما فهمته بأنموذج رزقته وهو النوم، ولولاه لما صدقت به. فإن كان للنبي خاصة ليس لك منها أنموذج، ولا تفهمها أصلاً، فكيف تصدق بها؟ وإنما التصديق بعد الفهم. وذلك الأنموذج تحصل في أوائل طريق التصوف، فيحصل به نوع من الذوق بالقدر الحاصل ونوع من التصديق بما لم يحصل بالقياس إليه فهذه الخاصية الواحدة تكفيك للإيمان بأصل النبوة.
فإن وقع لك الشك في شخص معين، أنه نبي أم لا؟ فلا يحصل اليقين إلا بمعرفة أحواله، إما بالمشاهدة، أو بالتواتر والتسامع، فإنك إذا عرفت الطب والفقه، يمكنك أن تعرف الفقهاء والأطباء بمشاهدة أحوالهم، وسماع أقوالهم، وإن لم تشاهدهم، ولا تعجز أيضاً عن معرفة كون الشافعي رحمه الله فقيهاً، وكون جالينوس طبيباً، معرفة بالحقيقة لا بالتقليد عن الغير.
بل بأن تتعلم شيئاً من الفقه والطب وتطالع كتبهما وتصانيفهما، فيحصل لك علم ضروري بحالهما. فكذلك إذا فهمت معنى النبوة فأكثرت النظر في القرآن والأخبار، يصل لك العلم الضروري بكونه صلى الله عليه وسلم على أعلى درجات النبوة، وأعضد ذلك بتجربة ما قاله في العبادات وتأثيرها في تصفية القلوب، وكيف صدق صلى الله عليه وسلم في قوله: "
مَنْ عَمِلَ بِما عَلِمَ أَوْرَثَهُ الله عِلْمُ ما لَمْ يَعْلَمْ " ويكف صدق في قوله: " من أعان ظالماً سلطهُ الله عليهِ " وكيف صدق في قوله: " من اصبح وهُمُومُهُ همٌّ واحدٌ كفاه الله تعالى هُمُومَ الدنيا والآخرةِ " .فإذا جربت ذلك في ألف وألفين وآلاف، حصل لك علم ضروري ولا تتمارى فيه.

فمن هذا الطريق اطلب اليقين بالنبوة، ولا من قلب العصا ثعباناً، وشق القمر، فإذن ذلك إذا نظرت إليه وحده، ولم تنضم إليه القرائن الكثيرة الخارجة عن الحصر، وربما ظننت أنه سحر وتخييل، وأنه من الله تعالى إضلال فإنه " يُضِلُّ من يَشَاءُ ويَهدي من يشاءُ " .وترد عليك أسئلة المعجزات، فإذا كان مستند إيمانك إلى كلام منظوم في وجه دلالة المعجزة، فينجزم إيمانك بكلام مرتب في وجه الإشكالات والشبهة عليها، فليكن مثل هذه الخوارق إحدى الدلائل والقرائن في جملة نظرك، حتى يحصل لك علم ضروري لا يمكنك ذكر مستنده على التعيين، كالذي يخبرك جماعة بخبر متواتر لا يمكنه أن يذكر أن اليقين مستفاد من قول واحد معين، بل من حيث لا يدري ولا يخرج من جملة ذلك ولا بتعيين الآحاد.
فهذا هو الإيمان القوي العلمي.

... وأما الذوق فهو كالمشاهدة والأخذ باليد، ولا يوجد إلا في طريق الصوفية فهذا القدر من حقيقة النبوة، كاف في الغرض الذي أقصده الآن، وسأذكر وجه الحاجة إليه.
... سبب نشر العلم بعد الإعراض عنهثم إني لما واظبت على العزلة والخلوة قريباً من عشر سنين، وبان لي في أثناء ذلك على الضرورة من أسباب لا أحصيها، مرة بالذوق، ومرة بالعلم البرهاني ومرة بالقبول الإيماني: أن للإنسان بدناً وقلباً، وأعني بالقلب حقيقة روحه التي هي محل معرفة الله ، دون اللحم والدم الذي يشارك فيه الميت والبهيمة، وأن البدن له صحة بها سعادته ومرض فيه هلاكه، وأن القلب كذلك له صحة وسلامة، ولا ينجو " إلا من أتى الله بقلب سليم " وله مرض فيه هلاكه الأبدي الأخروي، كما قال تعالى: في قلوبهم مرضٌ " وأن الجهل بالله سم مهلك، وأن معصية الله بمتابعة الهوى، داؤه الممرض، وأن معرفة الله تعالى ترياقه المحيي، وطاعته بمخالفة الهوى دواؤه الشافي، وأنه لا سبيل إلى معالجة البدن إلا بذلك.

وكما أن أدوية البدن تؤثر في كسب الصحة بخاصية فيها، لا يدركها العقلاء ببضاعة العقل، بل يجب فيها تقليد الأطباء الذين أخذوها من الأنبياء، الذين اطلعوا بخاصية النبوة على خواص الأشياء، فكذلك بان لي، على الضرورة بأن أدوية العبادات بحدودها ومقاديرها المحدودة المقدرة من جهة الأنبياء، لا يدرك وجه تأثيرها ببضاعة عقل العقلاء، بل يجب فيها تقليد الأنبياء الذين أدركوا تلك الخواص بنور النبوة، لا ببضاعة العقل.


... وكما أن الأدوية تركب من أخلاط مختلفة النوع والمقدار وبعضها ضعف البعض في الوزن والمقدار، فلا يخلو اختلاف مقاديرها عن سر هو من قبيل الخواص، فكذلك العبادات التي هي أدوية داء القلوب، مركبة من أفعال مختلفة النوع والمقدار، حتى أن السجود ضعف الركوع، وصلاة الصبح نصف صلاة العصر في المقدار، ولا يخلو عن سر إلهي فيها، يقتضيها بطريق الخاصية.

وكما أن في الأدوية أصولاً هي أركانها وزوائد هي متمماتها، لكل واحد منها خصوص تأثير في أعمال أصولها، كذلك النوافل والسنن متممات لتكميل آثار أركان العبادات.

وعلى الجملة: فالأنبياء عليهم السلام أطباء أمراض القلوب، وإنما فائدة العقل وتصرفه، إن عرفنا ذلك، وشهد للنبوة بالتصديق ولنفسه بالعمى عن درك ما يدرك بعين النبوة، أخذ بأيدينا وسلمنا إليها تسليم العميان إلى العميان إلى العقائدين، وتسليم المرضى المتحيرين إلى الأطباء المشفقين.

فإلى ههنا مجرى العقل ومخطاه وهو معزول عما بعد ذلك، إلا عن تفهم ما يلقيه الطبيب إليه.

فهذه أمور عرفناها بالضرورة الجارية مجرى المشاهدة، في مدة الخلوة والعزلة، ثم رأينا فتور الاعتقادات في أصل النبوة، ثم في حقيقة النبوة، ثم في العمل بما شرحته النبوة، وتحققنا شيوع ذلك بين الخلق، فنظرت إلى أسباب فتور الخلق، وضعف إيمانهم، فإذا هي أربعة: 1 - سبب من الخائضين في علم الفلسفة.2 - وسبب من الخائضين في طريق التصوف.3 - وسبب من المنتسبين إلى دعوى التعليم.4 - وسبب من معاملة الموسومين بالعلم فيما بين الناس.

فإني تتبعت مدة آحاد الخلق، أسألُ من يقصر منهم في متابعة الشرع وأسأله عن شبهته وأبحث عن عقيدته وسره وقلت له: مالك تقصر فيها فإن كنت تؤمن بالآخرة ولست تستعد لها وتبيعها بالدنيا، فهذه حماقة، فإنك لا تبيع الاثنين بواحد، فكيف تبيع ما لا نهاية له بأيام معدودة؟

وإن كنت لا تؤمن، فأنت كافر، فدبر نفسك في طلب الإيمان، وانظر سبب كفرك الخفي الذي هو مذهبك باطناً، وهو سبب جرأتك ظاهراً.
وإن كنت لا تصرح به تجملاً بالإيمان وتشرفاً بذكر الشرع.فقائل يقول: إن هذا أمر لو وجبت المحافظة عليه، لكان العلماء أجدر بذلك، وفلان من المشاهير بين الفضلاء لا يصلي، وفلان يشرب الخمر، وفلان يأكل أموال الأوقاف وأموال اليتامى. وفلان يأكل إدرار السلطان ولا يحترز عن الحرام، وفلان يأخذ الرشوة على القضاء والشهادة وهلم جراً إلى أمثاله.

... وقائل ثان: يدعي علم التصوف، ويزعم أنه قد بلغ مبلغاً ترقى عن الحاجة إلى العبادة!... وقائل ثالث يتعلل بشبهة أخرى من شبهات أهل الإباحة!

وهؤلاء هم الذين ضلوا عن التصوف.وقائل رابع لقي أهل التعليم فيقول: الحق مشكل، والطريق متعسرة والاختلاف فيه كثير، وليس بعض المذاهب أولى من بعض، وأدلة العقول متعارضة، فلا ثقة برأي أهل الرأي.

والداعي إلى التعليم متحكم لا حجة له، فكيف أدع اليقين بالشك؟
وقائل خامس يقول: لست أفعل هذا تقليداً، ولكنني قرأت علم الفلسفة، وأدركت حقيقة النبوة، وإن حاصلها يرجع إلى الحكمة والمصلحة، وأن المقصود من تعبداتها ضبط عوام الخلق وتقيدهم عن التقاتل والتنازع والاسترسال في الشهوات، فما أنا من العوام الجهال حتى أدخل في حجر التكليف، وإنما أنا من الحكماء أتبع الحكمة وأنا بصير، مستغن فيها عن التقليد!.
هذا منتهى إيمان من قرأ مذهب فلسفة الإلهيين منهم، وتعلم ذلك من كتب ابن سينا وأبي نصر الفارابي. وهؤلاء هم المتجملون بالإسلام.
وربما ترى الواحد منهم يقرأ القرآن ويحضر الجماعات والصلوات، ويعظم الشريعة بلسانه، ولكنه مع ذلك لا يترك شرب الخمر، وأنواعاً من الفسق والفجور، وإذا قيل له: إن كانت غير صحيحة فلم تصلي؟ فربما يقول: لرياضة الجسد، ولعادة أهل البلد، وحفظ المال والولد. وربما قال: الشريعة صحيحة، والنبوة حق فيقال: فلم تشرب الخمر؟ فيقول: إنما نهي عن الخمر لأنها تورث العداوة والبغضاء، وأنا بحكمتي محترز عن ذلك، وإني أقصد به تشحيذ خاطري.
حتى أن ابن سينا ذكر في وصية له كتب فيها: إنه عاهد الله تعالى على كذا وكذا، وأن يعظم الأوضاع الشرعية، ولا يقصر في العبادات الدينية، ولا يشرب تلهياً بل تداوياً وتشافياً فكان منتهى حالته في صفاء الإيمان، والتزام العبادات، أن استثنى شرب الخمرة لغرض التشافي، فهذا إيمان من يدعي الإيمان منهم، وقد انخدع بهم جماعة، وزادهم انخداعاً ضعف اعتراض المعترضين عليهم، إذ اعترضوا بمجاهدة علم الهندسة والمنطق، وغير ذلك مما هو ضروري لهم، على ما بينا علته من قبل.

فلما رأيت أصناف الخلق قد ضعف إيمانهم إلى هذا الحد بهذه الأسباب، ورأيت نفسي ملبة بكشف هذه الشبهة، حتى كان إفضاح هؤلاء أيسر عندي من شربة ماء، ولكثرة خوضي في علومهم وطرقهم، وأعني طرق الصوفية والفلاسفة والتعليمية والمتوسمين من العلماء. وانقدح في نفسي أن ذلك متعين في هذا الوقت محتوم. فماذا تغنيك الخلوة والعزلة، وقد عم الداء، ومرض الأطباء، وأشرف الخلق على الهلاك!

ثم قلت في نفسي: متى تشتغل أنت بكشف هذه الغمة ومصادمة هذه الظلمة، والزمان زمان الفترة، والدور دور الباطل، ولو اشتغلت بدعوة الخلق، عن طرقهم إلى الحق، لعاداك أهل الزمان بأجمعهم، وأنَّى تقاومهم فكيف تعايشهم، ولا يتم ذلك إلا بزمان مساعد، وسلطان متدين قاهر.
فترخصت بيني وبين الله تعالى بالاستمرار على العزلة تعللاً بالعجز عن إظهار الحق بالحجة. فقدر الله تعالى أن حرك داعية سلطان الوقت من نفسه، لا بتحريك من خارج. فأمر إلزام بالنهوض إلى نيسابور، لتدارك هذه الفترة، وبلغ الإلزام حداً كان ينتهي لو أصررت على الخلاف إلى حد الوحشة، فخطر لي أن سبب الرخصة قد ضعف، فلا ينبغي أن يكون باعثك على ملازمة العزلة الكسل والاستراحة، وطلب عز النفس وصونها عن أذى الخلق، ولم ترخص لنفسك عسر معاناة الخلق والله سبحانه وتعالى يقول:بسم الله الرحمن الرحيم " ألم. أحسب الناسُ أن يتركوا أن يقولوا آمناً وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذينَ من قبلهم " .
ويقول عز وجل لرسوله وهو أعز خلقه " ولقد كذبت رسلٌ من قبلكَ فصبروا على ما كذبوا ولقد جاءك من نبأ المرسلين " ويقول عز وجل بسم الله الرحمن الرحيم " يس والقرآن الحكيم.. إلى قوله إنما تنذرُ من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيبِ "

فشاورت في ذلك جماعة من أرباب القلوب والمشاهدات، فاتفقوا على الإشارة بترك العزلة، والخروج من الزاوية، وانضاف إلى ذلك منامات من الصالحين كثيرة متواترة، وتشهد بأن هذه الحركة مبدأ خير ورشد قدرها الله سبحانه على رأس هذه المائة فاستحكم الرجاء. وغلب حسن الظن بسبب هذه الشهادات وقد وعد الله سبحانه بإحياء دينه على رأس كل مئة، ويسر الله الحركة إلى نيسابور، للقيام بهذا المهم في ذي القعدة سن تسع وتسعين وأربع مئة، وكان الخروج من بغداد سنة ثمان وثمانين وأربع مئة، وبلغت العزلة إحدى عشر سنة وهذه حركة قدرها الله تعالى، وهي من عجائب تقديراته التي لم يكن لهذا انقداح في القلب في هذه العزلة، كما لم يكن الخروج من بغداد، والنزوع عن تلك الأحوال مما خطر إمكانه أصلاً بالبال، والله تعالى مقلب القلوب والأحوال و " قلب المؤمن بين إصبعين من أصابعِ الرحمن " وأنا أعلم أني، وإن رجعت إلى نشر العلم فما رجعت فإن الرجوع عود إلى ما كان وكنت في ذلك الزمان أنشر العلم الذي به يكتسب الجاه، وأدعو إليه بقولي وعملي، وكان ذلك قصدي ونيتي.

أما الآن فأدعو إلى العلم الذي به يترك الجاه،
ويعرف به سقوط رتبة الجاه.هذا هو الآن نيتي وقصدي وأمنيتي، يعلم الله ذلك مني وأنا أبغي أن أصلح نفسي وغيري، ولست أدري أأصل مرادي أم أخترم دون غرضي؟

ولكني أؤمن إيمان يقين ومشاهدة أنه لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وأني لم أتحرك، ولكنه حركني، وإني لم أعمل، لكنه استعملني، فأساله أن يصلحني أولاً، ثم يصلح بي، ويهدني ثم يهدي بي وأن يريني الحق حقاً ويرزقني اتباعه، ويريني الباطل باطلاً ويرزقني اجتنابه.
ونعود الآن إلى ما ذكرناه من أسباب ضعف الإيمان بذلك طريق إرشادهم وإنقاذهم من مهالكهم.
أما الذين ادعوا الحيرة من أهل التعليم فعلاجهم ما ذكرناه في كتاب القسطاس المستقيم ولا نطول بذكره في هذه الرسالة.
وأما ما توهمه أهل الإباحة، فقد حصرنا شبههم في سبعة أنواع وكشفناها في كيمياء السعادة.
وأما من فسد إيمانه بطريق الفلسفة، حتى أنكر أصل النبوة، فقد ذكرنا حقيقة النبوة ووجودها بالضرورة، بدليل وجود عمل خواص الأدوية والنجوم وغيرهما.

وإنما قدمنا هذه المقدمة لأجل ذلك وأننا أوردنا الدليل من خواص الطب والنجوم، لأنه من نفس علمهم. ونحن نبين لكل عالم بفن من العلوم كالنجوم والطب والطبيعة والسحر والطلسمات مثلاً من نفس علمه برهان النبوة.

وأما من أثبت النبوة بلسانه، وسوى أوضاع الشرع على الحكمة، فهو على التحقيق كافر بالنبوة، وإنما هو مؤمن بحكم له طالع مخصوص، ويقتضي طالعه أن يكون متبوعاً، وليس هذا من النبوة في شيء، بل الإيمان بالنبوة أن يقر بإثبات طور وراء العقل، تنفتح فيه عين يدرك بها مدركات خاصة، والعقل معزول عنها، كعزل السمع عن إدراك الألوان، والبصر عن إدراك الأصوات، وجميع الحواس عن إدراك المعقولات، فإن لم يجوّز هذا، فقد أقمنا البرهان على إمكانه، بل على وجوده. وإن جوز هذا، فقد أثبت أن هنا أموراً تسمى خواص، لا يدور تصرف العقل حواليها أصلاً، بل يكاد العقل يكذبها ويقضي باستحالتها.

فإن وزن دانق من الأفيون سم قاتل لأنه يجمد الدم في العروق لفرط برودته والذي يدعي علم الطبيعة، يزعم أنه ما يبرد من المركبات، إنما يبرد بعنصري الماء والتراب فهما العنصران الباردان. ومعلوم أن أرطالاً من الماء والتراب لا يبلغ تبريدها في الباطن إلى هذا الحد.

فلو أخبر طبيعي بهذا ولم يجربه، لقال: هذا محال، والدليل على استحالته أن فيه نارية وهوائية والهوائية والنارية لا تزيدها برودة، فنقدر الكل ماء وتراباً، فلا يوجب هذا الإفراط في التبريد، فإن انضم إليه حاران فبأن لا يوجب ذلك أولى ويقدر هذا برهاناً!

وأكثر براهين الفلاسفة في الطبيعيات والإلهيات، ومبني على هذا الجنس!
فإنهم تصوروا الأمور على قدر ما وجدوه وعقلوه، وربما لم يألفوه قدروا استحالته، ولو لم تكن الرؤيا الصادقة مألوفة، وادعى مدعٍ، أنه عند ركود الحواس، يعلم الغيب، لأنكره المتصفون بمثل هذه العقول.
ولو قيل لوا حد: هل يجوز أن يكون في الدنيا شيء، هو بمقدار حبة يوضع في بلدة، فيأكل تلك البلدة بجملتها ثم يأكل نفسه فلا يبقى شيئاً من البلدة وما فيها، ولا يبقى هو نفسه؟ لقال: هذا محال وهو من الخرافات!

وهذه حالة النار، ينكرها من لم ير النار إذا سمعها.
وأكثر إنكار عجائب الآخرة هو من هذا القبيل. فنقول للطبيعي: قد اضطررت أن تقول في الأفيون خاصية في التبريد، ليست على قياس المعقول بالطبيعة. فلم لا يجوز أن يكون في الأوضاع الشرعية من الخواص، في مداواة القلوب وتصفيتها، ما لا يدرك بالحكمة العقلية، بل لا يبصر ذلك إلا بعين النبوة؟
قد اعترفوا بخواص هي أعجب من هذا فيما أوردوه في كتبهم، وهي من الخواص العجيبة المجربة في معالجة الحامل التي عسر عليها الطلق بهذا الشكل: يكتب على خرقتين لم يصبهما ماء، وتنظر إليهما الحامل بعينها.
وتضعها تحت قدميها، فيسرع الولد في الحال إلى الخروج. وقد أقروا بإمكان ذلك وأوردوه في عجائب الخواص وهو شكل فيه تسعة بيوت، ويرقم فيها رقوماً مخصوصة، يكون مجموع ما في جدول واحد خمسة عشر، قرأته في طول الشكل أو في عرضه أو على التأريب.ب ط د 2 9 4 ز ه ج 7 5 3 و ا ح 6 1 8 فيا ليت شعري!
من يصدق بذلك ثم لا يتسع عقله للتصديق بأن تقدير صلاة الصبح بركعتين، والظهر بأربع، والمغرب بثلاث، وهو لخواص غير معلومة بنظر الحكمة وسببها اختلاف هذه الأوقات.
وإنما تدرك هذه الخواص بنور النبوة. والعجب أنا لو غيرنا العبارة إلى عبارة المنجمين لعقلوا اختلاف هذه الأوقات، فنقول: أليس يختلف الحكم في الطالع، بأن تكون الشمس في وسط السماء، أو في الطالع أو في الغارب، حتى يبنوا على هذا في تسييراتهم اختلاف العلاج وتفاوت الأعمار والآجال، ولا فرق بين الزوال وبين كون الشمس في وسط السماء، ولا بين المغرب وبين كون الشمس في الغارب، فهل لتصديق ذلك سبب، وإلا أن ذلك يسمعه بعبارة منجم ، لعله جرب كذبه مئة مرة.

ولا يزال يعاود تصديقه، حتى لو قال المنجم له: إذا كانت الشمس في وسط السماء ونظر إليها الكوكب الفلاني، والطالع هو البرج الفلاني، فلبست ثوباً جديداً في ذلك الوقت قتلت في ذلك الثوب!
فإنه لا يلبس الثوب في ذلك الوقت، وربما يقاسي فيه البرد الشديد، وربما سمعه من منجم وقد جرب كذبه مرات!.فليت شعري!
من يتسع عقله لقبول هذه البدائع ويضطر إلى الاعتراف بأنها خواص - معرفتها لبعض الأنبياء - فيكف ينكر مثل ذلك، فيما يسمعه من قول نبي صادق مؤيد بالمعجزات، لم يعرف قط بالكذب! ولم لا يتسع لإمكانه؟ فإن أنكر فلسفي إمكان هذه الخواص في أعداد الركعات، ورمي الجمار وعدد أركان الحج، وسائر تعبدات الشرع، لم يجد بينها وبين خواص الأدوية والنجوم فرقاً أصلاً.

فإن قال: وقد جربت شيئاً من النجوم وشيئاً من الطب، فوجدت بعضه صادقاً، فانقدح في نفسي تصديقه وسقط من قلبي استبعاده ونفرته، وهذا لم أجربه به، فبم أعلم وجوده وتحقيقه؟ وإن أقررت بإمكانه؟ فأقول: إنك لا تقتصر على تصديق ما جربته بل سمعت أخبار المجربين وقلدتهم، فاسمع أقوال الأنبياء فقد جربوا وشاهدوا الحق في جميع ما ورد به الشرع، واسلك سبيلهم تدرك بالمشاهدة بعض ذلك.

على أني أقول: وإن لم تجربه، فيقضي عقلك بوجوب التصديق والإتباع قطعاً.
فإنا لو فرضنا رجلاً بلغ وعقل ولم يجرب المرض، فمرض، وله والد مشفق حاذق بالطب، يسمع دعواه في معرفة الطب منذ عقل، فعجن له والده دواء، فقال: هذا يصلح لمرضك ويشفيك من سقمك. فماذا يقتضيه عقله، وإن كان الدواء مراً كريه المذاق، أن يتناول أن يكذب؟ ويقول: أنا لا أعقل مناسبة هذا الدواء لتحصيل الشفاء، ولم أجربه!
فلا شك أنك تستحمقه إن فعل ذلك! وكذلك يستحمقك أهل البصائر في توقفك!
فإن قلت: فيم أعرف شفقة النبي صلى الله عليه وسلم ومعرفته بهذا الطب؟
فأقول: وبم عرفت شفقة أبيك وليس ذلك أمراً محسوساً؟ بل عرفتها بقرائن أحواله وشواهد أعماله في مصادره وموارده علماً ضرورياً لا تتمارى فيه.
ومن نظر في أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم، وما ورد من الأخبار في اهتمامه بإرشاد الخلق، وتلطفه في جر الناس بأنواع الرفق واللين واللطف، إلى تحسين الأخلاق وإصلاح ذات البين، وبالجملة إلى ما يصلح به دينهم ودنياهم حصل له علم ضروري، بأن شفقته صلى الله عليه وسلم على أمته أعظم من شفقة الوالد على ولده.

... وإذا نظر إلى عجائب ما ظهر عليه من الأفعال،
وإلى عجائب الغيب الذي أخبر عنه القرآن على لسانه، وفي الأخبار وإلى ما ذكره في آخر الزمان، فظهر ذلك كما ذكره، علم علماً ضرورياً أنه بلغ الطور الذي وراء العقل، وانفتحت له العين التي ينكشف منها الغيب الذي لا يدركه إلا الخواص، والأمور التي لا يدركها العقل.

فهذا هو منهاج تحصيل العلم الضروري بتصديق النبي صلى الله عليه وسلم.
فجرب وتأمل القرآن وطالع الأخبار، تعرف ذلك بالعيان. وهذا القدر يكفي في تنبيه المتفلسفة، ذكرناه لشدة الحاجة إليه في هذا الزمان.

وأما السبب الرابع - وهو ضعف الإيمان بسبب سيرة العلماء فيداوي
هذا المرض بثلاثة أمور: أحدهما: أن نقول: إن العالم الذي تزعم أنه يأكل الحرام ومعرفته بتحريم ذلك الحرام كمعرفتك بتحريم الخمر، ولحم الخنزير والربا، بل بتحريم الغيبة والكذب والنميمة، وأنت تعرف ذلك وتفعله، لا لعدم إيمانك بأنه معصية، بل لشهوتك الغالبة عليك، فشهوته كشهوتك، وقد غلبته كما غلبتك، فعلمه بمسائل وراء هذا يتميز به عنك، لا يناسب زيادة زجر عن هذا المحظور المعين.
وكم من مؤمن بالطب لا يصبر عن الفاكهة وعن الماء البارد، وإن زجره الطبيب عنه! ولا يدل ذلك على أنه ضار أو على الإيمان بالطب غير صحيح، فهذا محمل هفوات العلماء.

والثاني أن يقال للعامي: ينبغي أن تعتقد أن العالم اتخذ علمه ذخراً لنفسه في الآخرة، ويظن أن علمه ينجيه، ويكون شفيعاً له حتى يتساهل معه في أعماله، لفضيلة علمه. وإن جاز أن يكون زيادة حجة عليه، فهو يجوز أن يكون زيادة درجة له وهو ممكن.
فهو وإن ترك العمل، يدلي بالعلم. وأما أنت أيها العامي! إذا نظرت إليه وتركت العمل وأنت عن العلم عاطل، فتهلك بسوء عملك ولا شفيع لك.

الثالث: هو الحقيقة، أن العالم الحقيقي لا يقارف معصية إلا على سبيل
الهفوة، ولا يكون مصراً على المعاصي أصلاً.
إذ العلم الحقيقي ما يعرف أن المعصية سهم مهلك، وأن الآخرة خير من الدنيا.
ومن عرف ذلك، لا يبيع الخير بما هو أدنى منه.
وهذا العلم لا يحصل بأنواع العلوم التي يشتغل بها أكثر الناس.
فلذلك لا يزيدهم ذلك العلم إلا جرأة على معصية الله تعالى. وأما العلم الحقيقي، فيزيد صاحبه خشية وخوفاً ورجاء، وذلك يحول بينه وبني المعاصي إلا الهفوات التي لا ينفك عنها البشر في الفترات وذلك لا يدل على ضعف الإيمان.
فالمؤمن مفتن تواب وهو بعيد عن الإصرار والإكباب.
هذا ما أردت أن أذكره في ذم الفلسفة والتعليم وآفاتهما وآفات من أنكر عليهما، لا بطريقه.
نسأل الله العظيم أن يجعلنا ممن آثره واجتباه، وأرشده إلى الحق وهداه، وألهمه ذكره حتى لا ينساه، وعصمه عن شر نفسه حتى لم يؤثر عليه سواه، واستخلصه لنفسه حتى لا يعبد إلا إياه.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الشرفة..

الشرفة..
جنوب افريقية ثمار الطماطم داخل احد البيوت المحمية فى مدينة ديربان شمال مطار الملك شاكا الدولى بجنوب افريقيا

كيف عبَّر القرآن عن مراحل نشأة الكلام الإنساني

الدكتور شحرور ...................


لايمكن أن يكون هناك تفكير إنساني بدون نمط لغوي لذا فقد ارتبطت نشأة الفكر
بنشأة الكلام الإنساني ارتباطاً لاانفصام فيه وقد عبَّر القرآن عن مراحل نشأة الفكر
ونفخة الروح بنشأة الكلام الإنساني كالتالي:
المرحلة الأولى:
مرحلة تقليد أصوات الحيوانات والطبيعة (الرسالة المشخصة – العلاقة الطبيعية بين
الصوت والمدلول) وهي التي عبَّر عنها بقوله: (وعلم آدم الأسماء
كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبؤوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين)
البقرة 31.
لقد شرحنا في مقال سابق معاني العلق والقلم (التمييز) والآن لنشرح مفهوم الأسماء
(الاسم).
الاسم: لقد جاء الاسم من أحد فعلين في اللسان العربي:
1 – من فعل “وسم” وهذا الفعل أصل واحد يدل على أثر ومعلم، ووسمت الشيء وسماً:
أثرت فيه بسمة، والوسمي أول المطر لأنه يسم الأرض بالنبات. وسمي موسم الحج موسماً
لأنه معلم يجتمع إليه الناس. وقوله تعالى (إن في ذلك لآيات
للمتوسمين) (الحجر 75). أي الناظرين في السمات الدالة.2 – من فعل “سمو”:
السين والميم والواو أصل يدل على العلو. يقال سموت إذا علوت، وسما بعده علا، وسما
لي شخص: ارتفع حتى استثبتَّه، وسماوة كل شيء شخصه، والجمع سماء وسماو. والعرب تسمي
السحاب سماء، والمطر سماء. والسماءة: الشخص. والسماء سقف البيت. وكل عالٍ مطلٍ
سماء. حتى يقال لظهر الفرس سماء.
ويقال إن أصل “اسم” سمو وهو من العلو لأنه تنويه ودلالة على المعنى.
لنناقش الآن: هل الاسم مشتق من “وسم” أم من “سمو”. فإذا كان الاسم من “سمو” فهو
العلو والإرتفاع. أي أن الاسم يعلو صاحبه ولو كان هذا الكلام صحيحاً لعرفنا اسم كل
شيء دون أن يخبرنا عنه أحد لأنه يعلوه وهذا يخالف الواقع الموضوعي. أما إذا كان
الاسم من “وسم” فهو سمة لصاحبه، أي شيء يميزه عن غيره. ونحن نسمي الأشياء لنميزها
عن بعضها أي لنعطيها سمات مميزة. ولكل شيء سمة خاصة به، فنقول “تفاح جميل” فالتفاح
اسم لثمرة أطلقنا عليها هذا الإسم لنميزها عن بقية الثمار، وجميل أيضاً اسم وهو سمة
“صفة” مميزة للموصوف وهو التفاح.وقد قال “الفراء” واضع أسس المدرسة الكوفية إن
اصل الاسم من وسم وليس من سمو. حتى أن ابن فارس وضعها بصيغة غير مؤكدة في “سمو”
“يقال بأن أصل اسم من سمو”.
فإذا أخذنا بالرأي القائل إن أصل الاسم من “وسم” فيتضح لنا معانٍ واقعية لآيات
في الكتاب ذكر فيها لفظة “الاسم”.لنأخذ الآيات التي فيها لفظ “اسم”:
1 – (بسم الله الرحمن الرحيم): هنا ذكر الصفة المميزة
“لله”، والله هو لفظ الجلالة ولا نقول اسم. وإن من سماته أنه الرحمن الرحيم وكذلك
قوله: (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها) (الأعراف 180).
فالسمات المميزة لله هي الأسماء الحسنى وقد جاء ذكرها في الكتاب.2 – (إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم) (النجم 23). هنا يذكر
في هذه الآية أنه في زمن هود كان تعدد الآلهة مع التخصص فهناك إلاه الحرب وإلاه
الغضب وإلاه الخصوبة وإلاه الحب وهكذا دواليك. لذا قال: (إن هي
إلا أسماء). لذا أجابه قومه: (إن نقول إلا اعتراك بعض
آلهتنا بسوء) (هود 54). هنا ذكر “بعض” كجزء من كل أي أن آلهة السوء اعترت
هوداً وذلك لوجود آلهة أخرى لها سمات أخرى.3 – (إذ قالت
الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمةٍ منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم) (آل
عمران 45). إن المسيح هو سمة عيسى بن مريم وقد ذكر هذه السمة بقوله: (وجيهاً في الدنيا والآخرة ومن المقربين) (آل عمران 45). ولا نرى
في الكتاب أبداً صيغة “اسمه” مع عيسى بن مريم إلا وقرنها بالمسيح “اسمه المسيح”.
لأن المسيح هي سمة خاصة لعيسى بن مريم وقد ذكر هذه السمة في الآيات (46، 48، 49) في
سورة آل عمران. 4 – (يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم
نجعل له من قبل سمياً) (مريم 7). هنا أعطى الله اسماً لابن زكريا، وسمة هذا
الاسم أنه أكثر اسم حي من أسماء أهل الأرض لذا سماه “يحيى” وهو أول تسمية.5 –
(ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد) (الصف 6). إن أحمد
هو السمة المميزة لمحمد بن عبد الله وهذه الصفة هي على وزن أفعل وهي للتفضيل.
لذا فقد أعطى الله لمحمد (ص) سمة الحمد المميزة بالتفضيل له على كل الرسل
والأنبياء، فسماه أحمد. وقد فهم العرب الأوائل هذه الصفة على أنها خاصة بمحمد (ص)
فامتنعوا عن تسمية أبنائهم باسم أحمد. ولا نرى في صدر الإسلام أو في العهد الأموي
من سمى ابنه “أحمد” وإن أول اسم صادفناه تاريخياً باسم أحمد هو الإمام أحمد بن حنبل
في العهد العباسي. علماً بأن كثيراً من الصحابة سموا أبناءهم باسم محمد. أي أنهم
فهموا أن اسم أحمد خاص بمحمد (ص). كما أن اسم المسيح خاص بعيسى بن مريم (ع) .
وهنا يجب أن لا نفهم أن التعليم وحي “إلهام” لأن الوحي يحتاج إلى لغة مجردة،
ويجب أن لا نفهم أن الله جلس مع آدم وعلمه كما نعلم الأطفال، بل يجب أن نفهمها
فهماً مادياً رحمانياً، أي أنه أصبح يميز بواسطة الحواس “السمع والبصر” ويقلد
بواسطة الصوت “السمع والجهاز الصوتي”. أما قوله “آدم” فقد جاء هنا اسم جنس للدلالة
على أن البشر أصبح متكيفاً متلائماً بوجود جهاز صوتي وبانتصابه على قدميه ومتلائماً
لعملية الأنسنة.
أما قوله “الأسماء” فهي من فعل وسم وهي السمات المميزة للأشياء المشخصة، والسمات
الأساسية المميزة للأشياء المشخصة هي الصوت والصورة. وقد بدأ بملاحظة الذي يصدر
صوتاً ويتحرك “معاً” “الحيوانات” قبل ملاحظة الذي يصدر صوتاً بدون ملاحظة الحركة
“الشجرة” لذا قال (كلها) أي السمات الصوتية المميزة لكل
الأشياء المشخصة الموجودة حوله. أما قوله (ثم عرضهم).
فللدلالة على أن السمات هي للمشخصات حصراً لأن عرضهم تعود على المسميات لا على
الأسماء وهل يعرض إلا المشخص. وهنا يجب أن نصحح أمرين اثنين:
1- أن “الأسماء” هي السمات وليس كما يقول البعض بأنه علمه أسماء الأشياء كلها
بمعنى اللغات.ولو عنى هذا لقال “علم آدم الألسن كلها” حيث إنه عند استعمال
الألسن في شكلها البسيط “استعمال التجريد من أبسط صورة” بدأ الوحي للإنسان من نوح
وعندها قال: (وما أرسلنا من رسولٍ إلا بلسان قومه)
(ابراهيم 4).2- يجب علينا أن نفهم قوله: (ثم عرضهم على
الملائكة). بأن آدم “الجنس″ كان في الأرض، ولم يعلم ماذا قالت الملائكة، ولا
علاقة لآدم بهذا الحديث وفي هذا المجال قال: (قل هو نبأ
عظيم) (ص67). (أنتم عنه معرضون) (ص68). (ما كان لي من علمٍ بالملأ إذ يختصمون). (ص69). وقد قلنا إن
العلم لا يكون إلا بالقلم للإنسان وغير الإنسان لذا فإن ما علمه آدم لم يدخل في علم
الملائكة لأن الملائكة لها قلمها الخاص “تمييزاتها الخاصة” لذا أجابت الملائكة
بقوله: (قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم
الحكيم). (البقرة 32).هذه المرحلة هي مرحلة التقليد أو المحاكاة “أي
مرحلة آدم الأول وفيها ظهر وعي الشخص الثالث هذه المرحلة هي مرحلة ما قبل الكلام
الإنساني وهي التمهيد الضروري للمرحلة التي تليها وهي مرحلة بداية الكلام الإنساني
القائم على التقطيع بفعل الأمر “أي مرحلة آدم الثاني”.
المرحلة الثانية “مرحلة آدم الثاني”:
مرحلة فعل الأمر وقد جاءت في قوله: (قال يا آدم أنبئهم
بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم
ما تبدون وما كنتم تكتمون) (البقرة 33). فقوله: (يا آدم
أنبئهم). والنبأ جاء من النبأة وهي الصوت ومنه سمى النبأ لأنه ينتقل من شخص
لآخر كما أن الصوت ينتقل من مكان إلى آخر. وقوله: (بأسمائهم).
أي أن واسطة النبأ هو التمييز الصوتي لذا استعمل حرف الجر “الباء” والباء فيها
الواسطة أي أن النبأ “الصوت” هو واسطة الدلالة على الاسم فربط بين الصوت والاسم،
وبالتالي الشيء والسمة الصوتية للشيء. وهذه المرحلة ظهر فيها التقطيع الصوتي بواسطة
فعل الأمر في هاتين المرحلتين نرى مرحلة الإدراك الفؤادي وهي مرحلة الشيء المشخص
وصورة الشيء عن طريق حاستي السمع والبصر واسم الشيء.
نلاحظ في هذه المرحلة أن الله تعالى قال: (وإذا قلنا للملائكة
اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين) (البقرة
34).
لنقارن تسلسل الآيات (30، 31، 32، 33، 34). في سورة البقرة مع تسلسل مراحل الخلق
في قوله تعالى: (إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشراً من
طين).(ص 71). (فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له
ساجدين). (ص72). (فسجد الملائكة كلهم أجمعون)
(ص73). (إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين). (ص 74).
نلاحظ في الآية 30 في سورة البقرة قوله: (إني جاعل في الأرض
خليفةً) للدلالة على استكمال التسوية وفي الآية 34 في سورة البقرة طلب
السجود ومنه يتبين أن الآيات (31، 32، 33) كانت للتعبير عن بداية نفخة الروح “بداية
الأنسنة”.
وفي هذه المرحلة بدأ البشر يصبح إنساناً بظهور الشيطان الفعلاني ولكنه كان غير
قادر على ظاهرة العمل الواعي، لذا قال له: (اسكن أنت وزوجك
الجنة) وقد شرحت في مقالة سابقة جنة آدم وهي عبارة عن غابات استوائية فيها
أشجار مثمرة “متوفر فيها الطعام والماء والظل”، كانت هذه الفترة لتعميم فعل الأمر
والتقطيع الصوتي على الأصوات المخزونة لديه من المرحلة الأولى. لذا قال (ولا تقربا). (صيغة الطلب). وكان هذا الطلب أول ظاهرة من ظواهر
التشريع البدائي. هنا علينا أن نفهم الشجرة على أنها ذات معنى رمزي فقط حيث جاءت
صيغة التشريع البدائي في صيغة تتعلق بمظاهر الطبيعة الشائعة والبارزة لدى
الإنسان.
وقد مثل الشيطان الفعلاني الجانب الجدلي في العملية الفكرية حيث دخل الوهم إلى
الإنسان بأن هذه الشجرة فيها الخلود “الباطل” حيث كان لدى الإنسان غريزة البقاء
فلعب الشيطان بهذه الغريزة حتى أدخل الوهم إلى الفكر الإنساني. في هذه الحالة التي
أخذت فترة من الزمن أصبح الإنسان جاهزاً للعمل الواعي فانتقل نقلة نوعية بقوله:
(فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم
لبعضٍ عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين) (البقرة 36).
هذه النقلة هي نقلة (فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى) (طه
117) حيث مثلت هذه النقلة بقوله (اهبطوا بعضكم لبعض عدو).
حيث كانت الحياة الاجتماعية والتشريعية لم تبدأ بعد وبقوله (فتشقى). بدأت ظاهرة العمل والتواصل بين اثنين مع البقاء على
استعمال الأصوات المقطعة المكتسبة من تقليد أصوات الحيوان وظواهر الطبيعة، لذا
اعتبرها القرآن فترة انتقالية مؤقتة بقوله (ولكم في الأرض مستقر
ومتاع إلى حين).
مرحلة آدم الثالث:
هذه المرحلة تعتبر القفزة الهائلة في نفخة الروح كقفزة قانون ربط النقيضين بعدم
التناقض، وهي قفزة التجريد حيث إن الإدراك الفؤادي يقوم بربط الأسماء بالأشياء كلٍ
على حدة ربطاً قائماً على الحواس وعلى رأسها حاستي السمع والبصر.
انتقل الإنسان بعدها إلى مرحلة أخرى من مراحل تطور اللغة وبالتالي الفكر وهي
مرحلة التجريد أي الانتقال من العلاقة الطبيعية بين الصوت والمدلول القائمة على
الحواس “السمع والبصر” إلى علاقة اصطلاحية قائمة على الاسم والشيء فقط وهذا ما يسمى
بالتجريد. وبما أن الطبيعة المعروفة كلها قائمة على المشخصات فكان الإنسان بحاجة
إلى قفزة نوعية للانتقال من المشخص إلى المجرد. وبما أننا ننطلق من النظرة
الرحمانية (المادية) في المعرفة الإنسانية أي أن المعلومات تأتي من الخارج القائم
على قوله (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم
السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون) (النحل 78).
فالسؤال الذي يطرح نفسه كيف بدأ التجريد عند الإنسان لأول مرة علماً أن الطبيعة
خالية من التجريد أي أنه لم يأت تقليداً لظاهرة ما في الطبيعة؟
هنا جاءت مرحلة آدم الثالث لتغطي هذه القفزة. في قوله تعالى: (فتلقى آدم من ربه كلماتٍ فتاب عليهِ إنه هو التواب الرحيم).
(البقرة 37). لقد جاءت قفزة التجريد من الله مباشرة أي أنه سمع أصواتاً مجردة لها
معنى التوبة، والتوبة من المفاهيم المجردة وليست من المشخصات أي أنه سمع فعل أمر من
صوتين أو ثلاثة أصوات مقطعة كقوله تب فتاب عليه.
وهنا بدأ التجريد. وقد أعطى التنزيل الحكيم مثالاً رائعاً على التجريد والعلاقة
الاصطلاحية بين الصوت والمدلول في الآية (وإذ قلنا ادخلوا هذه
القرية فكلوا منها حيث شئتم رغداً وادخلوا الباب سجداً وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم
وسنزيد المحسنين) (البقرة 58). هنا لاحظ العلاقة الاصطلاحية بين لفظة “حطة”
وبين نغفر لكم خطاياكم أي:
حطة “علاقة اصطلاحية بصيغة الطلب” تعني المغفرة.قارن بهذه العلاقة
الاصطلاحية بقوله تعالى:(فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب
عليه) والكلمات كما قلنا من الناحية اللسانية تعني مجموعة الأصوات المقطعة
أي تلقى مجموعة من الأصوات المقطعة بصيغة الطلب تعني التوبة بعلاقة اصطلاحية غير
طبيعية. وعليه فإنه ليس بالغريب أبداً أن نرى أن أول كلمة بدأ بها الوحي للنبي (ص)
هي صيغة الطلب بفعل الأمر “اقرأ”. بعد هذه القفزة الربانية الهائلة أي قفزة التجريد
بدأ الإنسان في الوجود وبدأت القوانين التالية في العمل:
فالقانون الأول يعمل على ربط النقيضين بعدم التناقض. أما القانون الثاني فبدأ
منذ التجريد يعمل بربط الأشياء بعضها مع بعض عن طريق أسمائها المجردة كقولنا “القط
جميل”. وهذا هو ربط أسماء الأشياء والمفاهيم بعضها ببعض “تأثير وتأثر متبادل قانون
الزوجية” برباط يسمى الرباط المنطقي “المسند والمسند إليه” أي ببداية الفكر المجرد
بدأت العلاقات المنطقية بين أسماء الأشياء والمفاهيم وباكتمال التجريد الذي بدأ
بقوله: (فتلقى آدم من ربه كلماتٍ).
والذي أخذ وقتاً طويلاً اكتمل الرباط المنطقي للغة بظاهرتي الصرف والنحو، فظاهرة
الصرف تعني إعطاء أسماء جديدة للأشياء أي عندما يكتشف الإنسان جديداً غير معروف
سابقاً فإن أول شيء يفعله دون شك هو أن يضع له اسماً “مصطلح” وفي الوقت الحاضر
تستعمل قواعد الصرف “الاشتقاق” في اللسان الواحد أو يستعار من لسان آخر. وفي ظاهرة
النحو تظهر بشكل جلي العلاقة المنطقية بين البنية اللفظية النحوية وبين
مدلولاتها.
وكذلك ظهر قانون الأضداد في الظواهر “صفات الأشياء والمفاهيم”. وقد ظهر مفهوم
العقل وهو الربط المجرد بين المقدمات والنتائج بقانون عدم التناقض الذي ربط بين
الرحمن والشيطان، وبه يستنتج الإنسان المجهول من معلوم وهو القانون الأساسي للتفكير
المنطقي المجرد عند الإنسان فإذا كانت النتائج وهمية فهي شيطانية، وإذا كانت حقيقية
فهي رحمانية وفي كلتا الحالتين يعمل قانون عدم التناقض.
والآن علينا أن نؤكد الحقائق التالية في أذهاننا:1 – إن القانون المنطقي
موجود عند كل الناس العاقلين على حد سواء، لأنهم يمتلكون لساناً، ولكن مستويات
استعمال هذا القانون تختلف من إنسان لآخر، وهذا القانون يعمل على حد سواء.. سواء
كانت المقدمات حقيقية “رحمانية” أم وهمية “شيطانية” لأنه لا يمكن أن نقول: إن
العلماء عاقلون والدجالين مجانين حيث كلاهما عاقل. ولكن العالم يستعمل المقدمات
الرحمانية، والدجال يستعمل المقدمات الشيطانية وكلاهما يستعمل قانون عدم
التناقض.2 – إن القانون المنطقي الذي هو ربط مجرد بين أسماء الأشياء بعضها ببعض
لاستنتاج المجهول من معلوم من مبدأ عدم التناقض. هذا القانون هو الذي نسميه المنطق
الصوري.3 – إن قانون الربط بين النقيضين بقانون عدم التناقض والربط المنطقي بين
المقدمات والنتائج القائم على عدم التناقض هو القانون الذي لا يخضع للتطور أبداً
وهنا تكمن نفخة الروح. حيث أن التطور جاء منهما وهذا القانون لم يتولد من علاقة
إنتاجية أو من طبقة أو من علاقة اقتصادية، بل به تميز الإنسان كجنس وقفز من المملكة
الحيوانية وهو الحلقة المفقودة عند داروين.
مرحلة الهبوط الثاني:
بعد أن تلقى آدم الثالث القفزة الأساسية وهي بداية التجريد حصل الهبوط الثاني
وهو الانتقال إلى مرحلة اكتمال التجريد واكتمال العلاقة المنطقية. في هذه المرحلة
بدأ الإنسان باكتساب المعارف وبداية العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والتشريعية في
أشكالها البدائية. لذا قال (قلنا اهبطوا منها جميعاً).
وأتبعها بقوله: (فإما يأتينكم مني هدىً فمن تبع هداي فلا خوف
عليهم ولا هم يحزنون) (البقرة 38).
لاحظ الفرق بين التعقيب على الهبوط الأول بقوله: (ولكم في
الأرض مستقر ومتاع إلى حين) (البقرة 36). وبين التعقيب على الهبوط الثاني
(فإما يأتينكم مني هدىً). وقد جاءت هذه الصيغة للمستقبل،
وقد أرسل الله رسلاً للهدى بواسطة الوحي. وهل يمكن أن يكون هناك وحي من الله لإنسان
دون أن يملك الإنسان لغة مجردة “لسان” لكي يوحي له بها؟
الاصطفاء:
(إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على
العالمين) (آل عمران 33).
لقد حصل الاصطفاء في مرحلة آدم الثالث: أي أن الذي تلقى التجريد والعلاقة
الاصطلاحية شخص واحد وعن طريق السمع وقد علمها هذا الشخص للآخرين.
لذا جاءت صيغة الهبوط “الانتقال” في الجمع في قوله: (اهبطوا
منها جميعاً). أي هو ومن كان معه وعلمهم هو تعليماً. وهذا يؤكد قوله تعالى:
(قال اهبطا منها جميعاً بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدىً فمن
اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى) (طه 123).
هنا لاحظ التعليق على قوله “جميعاً” بعد “اهبطا منها” حصل القول لمثنى والتنفيذ
للجمع لأنه لو حصل الهبوط لاثنين فقط فإن كلمة جميعاً لا معنى لها لأنه لو كان
الخطاب موجهاً إلى جزء من كل لقال “أجمعون” كقوله: (فسجد الملائكة
كلهم أجمعون) (الحجر 30) أي أن السجود ليس من كل الملائكة وإنما حصل من
الذين وجه إليهم القول: ولو قال: “فسجد الملائكة جميعاً” لعنى بذلك جنس الملائكة
كلهم، وكقولك “فجاء الناس كلهم أجمعون” أي جاء الناس الذين وجهت إليهم الدعوة فقط.
ولو قلت “فجاء الناس كلهم جميعاً” لكان معنى ذلك مجيء الناس بدون استثناء. وهنا
قوله جميعاً هي للكل، لذا أتبعها بقوله: (فإما يأتينكم مني
هدىً).
وهذا ما نراه حتى يومنا هذا عند كل أهل الأرض أن العلاقة الاصطلاحية بين الصوت
والمدلول “الاسم والمسمى” لا تأتي إلا تعليماً أي أن الشخص الذي يعرف العلاقة
الاصطلاحية يعلمها للشخص الذي لا يعرفها. وهذا ما يحصل عند تعليم الأطفال الكلام من
قبل الوالدين والمجتمع، فالطفل يمكن أن يقلد صوت الهرة والكلب دون أن يعلمه أحد،
ولكن لا يمكن له أن يعلم وحده كلمة الهرة أو الكلب.
ولو ولد إنسان وعاش وحده في غابة فإنه يستطيع أن يمر بمراحل آدم الأول والثاني
ولكنه لا يبلغ مرحلة التجريد أي بإعطاء علاقة اصطلاحية بين الصوت والمدلول كما حصل
عند آدم الثالث إلا إذا علمه إياها أحد. وهنا يكمن الاصطفاء لآدم الثالث. والذي هو
أبو الإنسان وأبو الوجود التاريخي وليس أبا البشر. وعندما نقول عن أنفسنا إننا نحن
بنو آدم فهذا لا يعني أننا نحن أبناؤه بشكل فيزيولوجي مباشر ولكنه يعني أولاً: أننا
نحن من الجنس الآدمي المتكيف المتلائم. وثانياً أن آدم المصطفى أبونا، فنحن أبناؤه
من حيث الأنسنة، حيث نقول في اللسان العربي إن فلاناً ابن المدينة أي ولد في
المدينة وأخذ طباعها. ونقول إن فلانا ابن أبيه ونعني بذلك أن أباه علمه وأخذ طباعه
فكان نسخة عنه أما نوح وآل إبراهيم وآل عمران فهم من أبناء آدم المصطفى من صلبه أي
من أبنائه لقوله: (ذريةً بعضها من بعض). وهذا يؤكد أن هناك
بعض الناس من ذرية آدم وليس كلهم.
لذا فإن الإنسان الذي تعلم التجريد ومشى فيه استمر إلى يومنا هذا والذي لم يجرد
وبقي على العلاقة الطبيعية فقد انقرض، أما الإنسان الحديث فهو الذي اكتمل عنده حد
أدنى من العلاقات المجردة أي أصبح له لغة ولو في أدنى مستوى تجريدي.
مجلة روز اليوسف

يااااااااااااااااااااه

يااااااااااااااااااااه
هذا الذى تعبت منه الحياة .. هذا الذى يعارضها فتعرض عنه ساخرة ..ومن دون ان يدرى يهجرها لكنها تستدير وتفتح له احضانها .عجبى ...الزميل الجميل والصديق الحبيب عبدالكريم المالكى من العراق الحبيبة وعبدالكريم حشيش فى مشهد داخل جريدة الراية القطرية

من بعيد

من بعيد
صورة على ضفاف الماء

الــ رحومة

الــ رحومة
رحمة ولحظات تأمل جميلة

رمضان فى الدوحة

رمضان فى الدوحة
مشهد رمضاني بعد افطار رمضانى للراية فى احد المطاعم الشهيرة بالدوحة وفى الصورة الزملاء الاستاذة طه خليفة سكرتير تحرير الراية وخليفة السيد المشرف العام على المحليات واسامه سعد الدين سكرتير تحرير قسم المحليات وعبدالكريم حشيش محرر بالمحليات 2001

الخطيب فى صحيفة الاحرار

الخطيب فى صحيفة الاحرار
الزملاء من يمين الصورة طه خليفة وعبدالكريم حشيش والكابتن محمود الخطيب وفتحى الشوادفى وعصام كامل سنة 1994

حول التصوف

هناك مقولة جميلة للراحل الاستاذ كامل زهيرى الكاتب والصحافي الكبيرعليه رحمة الله كان عمنا كامل يقول :" فرق بين سلطان الكلمة وكلمة السلطان .. كلمة السلطان قد تهوى به الى مزبلة التاريخ ، لكن سلطان الكلمة هو الذى يصنع التاريخ " .. طبعا ان اكتب من الذاكرة وقد يكون فى العبارة بعض التصرف لكنها حول المعنى الذى اراده الراحل ..ولما كانت سلطان الكلمة هو الاهم ، حاولت ان تكون البداية مع هذه الزاوية مرتكزة على الكلمة لكن لاادرى مدى نجاحنا "صديقى باسم توفيق" و"انا" فى الدوران حول جانب من جوانب الحب.
*قال باسم توفيق :
: الحب هو عنوان التصاق كل الاشياء فى حيمية مفرطة ومفارقة لعالم الحس ..بشرط ان يكون الحب خالد .. وهذا يستوجب ان يكون حبا فى خالد ابدى سرمدى هنا يخلد الحب .
اما الحب المرتبط بالفانى فهو فناء فى فناء وانتهاء فى انتهاء .
*وقال عبدالكريم حشيش : الحب يبدأ حين يبدأ بالعيون وباستماعى لصوت ناعم وبالتخيل وبالظنون .. الحب عنوان افتراق فهل تعانق روحى روحى وهل تشاهد عينى عينى "مستحيل ".
الحب تعبير مثنوى .. الحب سيطرة تغالب . او صراع فيه مغلوب وغالب . الحب تعبير انانى .. يوغل كلانا فى احتسائه .. ركض فى ساحات الاخيلة والامزجة وباختصار . الحب سيد يسود وعبد ينتهى الى حيث العبيد . لكن العشق ربما فيه اختلاف .
*ملحوظة : الصديق باسم تو فيق هو مبدع يشتبك مع كل الفنون بعين التصوف وكاتب جميل فى صحيفة الراية القطرية .

من اقوالهم

الزاوية تحت التحديث

قرأت لــ اتعلم

عالمية آيات الأحكام (الرسالة) في عصر ما بعد الرسالات .... مقال مهم للدكتور محمد شحرور .......................... الدين الإسلامي هو الدين الوحيد الذي ارتضاه الله لعباده منذ أن بعث نوحاً حتى خاتم الرسل محمد (ص). وبما أن التوحيد هو رأس الأمر كله، فإن هذا الدين يتألف من ثلاثة فروع هي: القيم والشرائع والشعائر. 1 – بالنسبة للقيم (الأخلاق) فقد خضعت للتراكم منذ نوح حتى وصلت إلى الوصايا العشر (الفرقان) عند موسى (ع)، والحكمة عند عيسى (ع)، والفرقان عند محمد (ص)، وأضيف إليها أمور أخرى تحت عنوان (الحكمة) التي وردت في سورة الإسراء. وكل القيم هي قيم إنسانية عالمية، وهي العمود الفقري للإسلام. والحكمة لاتنقطع إلى قيام الساعة على ألسن الحكماء، وهي وحدها لاتحتاج إلى وحي ولا إلى قياس، وهؤلاء الحكماء ليس من الضروري أن يكونوا من خريجي المؤسسات الشرعية، أو من السادة العلماء الأفاضل. 2 – بالنسبة للشرائع، فقد كانت تأتي شرائع مختلفة على شكل رسالة أو رسالات متفرقة، كما عند هود وصالح وشعيب إلى أن اكتملت بشريعة كاملة لأول مرة عند موسى (ع)، وجاءت هذه الشريعة معدلة لعيسى (ع)، وأخيراً جاءت هذه الشريعة للرسول الأعظم (ص). وقد خضعت الشرائع هذه للتطور، لذا سميت هذه الشريعة عند موسى بالكتاب، أي أن الكتاب عند موسى وعيسى هو الشريعة فقط، ونرى في التنزيل الحكيم عن عيسى (ع) قوله تعالى (ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل) هذه البنود الأربعة مجتمعة هي الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد. أما الشريعة عند محمد (ص) فهي أم الكتاب، وما مفهوم الناسخ والمنسوخ إلا ليظهر التطور بين الشرائع، وليس ضمن الشريعة الواحدة، وعليه فإن الناسخ والمنسوخ المطروح في علوم القرآن التقليدية على أنه من الشريعة المحمدية هو وهم. 3 – الشعائر: وقد خضعت للإختلاف. فالصوم موجود عند كل الملل، وهو أيام معدودات، ولكن بالنسبة لأتباع الرسالة المحمدية، هذه الأيام المعدودات هي شهر رمضان. وكذلك الصلاة الشعائرية تختلف بين كل الملل. وقيمة الزكاة تختلف أيضاً. لهذا سميت الشعائر بأركان الإيمان، وأتباع الرسول محمد (ص) هم المسلمون المؤمنون. وفرع الشعائر هذا هو من اختصاص السادة العلماء الأفاضل، فليستفيضوا فيه ما شاؤوا، ولن نتعدى على اختصاصهم هذا. وكذلك فإن الدول وبناءها لاعلاقة له بهذا الفرع. والمجتمع يحتمل كل دُور الشعائر (العبادة) لأتباع الملل كلها بدون حقد أو تعنت أو استعلاء أحدهما على الآخرين. قلت في مقالي السابق أن الشريعة الإسلامية بما أنها الخاتم فيجب أن تكون متطورة عن الشرائع التي قبلها. وبما أن الشرائع التي قبلها إلاهية، ومع ذلك تم نسخها أو نسخ جزء منها، فيجب أن تكون هناك خاصية في الشريعة الإسلامية تجعلها قابلة للحياة في عصر ما بعد الرسالات وعصور التقدم في العلوم الطبيعية والإنسانية على أنها الخاتم. وهذه الخاصية غير موجودة في الشرائع ما قبلها ، فما هي هذه الخاصية؟؟ مع العلم أن القصص القرآني هو لتبيان هذه الفروع الثلاثة مع خط سيرورتها في التراكم والتطور والإختلاف والانتقال من المشخص إلى المجرد خلال النبوات والرسالات (وليس لتسلية النبي (ص) كما قيل) . لنبحث الآن موضوع الشريعة المحمدية، ولماذا هي عالمية وليست محلية وخاصية التطور موجودة ضمنها. إذا قارنا شريعة محمد (ص) بشريعتي موسى وعيسى نرى أن شريعة موسى وعيسى تحمل اسم “الكتاب” أي مجموعة من البنود التشريعية التي جاءت إليهما ولكن هذه التشريعات تحمل الطابع الزماني والمكاني “المرحلي التاريخي” من حيث الزمان والمكان “لبني إسرائيل”. لذا كان موسى رسول بني إسرائيل، وأرسل عيسى لبني إسرائيل لتعديل شريعة موسى. وهكذا نرى أن شريعة موسى وعيسى كانتا شريعة عينية، أي أن كل التشريعات التي جاءت إليهما تشريعات عينية مشخصة وأن مفهوم التجريد في التشريع لم يكن في رسالتي موسى وعيسى، لذا فقد وجه الله سبحانه وتعالى اللوم لبني إسرائيل لشدة تمسكهم بشريعة موسى عندما جاء عيسى وقال: (ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم). (آل عمران 50). ومن جراء هذا التمسك بشريعة موسى (الكتاب) ثم بشريعة موسى المعدلة برسالة عيسى، وعلى مر الزمن، أصبح هذا التشريع غير صالح، وخرج من الحياة تماما كما خرج من الحياة التفسير التوراتي للكون والإنسان، وبقي في الحياة منهما الفرقان فقط “الوصايا العشر”، حيث أن الفرقان عبارة عن أخلاق وليس تشريعا ولا تفسيرا للكون والإنسان. وجاء لمحمد (ص) تحت اسم (الفرقان) أيضاً. وقد انفصلت المسيحية عن اليهودية عندما ألغى بولس شريعة موسى وأبقى الفرقان فقط (الوصايا العشر) وحسناً فعل لأن هذه الشريعة لاتحمل الطابع الكوني وإنما هي محلية بدائية. أما بالنسبة لرسالة محمد (ص) فالوضع يجب أن يكون مختلفا تماما، حيث أن محمد (ص) خاتم الرسل بالإضافة إلى أنه خاتم الأنبياء فكما أن نبوته جاءت بشكل متشابه لكي تصلح لكل زمان ومكان فيجب أن تكون لشريعته خاصية ما، تميزها تماما عن الشرائع التي قبلها وتجعلها صالحة لكل زمان ومكان، وهذه الخاصية ليست خاصية التشابه (ثبات الشكل وحركة المحتوى)، وهذه الخاصية ينطبق عليها قوله تعالى: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين). (الأنبياء 107) وقوله تعالى: (قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا… الآية) (الأعراف 158). إن مشكلة الأدبيات الإسلامية والفقه الإسلامي التاريخي الذي هو من نتاج الإنسان المتعلقة بالشريعة هي أنها إلى اليوم لم تميز هذه الخاصية لكي تستعملها بيسر وسهولة وتكون مقنعة لغير المسلم، قبل أن تكون مقنعة للمسلم نفسه بأن محمدا (ص) رسول الله إلى الناس جميعا وهو رحمة للعالمين وأن الرسالة صالحة لكل زمان ومكان. إن إغفال هذه الخاصية جعل من التشريع الإسلامي تشريعا متزمتا متحجرا وحجب عنا فهم أسس الشريعة الإسلامية كما حجب عنا فهم السنة النبوية والسنة الرسولية على حقيقتهما حيث أن مفهوم السنة الذي قدمه لنا الفقهاء هو مفهوم خاطئ تماماً، لأن فهم السنة مرتبط بهذه الخاصية التي تتيح لنا وضع مفهوم معاصر متجدد دائما للشرع الإسلامي وللسنة النبوية، وبالتالي وضع أسس جديدة للتشريع الإسلامي وإعادة النظر بالأسس القديمة التي وضعها بشكل رئيس الإمام الشافعي. فإذا أردنا أن نقسم الرسالة إلى مواضيع رئيسية رأيناها تتألف من: 1 – الحدود. 2 – تعليمات عامة وليست تشريعات. 3 – تعليمات تحمل طابع المرحلية. هذه المواضيع كيف نفهمها ضمن منظور عام خاص بها حصرا يجعل من رسالة محمد (ص) رسالة صالحة لكل زمان ومكان أي متجددة دائما؟ هذه الخاصية لا يمكن أن نفهمها إلا إذا فهمنا صفتين أساسيتين متميزتين من صفات الدين الإسلامي بشكل عام، وهما من الأضداد حيث أن الحركة المستمرة بينهما تفرزها الإشكاليات الفردية والاجتماعية للحياة الإنسانية في مجال المعرفة وعلوم الاجتماع والاقتصاد والتي ينتج عنها دائما مجالات جديدة في التشريع كما ونوعا. هذان الضدان هما الحدود التي تحمل معنى الاستقامة (الثبات في القيم والشرائع) والحنيفية (المتغير) حيث يكمن فيهما تطور التشريع وبدونهما يستحيل فهم الدين الإسلامي فهما معاصرا والاقتناع بصلاحيته لكل زمان ومكان. فكما أن المتشابه فيه ثبات النص وحركة المحتوى ، فإن الشريعة فيها الاستقامة والحنيفية والثوابت في التعليمات الإلهية (حركة إنسانية ضمن النص والوقوف عنده أو عليه). (الاستقامة في حدود الله، والحنيفية هي الحركة ضمن حدود الله). فالاستقامة جاءت في قوله تعالى: (اهدنا الصراط المستقيم). (الفاتحة 6). وقوله: (قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين). (الأنعام 161). وقوله: (وإن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلك وصاكم به لعلكم تتقون). (الأنعام 153). وقوله عن موسى وهارون: (وهديناهما الصراط المستقيم). (الصافات 118). أما الحنيفية فقد جاءت في قوله تعالى: (إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين). (الأنعام 79). وقوله: (ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين). (الأنعام 161) وقوله: (فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون). (الروم 30). وقوله: (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكوة وذلك دين القيمة). (البينة 5). لاحظ قوله تعالى هنا: (وذلك دين القيمة). وقوله في سورة الروم: (ذلك الدين القيم). وقوله (حنفاء لله غير مشركين به). (الحج 31). وقوله: (ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا). (النساء 125). وقوله: (وأن أقم وجهك للدين حنيفا ولا تكونن من المشركين). (يونس 105). وقوله: (إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين). (النحل 120). وقوله: (ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا). (النحل 123). وقوله: (ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما). (آل عمران 67). وقوله: (قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا). (آل عمران 95). ونبدأ بـ “حنيف” فنقول: اشتق “الحنيف” من “حنف” وتعني في اللسان العربي الميل والانحراف، ويقال للذي يمشي على ظهور قدميه “أحنف” والحنف اعوجاج في الرجل إلى الداخل. وبما أن الحنف والخنف والجنف تشترك في صوتين وتختلف في صوت واحد فلها معان مشتركة، فالحنف الميل والانحراف في الرجل، والخنف الميل والانحراف في اللفظ حيث أن جزءا من الأصوات يميل نحو الأنف، والجنف الانحراف والميل في القسمة كقوله تعالى: (فمن خاف من موص جنفا). (البقرة 182). أما المستقيم والاستقامة فقد اشتقت من الأصل “قوم” وله في اللسان العربي أصلان صحيحان: الأول جماعة من الناس للرجال فقط وهي جمع امرئ، والأصل الثاني الانتصاب أو العزم، ومن الانتصاب جاء المستقيم والاستقامة “ضد الانحراف” وفيها مفهوم الثبات. ومن العزم جاء الدين القيم أي الدين القوي صاحب السيطرة، وجاء قوله تعالى لمعنى العزم والسيطرة في قوله: (قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين). (الأنعام 161). هنا نلاحظ أن عزم الدين وقوته وسيطرته تأتي بهاتين الصفتين معا الاستقامة والحنيفية حيث جاءتا معا في آية واحدة وأن قوة الدين الإسلامي تكمن في استقامته وحنيفيته معاً. قد يسأل سائل: كيف تكمن قوة الإسلام في هذين الضدين؟ إن الجواب على هذا السؤال هو ما يلي: يتولد من هذين الضدين مئات الملايين من الاحتمالات في التشريع وفي السلوك الإنساني العادي بحيث تغطي كل مجالات الحياة الإنسانية في كل مكان وزمان إلى أن تقوم الساعة. أما لفظة الحنيف بمعناها الطبيعي الكوني المباشر فنقول عنها: لقد جاءت في قوله تعالى: (إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين). (الأنعام 79). فهنا (حنيفا) حال والحال تصف الفعل وأول فعل قبلها هو فطر، ومنها جاءت الفطرة “القانون الطبيعي”. أي أن طبيعة السموات والأرض والوجود المادي كله في هذا الكون الثنائي هي طبيعة حنيفية متغيرة، فمن ناحية الحركة لا يوجد حركة مستقيمة في هذا الوجود المادي ابتداء من أصغر الإلكترونات إلى أكبر المجرات كلها لها مسارات منحنية “مائلة” ولا يوجد فيها استقامة لذا وضع صفة الحنيفية صفة أساسية للوجود المادي قاطبة، فالدين الحنيف هو دين منسجم مع هذا الوجود، وصفة “الحنف” هي صفة طبيعية فطرية، فإذا حمل الإنسان هذه الصفة في فطرته فهي تنسجم مع وجوده في هذا الكون. وهذه الصفة هي صفة الميل والانحراف في التشريع وفي الطباع والعادات والتقاليد والتي نقول عنها صفة التغير “المتغيرات”. فإذا كان الأمر كذلك فيجب أن يكون هناك ثوابت يحتاجها الإنسان في حياته وتشكل علاقة جدلية مع المتغيرات، وهذه الثوابت لا تخضع للتحول “مستقيمة” بل تنسب إليها المتغيرات. فهنا ظهرت حاجة الإنسان إلى الله ليدله على هذه الثوابت. حيث أن التحول والتغير موجود أصلا في طبيعته وهو قوي جدا في طبيعة الكون والمجتمعات، ولا يحتاج الإنسان لمن يدله عليه، ولكن يحتاج إلى من يدله على الثوابت لذا قال في سورة الفاتحة (اهدنا الصراط المستقيم). ولا يوجد آية تقول اهدنا إلى الحنيفية لأنها أصلا موجودة لذا قال عن الحنيفية: (فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله). (الروم 30) ولكن أمرنا أن نكون حنفاء ولا يعني أبداً أن “الثوابت” جاءت لتلغي المتغيرات بل لتشكل معها علاقة ديناميكية “الثنائية”، وهنا يكمن التفاعل بين الثابت والمتحول “المستقيم والحنيف” في الدين الإسلامي. فإذا سأل سائل: إذا كانت الحنيفية “التغير” موجودة في طبيعة الوجود، فما هي هذه الثوابت في التشريعات بالإضافة إلى الوصايا؟ حدود الله نبدأ بفعل ( حـدَّ ) هو أصل صحيح وتعني طرف الشيء والحاجز بين الشيئين، ولا يمكن أن يقال أن حد الشيء هو الشيء ذاته، فحد السيف طرفه وليس كل السيف ، أي أن هناك شيئاً له طرف أو طرفان أو أكثر أو حاجز بين أشياء. فعندما قال عن الصوم (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (البقرة 187): الطرف الأول: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ) يفصل بين الإفطار والصيام. الطرف الثاني : ( ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) يفصل بين الصوم والإفطار . وهذان الطرفان من الثوابت . وهناك حقل بين هذين الحدين هو الصوم وهو المتغير، فمدة الصوم متغيرة مع الزمان في مكان واحد ومتغيرة مع المكان في زمان واحد. فعندما نتكلم عن حدود الله في التشريعات يجب أن نبحث عن الحقول التي تحدها هذه التشريعات، إن كان في العقوبات أو الإرث أو محارم النكاح أو المأكولات أو الربا أو التعددية الزوجية أو لباس المرأة، كلها تقوم على نظرية الحدود هذه وذلك يضمن صلاحياتها في الزمان والمكان. فإذا أخذنا آية المواريث نرى أنها تقول (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ) في الآية وتقول (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ). نلاحظ أن هناك نوعين من الحدود كالصوم (حدود الله فلا تقربوها)، وكالإرث والطلاق (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ) وفي الطلاق (تلك حدود الله فلا تعتدوها). فما الفرق بين (لاتقربوها) و (لاتعتدوها)؟ لتوضيح ذلك نضرب المثال التالي : إذا كان لدينا حقل له حدود (سور) وهذا السور مكهرب ، نضع لافتة تقول (لاتقترب السياج مكهرب) أي أنه يجب أن لايمس السياج وأن يبقى مسافة أمان بينه وبين السياج. أما إذا كان السياج عادياً، فنضع إشارة تقول (لاتتعدَّ السياج) أي يحق للمار أن يمس السياج ولكن لايحق له تعديه إلى الطرف الآخر. فحدود الله التي قال عنها (لاتقربوها) مثل الصوم ، علينا أن نبقي مسافة أمان بيننا وبين هذه الحدود، وهذا ما سماه أهل السنة بالإمساك قبل الفجر بدقائق، وعند الشيعة بالإفطار بعد المغرب بدقائق. أي أن كل واحد منهما لم يقترب من حدود الله عن أحد أطرافها. وكذلك الزنا من حدود الله التي قال (لاتقربوها) (ولاتقربوا الزنا) وكذلك مال اليتيم ولا تقربوا مال اليتيم). أما حدود الله الذي قال لاتعتدوها فيمكن الوقوف عليها أو مسها ولكن لايمكن تجاوزها مثل الإرث. لذا يجب علينا أن نبين آيات الأحكام ونبين الحقل الذي يمكن التحرك فيه بدون أن نتعدى حدود الله، أي أن التشريع الإسلامي الإنساني يقف عند حدود ، ماسـّاً إياها أحياناً. وهذه الحدود تسمى حدود الله وهي الثوابت . حدود العقوبات آ – القتل: إن العقوبات الواردة في التنزيل هي من الحدود وهي حدود عليا للعقوبات، أو ما نطلق عليها في المصطلح الحديث أقصى العقوبات القانونية. فإعدام القاتل هو الحد الأعلى لعقوبة القتل وليس عين عقوبة القتل، يجب الوقوف عنده، ويمكن الوقوف عليه أحياناً، ولكن لايمكن تجاوزه. فهناك بلاد ألغـت عقوبة الإعدام، وهناك بلاد لم تلغ عقوبة الإعدام وكلاهما صحيح، لأنهما اتبعا الحنيفية. فالذي يطالب بإلغاء عقوبة الإعدام فإن طلبه صحيح، والذي يطالب بإرجاع عقوبة الإعدام فإن طلبه صحيح، وكلاهما ضمن حنيفية الإسلام. والذين يفعلون ذلك لايعلمون أن هذه الحنيفية هي الدين القيم ( فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لاتبديل لخلق الله ولكن أكثر الناس لايعلمون) فعندما ألغى البرلمان التركي عقوبة الإعدام كان ضمن حدود الله، فلا غبار على قراره، لأنه قرر أن يتوقف عند حدود الله لاعليها، وهذا القرار يحتاج إلى برلمان لا إلى فتاوى. ولكن أشخاصاً مثل هتلر وستالين وصدام حسين تجاوزوا حدود الله في عقوبة الإعدام، حيث مقابل شخص واحد أعدمت عائلة بأكملها. هنا نلاحظ أن الفطرة الإنسانية تأبى تجاوز حدود الله في العقوبات، ومجالس البرلمانات هي التي تقرر أين تقف في تطبيق عقوبة القتل، ولا علاقة للفقهاء بذلك . ب – السرقة: (السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ..) نرى عقوبة القطع هي الحد الأعلى لعقوبة السرقة. وتطبيق عقوبة الحد الأعلى تتم على المهني لذا قال (السارق والسارقة). أما في القتل فيكفي أن تقتل مرة واحدة لإمكانية أخذ حكم بالإعدام أو المؤبد، لذا قال تعالى (ومن يقتل). أما في السرقة لم يقل (ومن يسرق). فإذا فهمنا القطع فهماً بدائياً وحشياً فيعني (بتر اليد) . ومع ذلك فهي الحد الأعلى لعقوبة من امتهن السرقة. وإذا رأينا الآن كل أهل الأرض لاتطبق هذا الحد الأعلى فهم على حق، وهذا شأنهم وهم ضمن حنيفية الإسلام، ولا يوجد فيه تعدٍّ على حدود الله، والذي يقرر العقوبة هو مجالس التشريع ولا تحتاج إلى إفتاء أو علماء أفاضل. ومع ذلك فإن مفهوم البتر لليد هو مفهوم غريب، فكيف يقول (فاقطعوا أيديهما) وليس يديهما، ثم يقول بعد ذلك (فمن تاب فإن الله غفور رحيم) فما هي هذه التوبة بعد بتر اليد؟! نحن نقول بمفهوم حضاري إن من امتهن السرقة فيجب أن نقطع يديه عن المجتمع (كف اليد) وذلك بعزله عن المجتمع (السجن). وقد يصل إلى مدة مختلفة طويلة. في هذه الحالة نرى أن التوبة والمغفرة لها معنى . وقد ورد كثيراً في التنزيل الحكيم القطع بمعناه المجازي كتقطيع الأرحام (وتقطعوا أرحامكم) أو (قطع دابر الكافرين). ج – الزنا: وهو عقوبة عينية لذا كانت شروط إثباته مستحيلة، لأن العقوبة إلهية وشرط تطبيقها إلهي أيضاً وهي مستحيلة التطبيق، لكي لايضع شروط التطبيق بيد البشر، ولو وضع شروط التطبيق بيد السادة العلماء لشاهدنا يومياً حملات إعدام جماعية، والهدف هو منع الفاحشة العلنية (الزنا) أما الفاحشة غير العلنية فتبقى لضمير الإنسان. والدولة والقانون لاعلاقة لهما والإصرار على شروط تطبيقها يعني إلغاءها. وفي معظم بلاد العالم إن لم يكن كلها الفاحشة العلنية (الزنا – الجنس العلني) غير مقبولة اجتماعياً وقانونيا. أما ما يسمى عقوبة الرجم حتى الموت، فهي عقوبة جاءت في شريعة موسى ونسخت في شريعة عيسى قبل الرسالة المحمدية. الإرث: فيه حدود دنيا وحدود عليا وله بحث خاص (مثال على ذلك إرث الرجل من زوجته هو حد أدنى وإرث الزوجة من زوجها هو حد أدنى). الربا: فيه حدود دنيا وحدود عليا . التعددية الزوجية: فيها حدود دنيا وحدود عليا . محارم النكاح: فيه حدود دنيا فقط . الأطعمة: حدود دنيا . لباس المرأة: حدود دنيا وحدود عليا. فالحد الأعلى للباس المرأة هو تغطية الجسم ماعدا الوجه والكفين. والحد الأدنى هو تغطية الجيوب واللباس الطبيعي ما بينهما . هنا يجب أن نبين ما يلي: 1 – إن التشريع الإسلامي هو تشريع مدني إنساني ضمن حدود الله. 2 – إن البرلمانات هي التي تقرر التشريعات، وحدود الله واضحة في التنزيل، ولايحتاج التشريع الإسلامي إلى فتاوى. 3 – إن معظم التشريعات الصادرة من كل برلمانات العالم هي ضمن حدود الله، وفيها البرهان على حنيفية الشريعة الإسلامية. 4 – نحن بحاجة إلى الاستفتاء بدل الإفتاء، وإلى مجالس الشعب بدل مجالس الإفتاء. أي أن عهد الفتوى والإفتاء انتهى. والآن جاء دور المجالس المنتخبة والبرلمانات. مجلة روز اليوسف رابط المقال بموقع الدكتور شحرور : http://www.shahrour.org/?p=1371

القاهرة

القاهرة
الزميل الحبيب احمد ابوالمعاطى ومحمد حشيش فى نقابة الصحفين المصرين

قرأت لــ أتعلم


ذكورية المجتمع في التراث العربي الاسلامى ........................................
..............................................موضوع المرأة عموماً في التراث وفي المجتمعات العربية والإسلامية، من المواضيع المحببة إلي، فقد كان كتابي الرابع الأخير بعنوان ” فقه المرأة”.منذ شهرين تقريباً، ألقيت محاضرة في أحد منتديات دمشق، حول: أيهما أهم الإصلاح الديني الثقافي أم الإصلاح السياسي؟، انطلقت فيها من مثال أساسي. هو صدور مرسوم أميري بالكويت يسمح للمرأة الكويتية بدخول البرلمان، ثم عرض المرسوم على مجلس الأمة الكويتي المنتخب فتم رفضه. لقد رفض المجلس أن تدخل المرأة البرلمان. لقد ناديت في المحاضرة التي أشرت إليها بأن الإصلاح الديني الثقافي أهم كثيراً من الإصلاح السياسي. لأن ذكورية المجتمع مترسخة في العقل الاجتماعي العربي قبل أن تكون موجودة في الأنظمة السياسية. هناك خمسة مصطلحات بالفصحى في قواميس اللغة العربية تسيطر على العديد من جوانب حياتنا وسلوكنا، ليس لها أي وجود في كتاب الله تعالى، ولا في المراجع الدينية، هي: العرض، الشرف، المروءة، الشهامة، النخوة. فعند العرب الرجل له شرف والمرأة ليس لها شرف، والرجل له عرض والمرأة ليس لها عرض. بمعنى أن المرأة إن قامت بعمل مناف للأخلاق ذهب شرف أخيها وأبيها وانهدر عرضهما، أما إن قام الرجل بذات العمل فلا يتأثر شرف أمه أو أخته بذلك. فكيف يمكن والإسلام دين عالمي أن نسقط هذه المفاهيم على شعب مثل اليابان أو ألمانيا؟ في الوقت الذي لا وجود لها في قواميسهم ولا في فكرهم. وإن وجدت، فمعانيها ومدلولاتها تختلف عن مثيلتها عندنا. تلعب هذه المصطلحات – كما قلنا – دوراً أساسياً في حياة وسلوك جميع أفراد الشرائح والطبقات في المجتمع، بدءاً من زعيم الحزب الشيوعي ومروراً بزعيم القومية العربية وانتهاء بشيخ الأزهر. جميعهم أمام ما يتعلق بالمرأة يحملون العقلية البدوية. وبرغم كل شعاراتهم التنويرية أو التقدمية فموقفهم من المرأة واحد, زوجة وأبنة وأختاً وأماً. ومن هنا أذهب إلى القول بأنه دون إصلاح فكري ديني ثقافي، لا أمل لنا بتحقيق أي إصلاح سياسي. دون إعادة نظر في الثقافة السائدة، ودون الدخول في الخطوط الحمراء لمئات المحرمات التي تحكم حياتنا اليومية، دون تحليل لما أصبح اليوم عندنا من المسلمات، لا أمل لنا دون ذلك كله بتحقيق أي إصلاح سياسي. باختصار أقول: الفكر أولاً، والفكر ثانياً والفكر ثالثاً.المسلَّمات الوحيدة هي التي جاءت بكتاب الله تعالى، ولكن لما كان هذا الكتاب دليلاً إيمانياً وليس دليلاً علمياً يقبل به كل الناس، كالإحصائيات والنتائج المخبرية،فإن على أتباع الرسالة المحمدية أن يبرهنوا عملياً على مصداقية كتابهم، وهذا لا يتحقق إلا بالتفاعل المبدع بين العقل الإنساني والواقع الموضوعي من خلال النص القرآني، فإذا لم يحصل هذا التفاعل، فلا أمل لنا بحصول أي إصلاح. ثمة ثلاثة محاور في كتاب الله تعالى. الأول: الإقرار بذكورية المجتمع في زمن التنزيل، من قبيل الوصف وليس من باب الأمر بالذكورية أو تفضيلها كما توهم البعض. الثاني: الموقف القرآني من الذكر والأنثى. الثالث: تشريعات العلاقات الاجتماعية بينهما، في الزواج والطلاق والميراث والأحوال الشخصية وغيرها. في المحور الأول، يؤكد كتاب الله تعالى على أن المجتمعات الإنسانية عموماً والمجتمع العربي بشكل خاص، مجتمعات تسيطر عليها الذكورية، بقوله تعالى: (ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون * وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم * يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون) النحل 57 – 59. وبقوله تعالى (وإذا الموءودة سئلت * بأي ذنب قتلت) التكوير 8،9. وبقوله تعالى (أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثاً إنكم لتقولون قولاً عظيماً) الإسراء 40. في هذه الآيات وغيرها يوضح سبحانه أن الذكورية حقيقة اجتماعية قائمة في المجتمع العربي خاصة والمجتمعات الإنسانية عامة زمن التنزيل. المشكلة أن البعض فهم منها أنه تعالى يدعم الذكورية ويوصي بها، والبعض الآخر توهم أن الذكورية اختفت من المجتمع العربي بمجرد نزول الآية.أما على صعيد المحور الثاني وموقف التنزيل الحكيم من الأنثى والذكر، فنلاحظ أكثر الآيات تساوي بينهما في الثواب والعقاب والعمل والتكاليف. وذلك في قوله تعالى (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم) الحجرات 13. وقوله تعالى (ومن عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة) النساء 124. لابل إنه تعالى فضل الأنثى على الذكر مطلقاً، وذلك في قوله عن خبر امرأة عمران (فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى) آل عمران 36. والطريف أن سيطرة الذكورية على المفسرين قادتهم إلى فهم الآية فهماً مقلوباً، فزعم البعض أن التفضيل فيها للذكر، وزعم آخرون أن التفضيل للأنثى، لكن العبارة من قول امرأة عمران لا من قول الله تعالى على لسان جبريل. والمعروف في اللسان العربي أن المشبه به أفضل من المشبه في وجه الشبه، فنحن نقول ليس الأعمى كالبصير ونقول ليس الجاهل كالمثقف. وأما على صعيد التشريعات الخاصة بالمرأة، فعلينا أن ننظر إليها ونفهمها بعيداً عن الروح الذكورية السائدة التي حكمت فهم المفسرين والفقهاء لها. وعلينا أن نبين القصد الإلهي من هذه التشريعات كما هو في التنزيل الحكيم، لا كما جاءت في التراث لأن هذا شيء، وذاك شيء آخر. فالله تعالى يقول:- (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع وإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت إيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا) النساء 3.- (الرجال قوامون على النساء) النساء 34.- (واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن) النساء 34. - (فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان) البقرة 282. - (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين) النساء 11.وسأكتفي من هذه التشريعات بآية النساء 34 التي تحكم مسألة التعددية الزوجية. دون أن ننسى أن النص في كتاب الله تعالى نص مفتوح، أما ما جاء في الفقه التراثي فنص غير مفتوح، محكوم بقيود ومؤثرات الزمان والمكان. للنظر مثلاً فيما جاء بالحديث النبوي عن المرأة: - عن عبد الله بن عمر قال: سمعت النبي (ص) يقول: إنما الشؤم في ثلاثة الفرس والمرأة والدار (صحيح البخاري 2646). - عن عائشة أنه ذكر عندها من يقطع الصلاة فقالوا: الكلب والحمار والمرأة، قالت عائشة لقد جعلتمونا كلاباً (صحيح البخاري 481). - أما مسلم فيروي حديثاً للنبي رقم 4459 يقول (كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء غير مريم بنت عمران وامرأة فرعون). - عن أسامة بن زيد قال: قال (ص): (ما تركت بعدي فتنة هي أضر على الرجال من النساء) (صحيح البخاري 4923). - في مسند الإمام أحمد 17102 يقول: بينما كنا مع رسول الله في هذا الشعب، قال: أنظروا هل ترون شيئاً؟ فقلنا : نرى غرباناً بينها غراب أعصم أحمر المنقار والرجلين. فقال (ص): لايدخل الجنة من النساء إلا من كان منهن مثل هذا الغراب بين الغربان. - عن أبي هريرة عن النبي (ص) أنه قال: إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت فبات غضباناً عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح. - عن أم سلمة قالت: قال (ص): أيما امرأة ماتت وزوجها عنها راض دخلت الجنة (الترمذي 1081).- لا تصومن امرأة إلا بإذن زوجها (مسند الإمام أحمد 11335).- عن عمران بن حصين عن النبي (ص) قال: اطلعت في الجنة فوجدت أكثر أهلها الفقراء، واطلعت في النار فوجدت أكثر أهلها النساء. صحيح البخاري 3002). ولقد سألت بعض المتدينات المتشددات: لماذا الحجاب وكلكن في النار إذن؟!. - عن أبي هريرة عن النبي (ص) قال: لو كنت آمر أحداً أن يسجد لأحد، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها. (الترمذي 1079). - وفي الترمذي وأبي داوود والنسائي وابن ماجه أن النبي (ص) قال: خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها. وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها. - أما الإمام أبو حامد الغزالي فيقول في كتابه”إحياء علوم الدين”: للمرأة عشر عورات إذا تزوجت ستر لها الزوج واحدة، وإذا ماتت ستر القبر عوراتها كلها. قد يقول البعض : أنت تروي أحاديث نبوية قد تكون صحيحة، وقد لا تكون. أقول: المعيار هنا ليس صحة الحديث أو عدم صحته، إذ حتى الأحاديث الضعيفة تعكس ما هو شائع وسائد، فواضع الحديث يتعمد كي يقبل الناس حديثه ألا يضع فيه ما هو غريب وغير مألوف، ومن هنا فهو مفيد لنا الآن لتأكيد ذكورية المجتمع في العصر النبوي سواء أكان صحيحاً قاله النبي، أم غير صحيح لم يقله.نأتي الآن إلى التعددية الزوجية، لنجد أن كل صحابة النبي (ص) تزوجوا أكثر من واحدة، عدا صحابي واحد هو أبو عبيدة عامر بن الجراح. نأخذ مثلاً العشرة المبشرين بالجنة فنرى أنهم تزوجوا تسعين امرأة. أبو بكر تسعاً، علي بن أبي طالب تسعاً، عمر بن الخطاب تسعاً، عبد الرحمن بن عوف عشرين، وهذا عدا ملك اليمين. ولما كان جيل الصحابة هو جيل ” البروتوتايب ” أي هو الجيل المعياري الذي يقاس عليه، فإن الفقهاء لم يروا في التعددية الزوجية أمراً شاذاً، بل وجدوه أمراً عادياً شائعاً فتساهلوا فيه إلى آخر درجة، وراحوا يبررون هذه التعددية الزوجية. قالوا للرجل أن يتخذ زوجة ثانية إذا كانت زوجته الأولى لا تنجب. ونحن نقول فماذا لو كان الرجل لا ينجب؟ وقالوا للرجل أن يتخذ زوجة ثانية إن كانت الأولى مريضة. ونحن نقول فماذا لو كان الرجل مريضاً؟ وقالوا للرجل أن يتزوج مثنى وثلاث ورباع إن كان شبقاً، ونحن نقول فماذا لو كانت الزوجة شبقة؟ نأتي بعد هذا لننظر كيف جاءت التعددية الزوجية في كتاب الله تعالى. مع التأكيد على ما سبق إن قلناه من أن النص القرآني نص مفتوح غير مغلق على ذاته في تراكيبه، وعلى وجوب فهم معانيه من خلال خبرات واقعية حقيقية معاشة وليس من خبرات تاريخية زائلة لجيل مات، فعلينا أن نربط من خلال العقل بين النص والواقع، واقع الآن وليس واقع القرون الماضية. يقول تعالى: - (وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوباً كبيرا * وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا) النساء 2،3. اليتيم في اللسان العربي مفرد يدل على القاصر فاقد الأب صبياً كان أو بنتاً، أي القاصر الذي مات عنه أبوه وأمه حية. أما من ماتت أمه وأبوه حي فهو العجي، وأما من مات أبواه جميعاً فهو اللطيم. والأمر بنكاح المثنى والثلاث والرباع جاء في الآية جواباً لشرط هو الخوف من عدم الإقساط ليتامى.(وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى — فانكحوا ما طاب لكم..) والقسط في اليتامى هو البر بهم. والمسألة في غاية الوضوح: أنا أريد أن أبر أيتاماً فماذا أفعل؟ ويجيب تعالى: تزوج أمهم الأرملة، وخذ أيتامها معها لترعاهم، فإن خفت ألا تعدل بين أولادها وأولادك في البر، فاكتف بزوجتك الأولى الواحدة وبأولادك منها، وكذلك الأمر إن خفت العيلة، أي كثرة العيال التي تمنعك من البر والإنفاق عليهم كما يجب. وهذا ما يحصل حين يلتزم الرجل بالزواج من ثانية وثالثة ورابعة ويضم أيتامهن إلى أولاده. ثم يعود تعالى في الآية 127 من سورة النساء ليقول: - (ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتوهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن والمستضعفين من الولدان وأن تقوموا لليتامى بالقسط). وليقرر إعفاء الرجل من صداق النساء الأرامل ذوات الأيتام المذكورات في النساء 3، في حال زواجه منهن براً بأيتامهن. لكن الروح الذكورية والانطلاق من الترادف عند المفسرين التراثيين قادهم إلى اعتبار أن القسط هو العدل، وأن العدل المقصود هو بين الزوجات، وأن يتامى النساء هم النساء اليتيمات، علماً أنه لايوجد نساء يتيمات في الأصل لأن اليتيم بالتعريف هو القاصر والنساء هن الإناث البالغات، وإذا جاز وجود نساء يتيمات جاز معه وجود رجال أيتام وهو محال. أما ما توهمه المفسرون من عدل بين الزوجات فقد أشار إليه تعالى في موضع آخر بقوله (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة) النساء 129، أي عندما تتزوج امرأة ثانية وثالثة إكراماً لأيتامها فلا تدخل عليها كالضيف، وهذا كل المطلوب منك. وليس مطلوباً منك أن تعدل. ونفهم أن هذه الحالة بالذات غير قابلة لأن تنعكس. أي إذا ماتت امرأة رجل وقام بالزواج من أخرى بعدها، فهذه ليست تعددية. نقف أخيراً عند كلمة “النساء”. فهي جمع مفرده امرأة أو مفرده (نَسيء) أي المتأخر. ونلاحظ هذين المعنيين في آيات سورة النساء. فهي من جانب أول أحكام تخص المرأة، وهي من جانب ثان أحكام تأخر نزولها، فلم تنزل على رسول قبل محمد (ص)، أي أنها سورة المتأخرات. فأحكام الإرث مثلاً جاءت في سورة النساء، وهي أحكام لم يسبق وجودها في أي من الرسالات السابقة. أما الأحكام التي كانت موجودة في التوراة وفي العهد القديم فلم ترد في سورة النساء، بل في سور أخرى كالبقرة والمائدة والأنعام، ففي الأنعام مثلاً (151، 152، 153) نجد الوصايا العشر التي نزلت في ألواح موسى. أما أحكام سورة النساء فلم ترد من قبل كما قلنا في أي من الرسالات السماوية. ولقد وردت كلمة النساء بمعنى جمع نسيء في بضع من المواضع بالتنزيل الحكيم. يقول تعالى (زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والخيل المسمومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب) آل عمران 14. وإذا اعتبرنا كما اعتبر المفسرون التراثيون أن النساء هنا جمع امرأة، وقعنا في مشكلة، إذ أن الآية تقول (زين للناس) والناس فيهم الذكور وفيهم الإناث، فكيف يتفق أن يزين الله تعالى للنساء حب شهوات النساء؟ وكيف ينسجم أن يضع تعالى النساء جنباً إلى جنب مع الخيل والأنعام؟ ألا يذكرنا هذا بحديث عائشة؟ الصحيح كما نراه هو أن المقصود بالنساء هنا جمع نسيء أي المتأخر، وهو ما نعنيه اليوم بكلمة “الموضة”، فكل الناس اليوم ذكوراً وإناثاً يشتهون “آخر موضة”، ويشتهون أن يكون لديهم مثلاً سيارة مرسيدس 2003 بدلاً من القديمة التي لديهم. ومن هنا نقول أيضاً أن تطبيق آية التعددية الزوجية الواردة في سورة النساء تأخر حتى الآن ولم يطبق. والسلام عليكم. محاضرة للدكتور شحرور ألقيت في بيروت / لبنانمقر الهيئة اللبنانية لمناهضة العنف ضد المرأةبتاريخ 22 / 11 / 2002http://www.shahrour.org/?p=1389